محمد نزال
كانت قناة «المنار» تبثّ، قبل نحو 20 عاماً، نشيداً أقرب إلى الرثاء، ما عادت تبثّه، وفي كلماته: «آه يا زينب لو أنتِ غير فتاة لبنانيّة، آه لو بالأمس قُتِلتِ في مزرعة صهيونيّة، لرثتك الدنيا، وبكتكِ كلّ الهيئات الدوليّة، لكنّكِ يا زينب أنتِ… رقم ببلادٍ منسيّة». كانت تلك زينب سلمان، الطفلة، التي قُتِلَت بقصف إسرائيلي أصاب حافلة تقّلها مِن المدرسة إلى المنزل. حصل ذلك في مدينة النبطيّة عام 1994. إنّه يوم الاعتدال الربيعي، ظهراً، يوم عيد الأم في 21 آذار. كانت زينب تحمل بيدها وردة، ستُقدّمها لأمّها في عيدها، عندما تصل، فلم تصل. ثيابها، حقيبتها، أشياؤها، تلوّنت بالأحمر إلا الوردة في يدها… هي حمراء أصلاً. لم تكن الفتاة وحدها على متن تلك الحافلة الصغيرة. كانوا نحو 20 طفلاً. قاسم وهبي، الطفل، كان في الحافلة. التحق بزينب. كان أيضاً يحمل بيده وردة حمراء لأمّه. يقول النشيد: «أرعبهم أنّك يا قاسم قد تكبر يوماً وتقاوم، شُلّت أيدٍ صهيونيّة تقذف حمماً أمريكيّة، تذبح أزهاراً وبراعم… تذبح زينب تقتل قاسم». سائر الأطفال أصيبوا. تراوحت أعمارهم ما بين 3 سنوات و12 سنة. كانوا كلّهم يحملون الورود لأمهاتهم، هديّة، وكأنّهم كانوا يحملونها زينة لنعوشهم.
مشاهد تلك المجزرة أثارت المخرج جان شمعون. ضمّنها فيلمه «رهينة الانتظار». لم يكن بحاجة إلى إعادة تمثيل. كانت المشاهد حيّة. صورة تلك الطفلة، الجريحة، تنزف عينها وقد تلطّخ «مريولها» بدمها… لعلها أكثر الصور ارتباطاً بذاكرة مَن شاهد ذاك الشريط. تلك الصورة أصبحت لاحقاً، على مدى سنوات، رمزاً لذكرى المجزرة. وذاك الطفل الذي يبكي، يتلوّى، فيما يسعفه أحدهم وقد ثَقبت شظيّة جبينه. يجهش منادياً: ماما، ماما. أين كانت أمّه وقتذاك؟ لن يطول الوقت ليصلها الخبر. تلتقط كاميرا المخرج شمعون لحظة اختناق راوية فيلمه، الطبيبة ليلى نور الدين، بعبارتها التي سكبتها أخيراً: «بكلّ بيت بالجنوب في أم عم تنحرم مِن أحلام ولادها. كان ممكن ابني يكون واحد مِنهم».
حافلة صغيرة لونها أصفر. صورتها وهي مهشّمة حفرت طويلاً في ذاكرة جيل. يُحكى أنّ فتى التحق بالمقاومة، بعد رؤيته لذاك الطفل الجريح (ماما، ماما) تحديداً، وقد أضافت تلك الموسيقى الحزينة للنشيد في نفسه مزيداً مِن الأسى. أمضى سنوات في قتال المُحتل، قبل أن يُصبح هو شهيداً. هذا بعض مِن أثر الصورة وفعلها. كذلك أثر النغم التراجيدي. ذاك الفتى، عندما أصبح عشرينيّاً، كان يُردّد قبل رحيله هذه الحكاية على مسامع أصدقائه.
كيف لنا أن ننسى، إن كنّا ننسى، وسيل المجازر يُكرّر نفسه على نحو التطابق. فبعد أكثر مِن 24 عاماً، وفي مكان آخر، اسمه ضحيان أو الدريهمي في اليمن، تُرتَكب مجزرة تلو مجزرة، لتحفر عميقاً في ذاكرة جيل لا بل أجيال. سنحتاج، هذه المرّة، إلى أنّ نُعدّل قليلاً في كلمات النشيد: «شُلّت أيدٍ سعوديّة تقذف حمماً أمريكيّة». ربّما جاز أيضاً إبقاء النص على ما هو عليه: «أيدٍ صهيونيّة». الأطفال لا تعنيهم فلسفة التسميات. حافلة مليئة بالأطفال تُقصَف. أبيد مَن كان فيها. مجزرة ضحيان، قبل مجزرة الأضحى (الدريهمي)، كانت أوجع مِما حصل في أختها النبطيّة، في العدد والتفاصيل، إنّما في مشهديّة واحدة. كان هذا قبيل عيد الأضحى بمثابة «عيديّة» لليمن. صور حقائب الأطفال، زرق اللون، مرميّة خارج الحافلة وقد تلطّخت بدماء الصغار، وكذلك كانت حقائب أطفال النبطيّة… لونها أزرق. عجيب هذا التشابه. حقائب أطفال اليمن، الفقراء بداهة، مكتوب عليها «يونيسيف». هي تقدمة مِن «منظّمة الأمم المتّحدة لإغاثة الطفولة». إغاثة! بيان المنظّمة المُستنكِر جاء فيه: «إنّنا نشعر بالرعب مِمّا حصل». الأمم المتّحدة كانت ولا تزال موجودة في جنوب لبنان. كانت أيضاً تُقدّم «إغاثة» للأطفال… على شكل حقائب زرق وما شاكل. أطفال النبطيّة كانوا في طريقهم إلى منازلهم مِن مدرسة «فريحة الحاج علي النموذجيّة». كانت مجزرة نموذجيّة أيضاً. مركز «الصليب الأحمر» ليس بعيداً عن مكان المقتلة في المدينة اللبنانيّة. المؤسسات الدوليّة دوماً شاهدة.
عاشت هذه المنطقة، بمختلف أقطارها، الكثير مِن المجازر، وربّما ظنّنا أنّنا اعتدنا الأمر، وقد اعتدنا فعلاً… إنّما بالأطفال! تبقى هذه، مهما تبلّدنا، مِن صنف خاص. مجزرة صافيّة بقتل الأطفال. فقط أطفال. لا يزال هذا يحدث في العالم (عالمنا). ليس الحديث عن أطفال قُتلوا، عن طريق الخطأ، إلى جانب كبار كانوا المستهدفين. لا، حافلة لا يوجد فيها سوى أطفال. المشهد نفسه بين صعدة والنبطيّة. أيكون قاتل الأطفال عادة قد أنجب أطفالاً؟ أيُنجِب لاحقاً؟ أيعيش بيننا؟ أسئلة طفوليّة، صحيح، كما لو كان لنا أن نستصرح مَن تمزّقت أجسادهم الطرية. ما بين النبطيّة العامليّة، وضحيان في صعدة اليمن أكثر مِن دماء سالت في مشهديّة واحدة. لجبل عامل مِن اليمن أكثر مِن قبيلة عاملة اليمنيّة التي نزلته قديماً. لهمدان المتبخّرة في كُتب التاريخ مَن فكّ بعض لغزها، إذ ذابت في بلاد الشام على وسعها، بتعاقب القرون، ليعود الدم ويجمع ما بين آلاف الفراسخ… وكذلك المصير.
ويعود ذاك النشيد، الذي ما عادت بثّته «المنار» منذ كثير مِن السنوات (ربّما لتوالي المجازر)، ليختم: «الباص تفجّر فانتثرت أشلائي، محفظتي احترقت، وورودٌ في العيد هديّة، عفواً معذرة يا أمّي… كان الورد إليكِ هديّة. سفكوا في يوم العيد دمي، فخذيني في العيد هديّة. صبراً ووداعاً يا أمّي، يا أغلى مَن في البشريّة، صبراً، صبراً، صبراً يا نبطيّة».
مشاهد تلك المجزرة أثارت المخرج جان شمعون. ضمّنها فيلمه «رهينة الانتظار». لم يكن بحاجة إلى إعادة تمثيل. كانت المشاهد حيّة. صورة تلك الطفلة، الجريحة، تنزف عينها وقد تلطّخ «مريولها» بدمها… لعلها أكثر الصور ارتباطاً بذاكرة مَن شاهد ذاك الشريط. تلك الصورة أصبحت لاحقاً، على مدى سنوات، رمزاً لذكرى المجزرة. وذاك الطفل الذي يبكي، يتلوّى، فيما يسعفه أحدهم وقد ثَقبت شظيّة جبينه. يجهش منادياً: ماما، ماما. أين كانت أمّه وقتذاك؟ لن يطول الوقت ليصلها الخبر. تلتقط كاميرا المخرج شمعون لحظة اختناق راوية فيلمه، الطبيبة ليلى نور الدين، بعبارتها التي سكبتها أخيراً: «بكلّ بيت بالجنوب في أم عم تنحرم مِن أحلام ولادها. كان ممكن ابني يكون واحد مِنهم».
حافلة صغيرة لونها أصفر. صورتها وهي مهشّمة حفرت طويلاً في ذاكرة جيل. يُحكى أنّ فتى التحق بالمقاومة، بعد رؤيته لذاك الطفل الجريح (ماما، ماما) تحديداً، وقد أضافت تلك الموسيقى الحزينة للنشيد في نفسه مزيداً مِن الأسى. أمضى سنوات في قتال المُحتل، قبل أن يُصبح هو شهيداً. هذا بعض مِن أثر الصورة وفعلها. كذلك أثر النغم التراجيدي. ذاك الفتى، عندما أصبح عشرينيّاً، كان يُردّد قبل رحيله هذه الحكاية على مسامع أصدقائه.
كيف لنا أن ننسى، إن كنّا ننسى، وسيل المجازر يُكرّر نفسه على نحو التطابق. فبعد أكثر مِن 24 عاماً، وفي مكان آخر، اسمه ضحيان أو الدريهمي في اليمن، تُرتَكب مجزرة تلو مجزرة، لتحفر عميقاً في ذاكرة جيل لا بل أجيال. سنحتاج، هذه المرّة، إلى أنّ نُعدّل قليلاً في كلمات النشيد: «شُلّت أيدٍ سعوديّة تقذف حمماً أمريكيّة». ربّما جاز أيضاً إبقاء النص على ما هو عليه: «أيدٍ صهيونيّة». الأطفال لا تعنيهم فلسفة التسميات. حافلة مليئة بالأطفال تُقصَف. أبيد مَن كان فيها. مجزرة ضحيان، قبل مجزرة الأضحى (الدريهمي)، كانت أوجع مِما حصل في أختها النبطيّة، في العدد والتفاصيل، إنّما في مشهديّة واحدة. كان هذا قبيل عيد الأضحى بمثابة «عيديّة» لليمن. صور حقائب الأطفال، زرق اللون، مرميّة خارج الحافلة وقد تلطّخت بدماء الصغار، وكذلك كانت حقائب أطفال النبطيّة… لونها أزرق. عجيب هذا التشابه. حقائب أطفال اليمن، الفقراء بداهة، مكتوب عليها «يونيسيف». هي تقدمة مِن «منظّمة الأمم المتّحدة لإغاثة الطفولة». إغاثة! بيان المنظّمة المُستنكِر جاء فيه: «إنّنا نشعر بالرعب مِمّا حصل». الأمم المتّحدة كانت ولا تزال موجودة في جنوب لبنان. كانت أيضاً تُقدّم «إغاثة» للأطفال… على شكل حقائب زرق وما شاكل. أطفال النبطيّة كانوا في طريقهم إلى منازلهم مِن مدرسة «فريحة الحاج علي النموذجيّة». كانت مجزرة نموذجيّة أيضاً. مركز «الصليب الأحمر» ليس بعيداً عن مكان المقتلة في المدينة اللبنانيّة. المؤسسات الدوليّة دوماً شاهدة.
عاشت هذه المنطقة، بمختلف أقطارها، الكثير مِن المجازر، وربّما ظنّنا أنّنا اعتدنا الأمر، وقد اعتدنا فعلاً… إنّما بالأطفال! تبقى هذه، مهما تبلّدنا، مِن صنف خاص. مجزرة صافيّة بقتل الأطفال. فقط أطفال. لا يزال هذا يحدث في العالم (عالمنا). ليس الحديث عن أطفال قُتلوا، عن طريق الخطأ، إلى جانب كبار كانوا المستهدفين. لا، حافلة لا يوجد فيها سوى أطفال. المشهد نفسه بين صعدة والنبطيّة. أيكون قاتل الأطفال عادة قد أنجب أطفالاً؟ أيُنجِب لاحقاً؟ أيعيش بيننا؟ أسئلة طفوليّة، صحيح، كما لو كان لنا أن نستصرح مَن تمزّقت أجسادهم الطرية. ما بين النبطيّة العامليّة، وضحيان في صعدة اليمن أكثر مِن دماء سالت في مشهديّة واحدة. لجبل عامل مِن اليمن أكثر مِن قبيلة عاملة اليمنيّة التي نزلته قديماً. لهمدان المتبخّرة في كُتب التاريخ مَن فكّ بعض لغزها، إذ ذابت في بلاد الشام على وسعها، بتعاقب القرون، ليعود الدم ويجمع ما بين آلاف الفراسخ… وكذلك المصير.
ويعود ذاك النشيد، الذي ما عادت بثّته «المنار» منذ كثير مِن السنوات (ربّما لتوالي المجازر)، ليختم: «الباص تفجّر فانتثرت أشلائي، محفظتي احترقت، وورودٌ في العيد هديّة، عفواً معذرة يا أمّي… كان الورد إليكِ هديّة. سفكوا في يوم العيد دمي، فخذيني في العيد هديّة. صبراً ووداعاً يا أمّي، يا أغلى مَن في البشريّة، صبراً، صبراً، صبراً يا نبطيّة».