كتب الإعلامي واصف عواضة:
عاشت والدتي مديداً حتى ملّت من حياتها، بعدما خطف الموت كلّ احبائها. لكنها عاشت عزيزة ورحلت عزيزة .
مات والدها السيد محمد هاشم الذي كان قدّيسها وراهب الضيعة، الذي نسجت الحكايات عن إيمانه وتقواه وورعه، وحفظت عنه الأدعية والآيات القرآنية، عن ظهر قلب، وهي التي لم تحسن القراءة والكتابة.
في عزّ صباها، فقدت نصفها الآخر، شقيقتها التوأم “علوية”، فكانت جرحاً لم يندمل.. ثم رحل اشقاؤها وشقيقاتها واحداً تلو الآخر، فاستعاضت عنهم بذريّة صالحة من الأبناء والأحفاد وأحفاد الأحفاد، فغدونا من حولها قبيلة من الحب والعطف والحنان.
كنت وحيدها الذي لم ينضب شوقها وحنانها وحرصها عليه. أشهد أنني في سنوات الحرب حمّلتها أكثر مما تحتمل من العبث الثوري الذي مارسته، حتى انتهى بي المطاف ذات يومٍ أسيراً في كيان العدو في حيفا. ولا أنسى ذلك اليوم الذي عدت فيه من الأسر، ونمت تلك الليلة ملء عيوني، لأفيق صباحاً وأجدها راقدة عند قدمي، فبكيت بكاء الاطفال.
احتضنت أم واصف ست بنات حفظن كرامتها ورعينها بشفرات العيون، وأنتجن لها ذرّية من العيار نفسه. لكنني أكون ظالماً وغير منصف، انا وخمس من شقيقاتي، إن لم نحفظ الجميل والعرفان لشقيقتنا السادسة “زينب” التي نذرت نفسها طوال ربع قرن من الزمن، وترهبنت لخدمة ورعاية والديها. سوف تفتقد زينب رفيقة دربها ربع قرن من الزمن، بعدما انفضّ شملنا عنها في أرجاء البلد.
غابت أم واصف مع غرّة شهر رمضان المبارك. قبل سنوات سبقها والدي في الشهر الكريم ايضاً.. ربما في ذلك عبرة الهية، فقد كانا كتلة من الإيمان، لم تنقطع صلواتهما وتقرّبهما إلى الله يوماً، فكان والدي شيخ الضيعة غير المعمّم، ووالدتي “شريفة الجدّين” وكان أترابها يتباركون برفقتها.
سوف نفتقد والدتي في بيتنا العتيق، وأكثرنا زوجتي نبيلة، ابنة شقيقتها، التي كانت تقضي الساعات تسامرها وتسايرها وترى فيها الأم التي فقدتها وهي طفلة صغيرة.
غابت التي كانت تجمع شملنا في آخر الاسبوع تحت شجرة التوت المعمّرة، أو حول “الصوبيا” في قرّ الشتاء. عهدنا أن يظل شملنا مجموعاً احتراما لذكراها الطيبة.
وداعا أم واصف، وإلى جنان الخلد يا أطيب الناس، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ونحن بدورنا، نتقدم من الصديق الطيب الإعلامي واصف عواضة، ومن شقيقاته والعائلة بأكملها، ببالغ العزاء راجين لهم الصبر والسلوان وللفقيدة واسع الرحمة…