تغطية كامل جابر
أحيا نادي الخيام الثقافي الاجتماعي ومجمّع الدكتور شكرالله كرم، بالتعاون مع المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، السبت في 26 آب 2023، مهرجاناً وطنيّاً ثقافيّاً تحيّة إلى الأديب الأستاذ حبيب صادق (1931- 2023) الأمين العام للمجلس الثقافي للبنان الجنوبي، الذي رحل بتاريخ الأوّل من تموز، الشهر الفائت، عن عمر حافل بالعطاء الشعريّ والأدبيّ والثقافيّ والإنسانيّ والسياسيّ والاجتماعيّ.
حضر المهرجان النائب الدكتور الياس جرادة والوزير السابق الدكتور كرم كرم ورئيس بلدية الخيام المهندس عدنان عليّان والفنانة أميمة الخليل وعائلة حبيب صادق ووجوه سياسيّة وثقافيّة وإعلاميّة واجتماعيّة وحزبيّة وبلديّة واختياريّة وحشد من أبناء الخيام والجوار.
الدكتور كرم كرم
تقديم من عضو الهيئة الإدارية في نادي الخيام الثقافيّ الاجتماعيّ الأستاذ أحمد حسّان. ثم كانت كلمة الوزير السابق الدكتور كرم كرم قال فيها: “عرفته منذ صغري، وهو كما رأيته وهو يافع، دماثةٌ تغلّف خلقاً رفيعاً، وتواضع يخفي علماً راسخاً، ورصانة تحفظ ثقافة واسعة. صادَق إن تودّد، وصادق إن تباعد. وهو في كلا الحالين قائم على مبادئ ثابتة، هي مزيج من تربية فضيلة معمّمة ودراسة أصيلة معمّقة.
ناضل في سبيل مُثل تعلّق بها ولم يساوم، ووقف في وجه الظلم والاستبداد ولم يُهادن، نصيراً للمظلومين وعضداً للفقراء والمحرومين.
في مسيرته هذه التي امتدّت لعمر حافل بالنضال، مليء بالجرأة والإقدام، رافق فيها مناضلين أمثاله، لم يتوانوا في الدفاع عن كلّ قضيّة حقّ ونصرة كلّ صاحب حقّ.
في أمسيات الخيام وفي أشهر صيفها الهادئ، كنت أنتظره مع ثلّة من رفاقه، يقفون قبالة دارة شكرالله كرم عصراً، بانتظار أن يفد إليهم، بعد أن ينتهي من علاج مريض يقصده، ويطلّ معهم وجه آخر طالما أحببت، إبراهيم عبّود الأشقر. مجموعة غنيّة بالعلم، متجذّرة بالمعرفة، شاملة بالثقافة، وسامية في الأخلاق. ويبدأ مشوارنا. أنا في آخر الرّكب، استمع إلى آراء نيّرة وتحاليل صائبة، وقصص ومواقف نادرة ومسلّية.
حتّى كان ذات يوم في انتخابات 1968، والنضال العربيّ على أوجّه، وحركات التحرّر تشتعل من المحيط إلى الخليح، وإثر حرب حزيران، التي ساهمت فيها مع كوكبة من الأطبّاء الشباب على الجبهة الأدرنيّة. رافقت الأستاذ حبيب وبدعم من حركة واسعة، على رأسها كمال جنبلاط، في لائحة تمثّل هذه المنطقة من الجنوب. ولكن إثر تحالفات سياسيّة تعدّتني ولم أعتد عليها، تركت ولم يُكتب للائحة النجاح.
تتتالى الأيام، وتمرّ السنون، وتتعاقب الحروب والثورات وتبقى هذه الصورة في مخيّلتي. زمنٌ جميل كان رغم الصّعاب. زمنٌ تميّز بالفكر والثقافة والنضال. تغذّى من تراب هذه الأرض الطيّبة وارتوى من عذب عطاءاتها وعاش أهلها الطيّبون، يتقاسمون أفراحهم ويتشاركون أتراحهم، عاملين معاً على بناء مستقبل أفضل لهم وللأجيال بعدهم.
من هذا الجيل المناضل كان حبيب صادق، حينما كانت الآمال أبعد من المنال، والأحلام بحجم وطن. وطن يستحقّه شبابه المميّزون وأبناؤه الكادحون. لم تذهب تلك الرؤى هباء، كما يخال البعض، وهم ربّما على حقّ، ولكنّي أؤمن أنّها جذوة، وإن خمدت، فهي حيّة في الأرض وحيّة فينا، لن يخفتها رماد المتحكّمين، ولا سطوة الفاسقين. ولا بدّ من يوم تكبر وتصبح ضوءاً ينير طريقنا، ومنارة نهتدي بها. تزيل الغمّ عنّا وترفع حجارة الفاسدين، الذين دمّروا لبنان، عن صدورنا.
نتذكّر اليوم حبيباً غاب عنا، ولكنّ فكره حاضر معنا وإخلاصه لجنوبه ووطنه باقٍ في أذهاننا.
أيّها الأحبّاء، وأنا أتطلّع في وجه كلّ واحد منكم، أرى شعلة ضياء، وتحضرني في هذا المجمّع صورة من أحببت وفقدت”.
المهندس عدنان عليّان
بعده كانت كلمة رئيس بلدية الخيام المهندس عدنان عليّان الذي قال: “فقيد الوطن والجنوب والخيام.. يليق به التكريم في مهرجان وطنيّ ثقافيّ في الخيام…
منذ رحيله، بحزن كتبت كلّ الأقلام.. وبأسى كانت “جنوباً ترحل الكلمات”.. لتكتب كلمات رثاء لمن كتب “كلمات للوطن والحرّيّة”.. ولكي تعطي شهادات بمن كتب “شهادات على حاشية الجنوب”.. ولمن جمع في كتابين الوجوه المضيئة في الفكر والأدب والسياسة والاجتماع..
يستحقّ هذا التكريم، الأديب اللامع الصادق الذي كرّس معظم حياته ونشاطه للعمل في المجلس الثقافيّ للبنان الجنوبيّ.. وشرّع أبوابه لكلّ أطياف المثقّفين والشعراء والكتّاب وعلماء الدين..
يستحقّ هذا التكريم، صاحب القامة الثقافيّة والإبداعيّة البارزة والمرموقة، النائب السابق، الأديب والشاعر والكاتب والباحث.. صاحب التاريخ الحافل بالأدب والعلم.. والوطنيّ الذي عمل من أجل الجنوب والدفاع عنه، وساهم في جمع ونشر وحماية التراث العامليّ الثقافيّ..
لم يرحل حبيب صادق.. هو حاضر في ذاكرة الناس، إنساناً من طينة الوفاء وتسهيل الأمور والمساعدة لكلّ من يقصده.. حاضر في ذاكرة كلّ الخياميّين.. في ذاكرة كلّ المشاركين في كلّ المحافل والهيئات الثقافيّة والأدبيّة.. حاضر في ذاكرة جبل عامل وجنوب لبنان، وكل لبنان والعالم العربيّ.. حاضر بمسيرته الحافلة الغنيّة.. بإرث فكريّ ثقافيّ لأجيال قادمة.. برصيد من الحبّ ستحلّق معه روحه في كلّ المناسبات مع كلّ المحبّين..
تحية وألف رحمة وسلام من الخيام.. من بلديّتها وكلّ أهلها.. لروح الحبيب الصادق.. ومن القلب أحرّ التعازي والمواساة لعائلته الكريمة.. لأهله.. لأصدقائه.. لكل محبّيه..
والشكر لنادي الخيام الثقافيّ الاجتماعيّ على هذا التكريم وهذه التحيّة الصادقة التي يستحقها الفقيد الحبيب الصادق”.
الكاتب والإعلامي طانيوس دعيبس
تلاه الكاتب والإعلامي طانيوس دعيبس بكلمة جاء فيها: “كيف نأتي إلى حبيب صادق، الواحد المتعدّد؟ لماذا أصلاً نأتي إليه؟
أغلب الظنّ عندي، في إجابتي على السؤال الأول، أنّ السياسيّ هو الرئيسيّ عند حبيب صادق.
نأتي إليه بما هو عليه من نموذج للسياسيّ الذي يندر أمثاله.
والسياسة هنا بمعناها النبيل، بما هي علم: علم المصلحة العامّة بالأخصّ، علم احترام إنسانيّة الإنسان، المواطن، لا ابن الرعيّة أو الطائفة أو المذهب أو العشيرة… نأتي إلى حبيب صادق عن طريق تبنّيه لمشروع وطنيّ كرّس له كلّ طاقاته السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة من دون أن يضيّع بوصلته. مشروع قوامه إعادة بناء دولة الحقّ، دولة العدالة والحرّيّة والديموقراطيّة.
نأتي إذن، إلى حبيب صادق عن طريق إشهارنا الاستمرار على هذا المسار. وقد آن أوان إشهار قوى التغيير، جميعها بدون استثناء، قناعتها بضرورة التقدّم في هذا المسار.
لن يسامح اللبنانيّون قوى التغيير إذا لم تتحمّل مسؤوليتها في مواجهة كتلة قوى الإنهيار الضارب بالبلاد. اللبنانيّون، بنسبة وازنة منهم، أشهروا رغبتهم في خوض هذه المواجهة، وهم يحتاجون إلى حاضنة.
عندما أقول أشهروا رغبتهم لا أقصد عدد النوّاب الذين أنتجتهم الثورة. أنا أتحدّث عن أكثر من ثلاث مائة ألف مواطن قالوا نعم للثورة في صناديق الإقتراع، أيّاً كان من ترشّح باسمها، وقد عكسوا بذلك حجم التحوّل داخل المجتمع اللبنانيّ. جميع هؤلاء، ومثلهم الكثير ممّن لم يقترع، لا ينتظرون من قوى التغيير أقلّ من أن تنتظم في جبهة للمواجهة، تحّدد الصراع بما يجب أن يكون عليه: جبهة قوى التغيير المتحالفة من جهة، وجبهة قوى السلطات المتحالفة من جهة مقابلة. هكذا تستعيد السياسة معناها. هكذا يصبح الصراع سويّاً بين قوى الجديد الناهضة إلى التغيير، وقوى القديم الساعي إلى تأبيد هيمنته.
تحتاج هذه القوّة الكامنة الكبيرة إلى أن يُنظر إليها على أنّها كتلة واحدة تسعى للانتقال إلى واقع سياسيّ اجتماعيّ مغاير. كتلة واحدة تستند إلى مرجعيّة سياسيّة واحدة لا إلى مجموعة تتنازعها وتشوّش عليها وتدفعها إلى اليأس.
الطريق صعب دون شكّ، ونعم نحتاج إلى إعادة النظر بأولويّاتنا.
نحتاج نعم إلى تعديل مقارباتنا ومفاهيمنا لطبيعة الأزمة العاصفة التي تضربنا. نحتاج نعم إلى التخفيف من حدّة الأنا القاتلة التي تعطّل قدرتنا على التمييز بين التناقضات، ما هو رئيسيّ منها وما هو ثانويّ يمكن تأجيله.
يمكننا أن ننتظم في جبهة واحدة ونتجاوز كلّ هذه المعوّقات، إذا قرّرنا الاستجابة لنداء ناسنا الذين يتوقون إلى الخلاص.
هكذا نأتي إلى حبيب صادق بأبهى صورة نراه فيها: صورة المناضل المهجوس بأمل التغيير.
أمّا لماذا نأتي أصلاً إلى حبيب صادق؟
لأنّنا، ببساطة، أكنّا ندري أو لا ندري، نرغب بالتفتيش عن نسخة أفضل لأنفسنا”.
الفنانة أميمة الخليل
وكانت كلمة للفنّانة أميمة الخليل فجاء بمضمونها: “تنسانا المدن بعد أن نأنس ضجيجها، فنعود إلى قرانا كما عاد حبيب صادق، تاركا لنا كلّ شيء ما عدا فرح الجرأة في كلمة نقولها، على طريق مواجهة القمع والإحتلال والعبوديّة المقنّعة بألف وألف قناع.
نرثي حبيب صادق بعد أربعين الوداع.
حبيب صادق..
دُعيت لأقول شيئاً في الذكرى، وما تردّدت رغم أنّ الصادق الحبيب فوق الكلام، ولا كلام سينصفه في الوصف وفي السيرة، إلّا أنّها المحبّة تتكلّم؛ عرفته في سنين مراهقتي أثناء رحلة فنّيّة لي مع فرقة الفنّان مرسيل خليفة، مارداً بطوله وبهدوئه. هدوءٌ فيه من التعبير ما يؤكّد أنّه يراني ويحترمني قبل أن يعرفني ويريد أن يعرفني وأن يعرف.
حضوره مؤثّر لدرجة أنّه يأخذك فوراً إلى التساؤل عن هدفك في هذا الوجود؟
ولا بدّ أن يكون جوابك جاهزاً عند لقاء حبيب صادق.
إذاً أنت أمام فكرٍ واسعٍ يحرّض الآخر أمامه على تحديد الهدف من الوجود وعلى البدء بفكرة في المسار ثم تنفيذها للصالحين العامّ والخاصّ.
نظرته تنفذ إلى عميق النوايا، هو الصدق وحده القادر على النفاذ إلى المتواري من أفكارنا وفي قلوبنا، يوجّهنا الى الفعل والفعاليّة باتّجاه الهدف مباشرة.
حبيب صادق من القلائل الذين بوداعتهم الحازمة يذهبون بك وتذهب بمعيّتهم إلى الكلّ، في المعرفة وفي الجمال وفي حسَنِ النتيجة.
حبيب صادق، يغيب عنّا ويبقى معنا، يبقى مثالاً في الحزم والهدوء والوداعة وفي فعاليّة الحضور ودوام الأثر.
يمتدُّ الحزن سحيقاً فينا ويمتدّ. ونجرُّ هممَنا جرًّا اليوم لنقول أنّهم كانوا وما زلنا. لنا مكان في هذا المشهد العجيب المزعزع. لنا مكان ندعّم أساساته التي بناها حبيب صادق وأقرانه لنتجنّب انهياراً مضافاً. قال الكثير وفعل الأكثر. أحببت حبيب صادق وأحبّه”.
الكاتبة نرمين الخنسا
بعد قصيدة عموديّة للشاعر الأستاذ مصطفى سبيتي كانت كلمة النادي الثقافي العربيّ في الراحل حبيب صادق ألقتها الكاتبة نرمين الخنسا (أمينة سرّ النادي) فقالت: “نقفُ اليومَ، على هذا المِنبر الكريم، مِنبر نادي الخيامِ الثقافيّ الاجتماعيّ، مُجمّع الدكتور شكر الله كرم، لنتشاركَ وإيّاكم كلمات التكريم والعزاءِ في الراحل الكبير الاستاذ حبيب صادق، الذي شكّلَ ظاهرةً ثقافيّةً وطنيّة الهوى الجنوبيّ، وأصيلةَ العطاءِ الفكريّ والثقافيّ والسياسيّ والشعريّ للبنان بشكل عام، وللعاصمة بيروت بشكل خاص.
ونحن إذْ نُمثّلُ النادي الثقافي العربيّ في الحديثِ في هذا المقام عن حبيب صادق، فإنّنا نتكلّم عن صديق وفيٍّ وشريك معنويّ في رفْد الساحة الثقافيّة على مدى عقود خلَتْ، من خلال دوره العريق في المجلسِ الثقافيّ للبنان الجنوبيّ الذي جعل منه صرْحًا للتلاقي بين الوطن والبلادِ العربيّة، وبين الاندية والمؤسّسات الثقافيّةِ اللبنانيّة، لا سيّما تلك التي أخذت على عاتقِها الارتقاء بالشؤون الثقافيّة والفكريّة والأدبيّة والفنّيّة، في لبنان، إنطلاقاً من بيروت التي تشكلُ رمزًا تاريخيًّا للحضارةِ العربيّة، ومِشعلاً رمزيًّا لمنارتِها.
لقد كان جُلّ همِّهِ مشروع الدولةِ اللبنانيّة، والعمل على صوْن الهويّةِ الوطنيّة، بحيث بذل جهودًا جبّارةً لم يَمَلَّ منها ولم يَكِلَّ، ساعيًا في مُختلفِ مراحلَ عمرهِ، إلى التعاون معَ الآخر المختلفِ عنه، كونه يساريَّ الانتماء، بعيدًا عن التخاصُمِ والتحارُب معَ الذين هم في المَقلبِ الآخَر منَ الانتماءاتِ السياسيّة والايديولوجيّة.
شهِد حبيب صادق المثقف والسياسي والشاعر والمناضِل الكبير، المراحلَ الصعبةَ التي مرَّ بها لبنان، منذ خمسيناتِ القرن الماضي ولغاية الأوّل من تموّز الماضي، أيّ يوم رحيله عن الدنيا وما فيها، وعن لبنان وما به من أزماتٍ لا تزال للأسف، تتوالدُ تحت قِبَبِ الخطر.
لقد خبِر راحلُنا الكبير طُرُقَ الصمود والتغيير، وذاق طعم الهزائمِ والخيبات، وأسهم في المحافظة على وجه لبنان الثقافيّ، ولم يألُ جُهداً معَ النادي الثقافيّ العربيّ ومع مؤسّسات ثقافيّة أخرى، في إقامة المؤتمرات الفكريّة والوطنيّة والثقافيّة والشعريّة التي تواكب مُتغيّرات المنطقة على الصُّعُدِ السياسيّة والامنيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والتكنولوجيّة، قارئاً بتمرُّسٍ أهدافَ هذه المتغيّراتِ ونتائجِها وما يمكنُ أنْ ينْجُم عنها من المنافع والمخاطرِ في الوقت عينه.
لقد خسِر لبنان ومعه النادي الثقافيّ العربيّ صديقاً عزيزاً وقامةً فكريّةً فذّة. خسِر كاتباً وباحثاً وسياسيًّا، جمَعتْهُ مع النادي الثقافيّ العربيّ قضايا الفكر الخالص التي اتّخذت إطاراً لها ندوات عُقِدت، ونقاشات صريحة أُجريت، وآراءً بنّاءةً إسْتولِدَت، فكان لحبيب صادق المبادر والمثابر مكانَه ومكانتَه في قلوب الذين عرفوه والتقوْه من أعضاء النادي، وهم كُثُر سيفتقدونهُ شعلةً مضيئة لن يخبُوَ نورُها، بل ستبقى متوهّجة في الوجدان”.
لقد كان الراحل العزيز كما تعرفون ويعرف الجميع، شاعراً من طرازٍ جَنوبيِّ الهوى والهويّة. وقد ردَّدت قصائدَه قُرى الجنوب وأودية لبنان وجبالُه. فهو القائل في قصيدته المسمّاة “أرضُ الجنوب”:
شُّدي عليكِ الجرحَ وانتصبي* عبرَ الدُجى رُمْحاً منَ اللهَبِ
يا ساحةَ الأنواءِ كم عَصَفتْ* فيها خيولُ الهولِ والرعبِ
فالأرضُ فيها وجهُ مَذبحةٍ * والجوُّ أمطارٌ منَ الشُّهبِ
لم يبقَ غصنٌ غيرَ مُنتهَبٍ * لم يبقَ وجهٌ غيرَ مُسْتَلَبِ
مهما قلنا في تكريمِ المناضل حبيب صادق، لنْ نفيَه في هذه العُجالة، مواردَه وأدوارَه على مرّ سني عُمُرِه الذي ترك من خلالها بصماتٍ دامغةً في الحقول الثقافيّة والفكريّة والنضاليّة والوطنيّة، وظاهرةً في دعم الأجيال اللبنانيّة الشابّة والإضاءة على مواهبِهم الواعدة في الميادين الأدبيّة والشعريّة والاعلاميّة كافّة.
حبيب صادق فارس من فرسان الوطن، ترجّل عن فرسه ولم يقع، تاركاً لنا وللأجيالِ الطالعة إرثاً ثقافيًّا وفكريًّا ورسماً بيانيًّا لبناءِ الأوطان.
رحِم الله الراحل الكبير حبيب صادق ورحم كلَّ منْ عمِل مثقالَ ذرّةٍ لخيرِ هذا الوطن.
في الختام أتوجّه بالشكر باسم النادي الثقافيّ العربيّ لنادي الخيام الثقافيّ الاجتماعيّ، مُجمَّع الدكتور شكرالله كرم رئاسةً وهيئة إداريّة وأعضاءً على دعوتهم الكريمة. واسمحوا لي أن أخصَّ بالشكر رئيسة النادي الأستاذة الصديقة وداد يونس .
رحِم الله الراحل الكبير حبيب صادق وأدام فكرَه ونبضَه الثقافيَّ في وجداننا على امتداد أعمارنا إنْ شاء الله”.
الإعلامي زهير دبس
كلمة المجلس الثقافي للبنان الجنوبي ألقاها عضو الهيئة الإدارية الإعلامي زهير دبس، فقال: “كلُّ الجهاتِ الجنوب… وجنوباً ترحلُ الكلمات.. لعلَّ هاتين الجملتين السحريَّتين، بدلالتِهما ورمزيِّتهما اللتين قالهما حبيب صادق ذات حبٍّ، تختصران علاقتَهُ بالجنوب والتي لا تُختصرُ بكلمات، فالرجلُ عاش زاهداً في حبِّ الجنوبِ وتاريخهِ وتراثهِ وقضاياه.
هنا حبيب صادق.. إضبطوا جهاتَكم.. حدِّدوها فنحن هنا محاطون بذلك المدى الذي رسَمهُ حبيب صادق، حيث كيفما قلّبنا النظرَ فيه يتراءى إلينا الجنوبُ.
جنوبُ حبيب صادق لا يُشبهُ جنوباً آخر، فهو مزروعٌ بالحبِّ مُسيّجٌ بالدّفِء، مسكونٌ بتاريخِ الجنوبِ وتراثِهِ وأرضِهِ ومياهِهِ وسمائِهِ.
في حضرةِ حبيب صادق نجتمعُ اليومَ، حيثُ الغيابُ بطعمِ الحضورِ والجهاتُ بنكهةِ الجنوب. لا ندري ماذا نقولُ في حضرة الحبيبِ الصادقِ، حيث تضيقُ كلماتُ التكريمِ، ولا تتَّسعُ التحايا.
لتكريمِ حبيب صادق في الخيام، معنىً مختلفٌ، فهنا أبصرَ النّورَ، وهنا اكتسبَ أبجديّةَ الحبِّ الأولى للجنوبِ وأرضِهِ. هنا ارتشفَ من ماءِ الدردارةِ، وهنا ارتحلت عيناه إلى ذلك المدى المترامي حيث فلسطين توأمُ الجنوبِ.
من الصعوبةِ بمكانٍ، أن تقرأَ حبيب صادق، ليس لأنّ الرجلَ عصيٌّ على الإحاطة، وهو كذلك، بل لأنّ التجذُّرَ العميقَ لسيرتهِ، وارتباطَها بشكلٍ لا يضاهيها فيها أحدٌ، بالثقافةِ والجنوبِ، هو الذي يجعل من الإحاطة أمراً صعباً، إذ قلَّما ارتبطَ إسمُ شخصٍ بمكانٍ وعنوانٍ، كما ارتبط إسمُ حبيب صادق بالجنوبِ وبالثقافةِ. فعندما يحضرُ إسمُ حبيب صادق سيحضرُ الجنوب بقوّة، وعندما يحضرُ الأخيرُ، لا بدّ أن يحضرَ حبيب صادق، هذا الارتباطُ السحريُّ الذي يعلو على المعنى ولا يستطيعُ مقاربته، ويمسّ الوجدانَ ولا يصلُ إليه.
كيف لحبيب صادق أن يختصِرَ كلَّ الجهاتِ بالجنوبِ، لا جهةَ سواه. لا ترحلُ الكلماتُ إلاّ إليه، تعانقُ الدردارةَ، وتمرُّ على بيدرِ النبطيّةِ، وتستريحُ هناك في برجِ بيروت. جنوباً ترحلُ الكلماتُ، إلى هناك تختبئُ خلفَ جدارِ القصيدةِ وبين عيونِ الأغنيةِ.
مع حبيب صادق ورفاقِهِ في منتصفِ الستينيّات، صارَ للثقافةِ في الجنوب مجلسٌ (المجلسُ الثقافيِّ للبنان الجنوبيّ) نذرَ حبيب صادق حياتَه له، ومن خلالِهِ الجنوب.
تحوَّل المجلسُ مع حبيب صادق، إلى اسمٍ على مُسمَّى، تجلَّى ذلك من خلال الغوصِ في التراثِ العامليِّ، وإعادةِ إحيائهِ وكتابتهِ، وتسليطِ الضوءِ عليه، تاريخاً وأدباً وشعراً وعلماء وأعلاماً. لم يتركِ المجلسُ بأمانة حبيب صادق، ناحيةً من نواحي الجنوبِ، إلّا وغاص فيها، كتابةً ونشاطاً ونشراً وندوات، وها هي مكتبةُ المجلسِ وقاعاتُه وجدرانُه في بيروت تشهدُ على ذلك.
يقولُ حبيب صادق في كتابه “حوار الأيام” الذي حاوره فيه الإعلاميّ طانيوس دعيبس، الذي ألقى كلمةً في الراحل منذ قليل: “ارتبطَ المجلسُ بعمري ارتباطاً عضويّاً لا انفكاكَ له، منذ أيامِ التأسيسِ إلى يومِنا الراهنِ. لذلك باتَ من المتعذَّرِ عليَّ، إن لم يكن من المستحيلِ، أن أحاولَ القفزَ فوقَ تاريخِ علاقتي بالمجلسِ في رواية سيرتي الذاتيَّة. فالمجلسُ احتلَّ موقعاً أساسيّاً في صلبِ هذه السيرةِ، كما شكَّل عنواناً بارزاً من عناوينها الرئيسيةِّ. وفي المقابل باتَ المجلسُ يُعرفُ بانقطاعي له، انقطاعاً رهبانيّاً، بحسب أقوال المتتبّعين لنشاطِهِ المتعدّدِ الوجوه، والمتواصلِ الحلقاتِ دونَ انقطاعٍ”.
مع حبيب صادق تحوَّل المجلسُ الثقافيُّ للبنانَ الجنوبيِّ، إلى معلمٍ ثقافيٍّ حقيقيٍّ، ليس على مستوى الجنوبِ فحسب، بل على مستوى لبنانَ وأيضاً العالمِ العربيّ. لقد أصبح المجلسُ بفضلِ حبيب صادق، بيتاً ليس فقط للمثقّفين، بل لجميعِ الشرائحِ الأُخرى، العاملةِ في الشأن العام، إذ من النادرِ أن تلتقي بأحدٍ من هذه الشرائحِ، لم يزُرِ المجلسَ، ولم يلتقِ الأستاذ حبيب، أو لم يشاركْ في نشاطٍ أو حضرَ ندوةً.
لم يكن عملُ ونشاطُ المجلسِ الثقافيِّ للبنانَ الجنوبِّي يوماً، حكراً على قضايا الجنوب ومقتصراً عليها، بل كان ذلك العملُ معطوفاً على القضايا الوطنيةِّ الكبرى، حاضراً فيها لا يغيبُ عنها، وقاعاتُ المجلسِ وأروقتُه، تشهدُ على ذلك من خلال مئات الأنشطةِ واللقاءاتِ، إن لم يكن أكثر، والتي كانت تُعقدُ باستمرارٍ وكان حبيب صادق محرّكَها وناظمَها.
تُسجَّلُ لحبيب صادق أيضاً، ديمومةُ عملِ المجلسِ، الذي يستمرُ بأنشطتهِ منذ عقودٍ ولا يزال، إذ لم نقعْ بين المنتدياتِ والجمعيّاتِ والمجالسِ الثقافيّةِ الكثيرةِ، المنتشرةِ في لبنان، على واحدٍ، أو واحدةٍ من تلك الهيئاتِ، استمرَّ عملُه، أو عملُها بشكلٍ دائمٍ ودونَ انقطاعٍ لفتراتٍ طويلةٍ، باستثناءِ المجلسِ الثقافيِّ للبنانَ الجنوبيِّ، الذي لم يزلْ منذ مُنتصفِ الستينيات، وحتّى اليومَ، والفضـلُ في ذلك يعودُ لحبيب صادق وللهيئةِ الإداريّةِ في المجلسِ.
يقولُ حبيب صادق في مقدّمةِ الكتابِ الذي يروي سيرَتَهُ “حوار الأيام”، والذي يربو على الألف صفحة: “عشرة أعوامٍ والملفُّ السمينُ في موقعه الثابت، على ظهرِ مكتبي في المنزلِ. لم يدُرْ في خلدي إطلاقاً، أن أُجهزَ عليه تمزيقاً أو حرقاً، لكن دارَ في خلدي، أن يتولَّى ورثتي معالجةَ هذا الأمرِ بعد رحيلي عن هذا العالمِ.. خصوصاً أنّي بتُّ اليومَ في أرذلِ العمرِ”.
لحبيب صادق في عليائه نقولُ: ما تركتَهُ إرثاً جميلاً لا يقوى أحدٌ على تمزيقهِ.. سيبقى عصيّاً على الحرقِ. لأمثالِك تنحني الجهاتُ لتصبحَ واحدةً.. لأمثالك ترتحلُ الكلماتُ لتصيرَ جنوباً.
لحبيب صادق تحيةً، ولروحهِ السلامَ”.
المحاميّة وداد يونس
كلمة نادي الخيام الثقافي الاجتماعي ألقتها رئيسته المحامية وداد يونس، وفيها: “في هذا الحفل الكريم، لا بدَّ لي من أن أفتتح كلمتي ببضعة أبيات من قصيدة لحبيب صادق بعنوان “سيّدة القلب العاشق”، منشورة في ديوانه “للوطن والحرّيّة” (وقد قام الفنّان خالد الهبر بتلحين وغناء هذه القصيدة في قصر الأونيسكو بمناسبة “الأسبوع الوطني من أجل الجنوب” تحت عنوان “صامدون أبداً”، وذلك بتاريخ 3 آذار العام 1979، بدعوة من المجلس الثقافي للبنان الجنوبيّ، -أيّ بعد عام من احتلال العدوّ الصهيونيّ للخيام واقترافه أبشع مجزرة بأهلها-
فالخيام بنظر حبيب صادق هي “أحلى صبيَّة”، إذ هو يقول في تلك القصيدة:
عام مضى يا خيامُ
عامٌ طويلٌ طويلُ
والقلب لا ينامُ
عليكِ منّا السلامُ
والحلمُ والكلامُ
ماذا تُراهُ يقولُ؟
يا سيّدة المدن المسبيَّة
يا أحلى صبيَّة
لما كنّا، بصفتنا “نادي الخيام الثقافيّ الإجتماعيّ- مجمّع الدكتور شكرالله كرم-“، بالتعاون مع المجلس الثقافيّ للبنان الجنوبيّ، نقوم بهذا الإحتفال الخاص بحبيب صادق، فإنّ ما نقوم به تكريماً لهذه الشخصيّة الثقافيّة اللبنانيّة العربيّة الإنسانيّة، العابرة للطوائف رغم نشأتها في بيئة دينيّة، التي انطلقت من جبل عامل امتداداً نحو الوطن، والتي مثَّلت، بنضالها من أجل الإنتصار للحرّيّات والديموقراطيّة، علامة مضيئة في الثقافة اللبنانيّة والعربيّة منذ ستينيّات القرن الماضي.
فحبيب صادق، منذ تبوّئه منصب الأمين العام للمجلس الثقافيّ للبنان الجنوبيّ في العام 1978، وانطلاقاً من اعتقاده بأنّ الثقافة ليست ترفاً بل هي ضرورة، وأنّها هي ذاكرة الشعب وروح الديموقراطيّة، وأنّ الإنسان بلا ثقافة كشجرة بلا ثمار، وبأنّه لا يوجد دولة يمكن أن تتطوّر حقّاً ما لم يتمّ تثقيف مواطنيها، قد جعل من هذا المجلس رافعة للثقافة الجنوبيّة التي برزت مع “شعراء الجنوب”، ونشر التراث العامليّ، وحوَّله (أيّ المجلس) إلى مساحة للثقافة اللبنانيّة والعربيّة والإنسانيّة، من أمسيات شعريّة وحفلات غنائيّة ومعارض تشكيليّة توّجت بمعرض “كل الاتجاهات جنوباً” الذي بات معرضاً سنويًّا يشارك فيه فنّانون وتشكيليّون من أنحاء العالم العربيّ؛ وأيضاً، مساحة حوار وتنوّع جمعت كلّ الأطياف وصولاً إلى تحوّله موقعاً لبنانيّاً عامّاً جمع مختلف الأدباء والفنّانين والمفكّرين، هذا فضلاً عن جعله القضيّة الفلسطينيّة في صلب إهتمامات المجلس، فكان المثقّفون الفلسطينيّون من الروّاد الفاعلين في عمله ومن بينهم ناجي العلي وغسّان كنفاني ومحمود درويش وغيرهم. وبهذا الصدد نلفت إلى إنّ هذا الإهتمام الحقيقيّ والمؤثّر لحبيب صادق وللمجلس الثقافيّ بالقضيّة الفلسطينيّة خوّلهما الحصول على جائزة الشرف من مؤسّسة محمود دوريش في دورتها الخامسة لسنة 2014.
ففي إحدى المقابلات معه يقول حبيب صادق: نحن في المجلس الثقافيّ للبنان الجنوبيّ، ويشّرفنا أن نحمل هذا العنوان المعبّر، إنّما نحن في عملنا الثقافيّ المتعدّد الصيغ والأشكال لم نكن نصدر فقط عن همٍّ جنوبيّ إلاّ بمقدار أن يكون هذا الهمّ الجنوبيّ جزءاً لا يتجزّأ من الهمّ الوطنيّ والقوميّ، من هنا أطلقنا على مجموعة شعريّة صدرت عن المجلس بعنوان “وكلّ الجهات الجنوب”. وقد صار هذا العنوان مقولة تحوّلت إلى شعار عربيّ متداول.
من “الخيام” في أرض الجنوب، هذه الأرض التي أحبَّها وعاش مهموماً بما أصابها من جراح، واتَّخذها عنواناً لإحدى قصائده حيث يخاطبها فيها بقوله:
“شدِّي عليكِ الجرح وانتصبي… عبر الدجى رمحاً من اللهبِ
يا ساحة الأنواءِ كم عصفت… فيها خيول الهول والرعبِ
أهلكِ لا سورٌ من الكذب.. أهلُكِ لا قناصةُ الرُّتَبِ
صدوا الرياح السود يحفزهم… جرح التراب وأنَّةُ العشب…”
ومن “نادي الخيام الثقافي”، نَعِدُ حبيب صادق بأنّنا سوف نكمل الحلم والكلام، ونردُّ عليه التحيّة قائلين: عليكَ منّا السلام”.
الدكتور محمد علي صادق
كلمة العائلة ألقاها ختاماً الدكتور محمّد علي صادق، وفيها: “أيّها الأحبّاء، أحبّاء حبيب صادق، اسمحوا لي في البداية، أن أتوجّه بالشكر الجزيل إلى نادي الخيام الثقافيّ الاجتماعيّ على هذه المبادرة الكريمة الجامعة لتكريم علم من أعلام هذا الوطن الأديب الاستاذ حبيب صادق.
هذا النادي الذي احتلّ مكانة كبيرة في قلبه، حيث كان يتابع اخباره بدقّة متناهية وينشرح صدره لنجاحاته ولا يبخل عليه بكلّ دعم ممكن.
حين التكلّم عن حبيب صادق تتسابق الكلمات الرائعة والمشاعر الصادقة لتصف شخصيّة فذّة، نادرة، إنسانيّة حتّى الأعماق، رائعة حتّى السموّ، جذّابة حتّى العشق. إنّك لا تعرف متى تنتهي وأيّ خصلة من خصاله تتناول بالحديث وأيّ موقف تسرد. إنّه يجسّد أسمى معاني النبل والأخلاص والعطاء.
لم يعرف الكره والبغضاء، كان راقياً في تعامله، لا يكنّ إلّا الحبّ والصدق. تميّز بدماثة خلقه ولطفه ورقّة إحساسه وجمال منطقه. كانت كلمة “يا عزيزي” لا تفارقه، تضفي إنسا ً وودًّا على محادثته. فيه اجتمعت كلّ الصفات النبيلة حتّى اسمه! إنّه الحبيب الصادق.
إنّه الأديب والشاعر الذي ولد في بيت شعر ودين وأدب، ومن والد كان له حضوره المميّز في جبل عامل كرجل دين مجتهد وخطيب وشاعر، فتمرّس باللغة العربيّة وأتقنها. فكان ملك الكلام والبلاغة والمحدّث اللبق.
إنّه الجنوبيّ، العصاميّ، المناضل، ابن الخيام والنبطيّة، إنّه المجبول بحبّ الجنوب والعاشق لكلّ حبّة تراب من ترابه، والحالم بتحرّره وتطوّره. قارَع الاقطاعَ ولم يساوم ولم يهادن وحافظ على استقلاليّته. إنّه المقاوم الذي اعتبر قضيّة فلسطين بوصلة العمل المقاوم كما اعتبر أنّ مقاومة الاحتلال خطّاً أحمر لا حياد عنه، ويجب أن تتمّ بكلّ الوسائل حتّى التحرير. وأنّ للقلم دوراً هامًّا يواكب حمل السلاح في وجه العدو، فعشق كلّ مقاوم. وكان الجنوب وصمود أهله ومقاومة العدو الصهيونيّ محور كتاباته وندواته وأعماله ومواقفه. فكانت عديدة كتاباته ومقالاته وكتبه عن الجنوب.
فمن روائع كتبه:
“جنوباً ترحل الكلمات”، “كلّ الجهات الجنوب”، “شهادات على حاشية الجنوب”، و”للوطن والحرّيّة” وغيرها… أمّا الجنوب في شعره:
هو الجنوبُ، عِنادُ الصخرِ، والغضبُ والتضحياتُ البكارى والدمُ السَربُ
الموقفُ الشهمُ مهما اشتدت الكُربُ وجدَّ في بطشهِ المسعورِ مغتصِبُ
أو حاولت سَوقَهُ في ركبها فئةٌ شعارها النهبُ والبهتانُ والكذبُ
يبقى الجنوبُ كتابَ الدهرِ، عابقة به الشهامةُ وهاج، به، الغضبُ
تختال في متنه الأجيالُ شامخةً يحدو الاباءُ بها والبذلُ والادبُ
يا اخوتي، يا رفاق الدربِ، مسكنكُم هذا الفؤادُ وان حلت به النوبُ
إنّه اليساري والتقدّميّ بامتياز، حارب الطائفيّة السياسيّة وعمل جاهداً من أجل وطن واحد حرّ مستقلّ لا تميّز بين ابنائه، فالتزم قضايا الناس وحقوق الإنسان وكرامته.
إنّه المقدّر للمرأة ودورها وحقوقها والمشجّع لها للتعلّم وتبوّء المراكز المرموقة.
في مطلع حياته كتب عدداً من المسلسلات الرائعة للإذاعة اللبنانيّة ونشر المقالات السياسيّة والأدبيّة في العديد من الجرائد.
واكب اتّحاد الكتّاب اللبنانيّين فكان أميناً للسرّ، وجهد لأن يكون للاتّحاد دوراً رياديّاً في اتحاد الكتّاب العرب، وفي مساهمته في اتّحاد الكتّاب الآسيويّ الأفريقيّ. شارك في الكثير من المؤتمرات ومهرجانات الشعر التي كانت تنعقد بشكل دوريّ في أكثر من بلد عربيّ.
كما واكب المجلس الثقافيّ للبنان الجنوبيّ حوالي نصف قرن، فكان أميناً عامًّا له، فجعل منه منبراً مهمًّا وركنا أساسيًّا في الحركة الثقافيّة اللبنانيّة والعربيّة. ربط المجلس بين النشاط الثقافيّ والعمل الوطنيّ، فساهم في بلورة القضيّة الوطنيّة الأولى في تحرير لبنان من رجس الاحتلال الاسرائيليّ والعمل على وحدته وعروبته، وهكذا زخر المجلس بالانشطة السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، فاقيمت مئات الندوات والمعارض للّوحات الفنّيّة وخاصّة التي تتناول مقاومة الاحتلال والنضال من أجل التحرّر.
كما جعل المجلس يحتضن حركة شعراء الجنوب ويدعمها ويؤمّن لها التسهيلات اللازمة، وكان منبراً لامسياتهم الشعريّة، فأبدع الكثيرون منهم.
عمل على توثيق وحفظ التراث العامليّ فانشأ مكتبة مهمّة في المجلس أصبحت مرجعاً مهمًّا في كتابة العديد من الأبحاث والأطروحات. لقد كان يشجّع كل ذي فكر وأدب على الكتابة ويحتضنه في المجلس الثقافيّ للبنان الجنوبيّ وقد تمكّن المجلس من إصدار أكثر من 70 كتاباً.
لقد استطاع أن يعزّز التواصل مع المجالس والمنتديات الثقافيّة على مساحة الوطن. كما امتدّت علاقاته وصداقاته إلى العديد من الدول العربيّة والأجنبيّة لتشمل عدداً وازناً من الهيئات الثقافيّة العربيّة.
لقد سخّر حياته للشأن العام ولم ينسَ الخاص. فخلال وجوده في وزارة الصّحّة حيث كان يشغل رئيس مصلحة الموازنة، كان مقصداً لأصحاب الحاجة للخدمات الطبّيّة، كما عمل جاهداً لتنفيذ العديد من المشاريع في قرى الجنوب من مستوصفات ومستشفيات مثل مستوصف الخيام الذي دمّرته اسرائيل ومستشفى الفنار لمعالجة الأمراض العقليّة والنفسيّة والعصبيّة وغيرهما الكثير.
كما استطاع أن يؤمّن العديد من المنح الدراسيّة الجامعيّة في الخارج وساعد أعداداً كبيرة من أصحاب الحاجة على العمل وتأمين الرزق.
دخل الندوة البرلمانيّة، فكان يتعمّق بالدراسة والتحضير لمناقشة مشاريع القوانين التي تطرح في المجلس النيابيّ علّها تلبّي حاجات هذا الشعب. وكان يصدح بصوت المحتاجين والمطالبين بحقوقهم وأساتذة الجامعة اللبنانيّة والمثقّفين، حاملاً هموم الناس ومستلزماتهم الحياتيّة وتطلّعاتهم لعيشة كريمة. ولا أنسى قوله لي في أكثر من مناسبة حين سؤالي عن الجديد من المشاريع التي يحاول الاستحصال عليها للجنوب: “يا عزيزي لا أريد أن اذكّرك بأن تبقي حديثنا عن هذا المشروع سرّيّاً لئلّا ينكشف أمره فيوقف”. رغم ذلك كان عنيداً، جريئاً، لا يستكين ولا يستسلم.
لقد حارب الفساد بصلابة وثبات وكانت بعض الندوات التلفزيونيّة بالبثّ المباشر أصدق تعبير عن ذلك.
إنّه حبيب صادق صاحب المؤلّفات العديدة من شعر وأدب وقصص. لقد آمن بالصمود والانتصار وكتب القصائد الرائعة والأغاني الثوريّة الجميلة التي غنّاها مرسيل خليفة وأميمة الخليل وخالد الهبر.
من روائعه قصيدة “شدي عليك الجرح وانتصبي، عبر الدّجى رمحاً من اللهب” التي لحّنها مرسيل وغنّتها أميمة.
يا عزيزي أيّها الحبيب الصادق، ستبقى الملهم والمثال، ستبقى يا عزيزي الحبيب الصادق.
إنّ الكمّ الكبير من المقالات التي كتبت خلال الأسابيع الماضية والتي تزخر بالوفاء والحبّ والتقدير لشخص الحبيب الصادق تجعلنا نشعر بالاعتزاز بأنّ هذا الوطن لا يزال يحوي الكثيرين من أصحاب الوفاء والنبل والأخلاق الحميدة.
أخيراً، لنادي الخيام الثقافيّ الاجتماعيّ بهيئته الاداريّة واعضائه، ألف شكر وتحيّة ولرئيسة الهيئة الإداريّة، صديقة الطفولة المحاميّة البارعة العزيزة وداد يونس كلّ الشكر والودّ والتقدير على هذا التكريم.
وإلى كلّ من حضر، أو اتّصل، أو تراسل الكترونيًّا أو كتب، له منّي ومن كلّ فرد من عائلة آل صادق كلّ الحبّ والتقدير والشكر”.
وعلى هامش المهرجان رسم الفنان نزار فاعور لوحة بورتريه زيتيّة للأديب الراحل حبيب صادق.
وجرى توزيع بطاقة بريديّة تذكاريّة للوحة أكواريل بّورتريه مرسومة من الفنّانة التشكيليّة الدكتورة خولة الطفيلي، على الجضور وكذلك طابعاً بريديّاً يحمل اللوحة عينها من تصميم الإعلامي كامل جابر.
تصوير صباح عبّاس