«يوم الأرض»: موعد في غزة لتتويج «انتفاضة القدس»
للمرة الأولى منذ عقود، يضع الفلسطينيون عدوّهم أمام حالة من الاحتمالات المفتوحة. وللمرة الأولى أيضاً تكون إسرائيل في موقع ردّ الفعل والترقّب، فيما يكون الفعل كاملاً مع الفلسطينيين، إلى حدٍّ وصل الأمر معه بالعدو إلى عقد اجتماعات على أعلى المستويات الوزارية والأمنية وتقديم مقترحات «مضحكة»، من قبيل إلقاء مساعدات طبية وغذائية من الجو على «المتظاهرين الجائعين والمحاصرين»، أو من قبيل طرح مجالس المستوطنات المحيطة بقطاع غزة «عروض عمل» للغزيين، عبر طلبها المتكرر من الحكومة في تل أبيب السماح لعمال القطاع بالعمل في الزراعة داخل المستوطنات!
هذه السنة تأتي ذكرى «يوم الأرض» ــ الثلاثين من آذار ــ مكتسبة زخماً وتحشيداً غير مسبوقين، وذلك استناداً إلى نحو سنتين ونصف سنة من هبّة شعبية وعمليات فدائية ــ فردية وجماعية ــ باتت تقارب توصيف «الانتفاضة الثالثة»، رغم اختلاف أساليبها وانطلاقتها عن الانتفاضتين الأولى والثانية. واللافت أيضاً أنه رغم حالة التشظّي السياسي الفلسطيني، بدءاً من الخلاف المتصاعد بين حركتي «حماس» و«فتح»، والتباينات داخل التنظيمين نفسيهما تجاه ملفات عدة منها المصالحة والمفاوضات والحرب، يُجمع الفلسطينيون والفصائل على إحياء ذكرى «الأرض» بطريقة موحدة، فيما يتقدم قطاع غزة على باقي المناطق الفلسطينية، لخصوصيات عدة.
ففي غضون عدة شهور، انتقلت غزة من حالة الاستنزاف في اتجاه واحد إلى «استنزاف متبادل»، أقله تجاه «مستوطنات غلاف القطاع»، إذ كانت بضعة صواريخ تُطلق، وتقع غالباً في مواقع خالية داخل فلسطين المحتلة، تتسبّب في ردّ إسرائيلي مضاعف يستنزف قدرات المقاومة اللوجستية والتسليحية. لكنّ المواجهات الحدودية، التي كانت إلى وقت قريب يُسأل عن جدواها وكانت محصورة في يوم الجمعة كل أسبوع، تحوّلت إلى ظاهرة يومية، تبعها ابتكار الشبان الفلسطينيين وسائل عدة لإشغال الجنود على الحدود، ومن ثم تسبّبت في استنفار الأجهزة الأمنية والجيش الإسرائيلي لمتابعة كل متر من نحو 63 كلم ــ بجانب البحر شمالاً وجنوباً ــ من أجل مراقبة حالات التسلل التي كثرت في الأسابيع الأخيرة وتسبّبت في حالة قلق كبيرة داخل المستوطنات الإسرائيلية.
ومنذ نجاح «كمين العلم» الفلسطيني الذي كان مربوطاً بعبوة انفجرت بجنود الاحتلال عندما حاولوا نزعه، تحوّلت الحدود إلى هاجس كبير للجيش الذي صار معه يقصف من بعيد الأعلام المعلقة. ثم تسبّب نجاح عدد من حالات التسلل، ومنها ما وثقته الكاميرات، في تأكيد أنه رغم الاستنفار الإسرائيلي الحثيث، ثمة ثغرات كبيرة يمكن للمقاومين الاستفادة منها وتنفيذ أعمال نوعية، فكيف اليوم ومسارات الأحداث مفتوحة إلى حدّ لا يستطيع معه حتى قادة الفصائل رسم مسار واضح للأحداث. وتأتي المخاوف الإسرائيلية من مشاهد عدة، منها نجاح حالات «دخول» (يسميها الفلسطينيون «عودة») إلى فلسطين المحتلة بصورة جماعية، أو تسجيل عدد كبير من حالات الدخول الفردية أو على صورة مجموعات صغيرة دون السيطرة عليها، خاصة أن عدسات الصحافة الدولية والمحلية حاضرة في غالبية المحاور. وفي أدنى الأحوال، ستتحول المسيرات إلى اشتباكات لا يظهر إلى حدّ قريب كيف سيتعامل معها جيش العدو وضمن أي قواعد اشتباك.
استمرت المشاورات الإسرائيلية السياسية والأمنية حتى وقت متأخر من المساء
هكذا، يقف الفلسطينيون على مرمى حجر من الذكرى السبعين للنكبة وقد تغيّرت الأدوات والاستراتيجيات، إذ يسجل أنه للمرة الأولى تعمل الفصائل على دعم تكتيك بسيط وواسع بعيداً عن ماهية قدراتها وأدواتها، رغم أنها أعلنت أنها لن تقف مكتوفة الأيدي في حال تجرّأ العدو وقصف جموع المتظاهرين العزّل في المسيرات السلمية اليوم. وكان لافتاً في هذا الإطار أن قُدّمت هذه المسيرات في إطارها المدني، وبتغطية من الفعاليات الشعبية ومؤسسات أهلية، رغم اعتذار مؤسسات مثل «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (الأونروا) عن الإسهام في تغطية المتظاهرين، وفق ما تفيد به مصادر سياسية لـ«الأخبار». أيضاً، كان لافتاً أن المقاومة أجرت «مناورة دفاعية» قبيل أيام على المسيرات، أعلنت بها استعدادها لسيناريوات عدة، وهو ما أكسب التحضيرات زخماً إضافياً.
والمشكلة إسرائيلياً لا تقتصر على نتائج هذا اليوم (الجمعة)، بل تمتد إلى أن نجاح هذا التكتيك سيعني إعادة تكراره في مناسبات أخرى قريبة، كذكرى النكبة (15 أيار المقبل) وذكرى «النكسة» (5 حزيران المقبل)، ما يعني بعبارة ميدانية استمرار الاستنزاف على حدود كانت إسرائيل تخطط لجعلها آمنة، عبر بناء جدران تحت أرضية وأخرى فوق أرضية.
مع كل ما سبق، لا يعني تسليط الضوء على ما سيحدث في غزة اليوم أن الجبهات الأخرى لا تشكل عامل قلق لصناع القرار في تل أبيب، إذ إن ما سوف يحدث في باقي المناطق، وتحديداً القدس والضفة وفلسطين المحتلة عام 1948، يحمل في طيّاته مسارات خاصة واحتمالات إضافية. ورغم أن أطرافاً عدة تحاول تحميل المشهد مسميات المكاسب والمناورات السياسية، سواء لجهة السلطة التي تسعى للخروج من مأزق انهيار مشروعها التسووي، أو «حماس» التي لم تفلح في نيل مكتسبات من المصالحة، فإن الفعل الشعبي الذي أثبت منذ تشرين الأول 2015 أنه هو الذي بات يقود الفصائل، لا العكس، لن ينتظر ترجمة أعماله إلى مكاسب سياسية لطرف دون آخر، رغم أنه يطمح إلى قيادة تستطيع تثمير تضحياته التي يواصل تقديمها منذ أكثر من 90 عاماً.
على الطرف المقابل، بقيت المتابعة الإسرائيلية حثيثة على جميع الجبهات، إذ أجرى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، في وقت متأخر من مساء أمس، سلسلة من المشاورات الأمنية مع قادة أذرع الأمن، وذلك للوقوف على آخر الاستعدادات لمواجهة «مسيرات العودة». وذكر موقع «والا» العبري أن نتنياهو هاتف كلّاً من رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك) ورئيس «مجلس الأمن القومي» للوقوف على مدى استعدادهما لمواجهة المسيرات، وقد «استمع منهما إلى آخر المعلومات المتوافرة في هذا الخصوص»، طالباً من وزرائه تجنّب التصريح في ما يتعلق بهذا الشأن.
وميدانياً، واصل جيش العدو إجراءاته المتعددة، من قبيل نشر المزيد من التعزيزات العسكرية على طول الحدود الشرقية والشمالية للقطاع، فيما شوهدت جرافات ضخمة تنفذ أعمال حفر داخل السياج الأمني، فضلاً عن إعداد مواقع لتمركز الجنود والقناصة. ولوحظ أيضاً زيادة في التصعيد باستهداف الشبان أمس، إذ أصيب خمسة بالرصاص شرقي غزة، وخانيونس.
المستوطنون يهربون… و«السلاح الدبلوماسي» عاجز
منذ مساء أمس، والأنباء تتوالى عن حركة لمستوطنين يقطنون في «غلاف غزة» إلى الداخل تخوفاً من سيناريوات غير محتسبة اليوم، فيما صدرت دعوات لهم بحمل السلاح تحسباً لحالات تسلل قد يضطرون إلى التعامل معها بأنفسهم في ظل انشغال الجيش والثغر المحتملة بناءً على تجربة الأسبوعين الأخيرين.
حالة الترهيب هذه نقلتها تل أبيب أيضاً إلى الساحة السياسية والدبلوماسية لتمهد في الوقت نفسه لتبرير أي جريمة ترتكبها اليوم، إذ أرسلت الخارجية الإسرائيلية إلى كل ممثلياتها في العالم «رسائل يجب إيصالها إلى الرأي العام والمسؤولين في جميع الدول»، فحواها «تحميل حماس المسؤولية عن المسيرة الضخمة واتهامها باستخدام المدنيين وإرسالهم للموت، وكذلك محاولة تهديد أمن إسرائيل»، مدعية أن «حماس صرفت على فعاليات مسيرة العودة الكبرى أكثر من عشرة ملايين دولار». وإضافة إلى الممثليات ووسائل الإعلام، أرسل السفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة، داني دانون، إلى الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، رسالة بالمضمون نفسه.
وحتى أمس، استمرت تهديدات المسؤولين الكبار، كوزير الأمن، أفيغدور ليبرمان، ورئيس أركان الجيش، غادي آيزنكوت، بارتكاب مجازر في حال اجتياز المتظاهرين السياج الحدودي، إلى حد أن كرر ليبرمان تهديد آيزنكوت، قائلاً أمس لموقع صحيفة «يديعوت أحرونوت»، إن «مئات القناصة جاهزون لإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين إذا حاولوا اجتياز السياج… من يمس بالسيادة الإسرائيلية سيصاب بالرصاص». وأضاف ليبرمان: «التوصيلات إلى السياج الحدودي العازل والخيام والإنترنت المجاني خلال فعاليات مسيرة العودة هي إغراءات من حماس للناس للمشاركة في الفعالية… سكان غزة يعلمون جيداً أن حماس تستغلهم، والحركة فشلت في حكم القطاع وإدارته، وأصبحت منبوذة في العالم العربي ولا تدعمها أي دولة سنية».
(الأخبار)
زحف نحو الأرض السليبة
صفحة جديدة من تاريخ نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني ستكتب غداً عند حدود غزة مع باقي أرض فلسطين المحتلة. لقد أظهر الإجماع الشعبي والسياسي على قرار تنظيم مسيرات العودة أن الوحدة الوطنية الحقيقية يتم بناؤها على قاعدة المواجهة مع الاحتلال وحول الهدف الأول والأساس للحركة الوطنية الفلسطينية عند انطلاقها وهو العودة الى الأرض السليبة. فقضية فلسطين، قبل أن تكون قضية حق في تقرير المصير وإقامة دولة مستقلة، هي قضية صراع على الأرض بين شعب فلسطين والاستعمار الاستيطاني الصهيوني. مسيرات العودة على المستوى السياسي والرمزي تعيد القضية إلى مربعها الأول، أي حق الشعب الفلسطيني بالعودة الى أرضه، ضاربة عرض الحائط بعملية السلام المزعومة وبجميع المشاريع والمقترحات لتسوية هذه القضية، القائمة على إنكار هذا الحق على غالبية من هجر من مدنه وقراه عام 1948. قلق القيادات الصهيونية العسكرية والسياسية الكبير من هذه المسيرات له ما يبرره. هي إثبات حي على فشل منظومة السيطرة والتحكم الصهيونية التي اعتبرت نموذجاً يحتذى من قبل عدد من القوى الدولية لكيفية التعامل مع كتل اجتماعية معادية أو متمردة، في تحقيق غاياتها، وفي مقدمتها كسر إرادة المقاومة لدى جماهير الشعب. وتأتي المسيرات أيضاً في سياق خطر بالنسبة إلى الاحتلال، من أبرز سماته تصاعد المقاومة بأشكالها المختلفة في القدس والضفة الغربية ضد جنوده ومستوطنيه.
الحصار الإجرامي، الإسرائيلي ـــ العربي ـــ الدولي، الذي يتعرض له قطاع غزة منذ اثني عشر عاماً، بسبب تصويت غالبية فلسطينية لمصلحة حركة حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، كان جزءاً من استراتيجية أشمل تتضمن ترسانة واسعة من السياسات والأدوات ترمي إلى معاقبة السكان والتنكيل بهم لكسر إرادتهم وإخضاعهم مجدداً لسلطة الاحتلال من دون أن ينتشر جنوده بين السكان بالضرورة. إسرائيل أرادت أن يتحول قطاع غزة إلى سجن بالهواء الطلق، تتحكم بمداخله ومخارجه وبحياة سكانه كما يتحكم السجانون بالسجناء عبر أنظمة المراقبة والتنصت وعبر استخدام العنف بدرجات متفاوتة، رداً على أي فعل مقاوم، من الاغتيال الفردي الى المجازر الواسعة النطاق، وتدمير المناطق السكنية والبنى التحتية واستخدام أحدث الأسلحة الفتاكة لـ«كيّ الوعي» وحمل الشعب على الاستسلام. حرب إسرائيل، كما في جميع مواجهاتها مع حركات المقاومة في لبنان وفلسطين، تستهدف السكان باعتبارهم الحاضنة الاجتماعية التي تؤمن لهذه الحركات جميع أسباب الاستمرار والصمود والانتصار. لكن استراتيجية إسرائيل وترسانة أدواتها عجزت عن منع غزة من أن تتحول إلى قلعة للمقاومة، رغم الصعوبة الاستثنائية لظروفها، وأولها المشاركة المصرية والسعودية ـــ الإماراتية في محاصرتها. وقد كشفت الحروب الثلاث التي شنّت على القطاع طاقة أسطورية على المقاومة لدى شعب غزة المحاصر ومقاتليه، بل وقدرة على الانتقال الى تكتيكات هجومية أذهلت قادة الاحتلال وجنوده خلال حرب عام 2014 وتطور في الإمكانات العسكرية والصاروخية لديهم. لم يتجرأ الجيش الإسرائيلي على اجتياح القطاع خلال حروبه الثلاث، كما فعل عام 2002 مثلاً لمعرفته أن خسائره ستكون باهظة، وأي تقويم نزيه لحرب 2014 سيفضي حتماً إلى أن نتائجها السياسية كانت ستكون لمصلحة حركات المقاومة لولا الموقف المصري ـــ السعودي ـــ الإماراتي.
ظروف القطاع الشديدة الصعوبة نتيجة الحصار المستمر، والتي تصفها حتى تقاريرالأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية بالكارثية، لم تدفع حركات المقاومة الى تقديم أي من التنازلات المبدئية المطلوبة من قبل أعداء الشعب الفلسطيني الصهاينة والإقليميين والدوليين للتخفيف منه. لكن نافذة فرص لكسر الحصار تفتح الآن مع السياقات السياسية والميدانية المستجدة. فالضفة الغربية والقدس تشهدان منذ أكثر من عامين تصاعداً في النضال ضد الاحتلال مرشحاً للتعاظم في الأشهر القادمة، وخاصة في الفترة التي سيتم فيها نقل السفارة الأميركية الى القدس ليتحول الى انتفاضة شعبية واسعة. وقطاع غزة، الذي أدى دوراً طليعياً خلال الانتفاضتين الأولى والثانية، إذا بادر الى المواجهة الشعبية المباشرة مع قوات الاحتلال عبر مسيرات العودة التي ستضم حسب المنظمين عشرات الآلاف من أبناء الشعب وعائلاته، سيساهم بشكل حاسم في توسع هذه الانتفاضة.
ولا شك في أن المواجهة إن اندلعت على حدود القطاع سيكون لها تداعيات كبرى على أطراف «صفقة القرن» وستكون عاملاً إضافياً، بين عوامل أخرى كثيرة، لتهديد استقرار أنظمتهم المعدومة الشرعية والفاشلة على جميع الصعد. غزة التي حاول البعض وضعها بين المطرقة والسندان ستحطمهما معاً.
«مسيرة العودة»: انتصار فلسطيني في معركة الوعي
للوهلة الأولى، توحي المواقف والاستعدادات الإسرائيلية مع قطاع غزة، كأنها تتهيأ لمواجهة حشد عسكري سيجتاح المستوطنات المحيطة بالقطاع، وللتصدي لعملية التحرير التي على وشك أن تبدأ من جبهتها الجنوبية. وأكثر ما برز القلق الإسرائيلي في رسائل التهديد التي وجهها القادة الإسرائيليون إلى قادة المقاومة والجمهور الفلسطيني بهدف ثنيهم عن هذه الخطوة، وأيضاً في حجم الاستعدادات التي تظهرها كأنها تستعد لأسوأ السيناريوات، وهو إجراء مفهوم ويتناسب مع طبيعة مهمة وتفكير المؤسستين العسكرية والاستخبارية، لكن المواقف التي واكبتها تكشف عن أنها تتعامل مع مسألة ترى فيها تل أبيب تحدياً جدياً. فهل تبالغ القيادة الإسرائيلية أم أنها تنظر بخطورة فعلية إلى الحراك الذي يشهده القطاع، ولماذا؟
على المستوى التكتيكي، تشكّل مسيرة العودة تحدياً للمؤسسة الأمنية، لجهة أن المطلوب منها مواجهة مسيرات شعبية كبيرة سلمية تطالب بحقها في العودة إلى وطنها، ولذلك يتخوفون في تل أبيب من تجاوز الحواجز التي تفصلهم عن بقية وطنهم. وترى المؤسسة العسكرية قبالة تصميم وحماسة المشاركين أنها قد تواجه حالات تجاوز لهذه الحواجز، وهو ما سيشكل قدراً من الإحراج (مع التسامح في التعبير)، في حالتي استخدام النيران القاتلة أو الامتناع عن ذلك.
ففي الحالة الاولى، سيشكل الاحتكاك بين قوات الاحتلال والجماهير الفلسطينية المحتشدة إعادة تصويب لوجهة الصراع، في الوقت الذي تتركز فيه المساعي لتأجيج الخلاف الفلسطيني ــ الفلسطيني، وحرف وجهة الصراع نحو عناوين بعيدة عن مواجهة الهجمة الأميركية على الشعب الفلسطيني ومقاومته السلمية والمسلحة.
وفي حال امتناع إسرائيل عن القمع، سيشكل ذلك مؤشر ضعف تتخوف جراءه المؤسسة الإسرائيلية من أن يبدو أن هناك قيوداً على قراراتها وخياراتها القمعية، وهو ما قد ينطوي وفق حسابات محدَّدة تحضر عادة لدى المؤسسة الأمنية على تشجيع الشعب الفلسطيني لتكرار مثل هذه الخيارات لاحقاً، هذا مع الإشارة إلى أن الطابع السلمي للمسيرة سينزع من إسرائيل مبرر استخدام القوة المفرطة، التي تحاول تجنبها عبر إطلاق التهديدات الرادعة.
وتشكل مسيرة العودة محطة إضافية في سياق حركة الصراع، وتزخيم حركة الانتفاضة الشعبية ضد الاحتلال، وهو مسار بدأ يأخذ أساليب تصاعدية منذ إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، القدس عاصمة للكيان الإسرائيلي، وتأتي كخيار مواكب لعمل المقاومة المسلحة التي تستهدف جنود الاحتلال والمستوطنين، وذلك في مسار تكاملي على قاعدة توظيف الإمكانات كافة لمواجهة تحديات المرحلة التي تمرّ بها القضية الفلسطينية.
مع ذلك، تبقى لمسيرة العودة خصوصية محدَّدة، لكونها تأتي في مواجهة مخطط تصفية القضية الفلسطينية على مستوى الوعي العربي والعالمي، كجزء من «صفقة القرن». من هنا، إن بعض ما يفسر التوتر الاسرائيلي وكل من له مصلحة بتمرير هذه الصفقة أن هذه المسيرة الشعبية تشكل انتصاراً على مستوى الوعي؛ بمعنى أن مجرد نجاح فصائل المقاومة الفلسطينية في تحويل المسيرة إلى تظاهرة جماهيرية واسعة تعبر عن توجهات وآمال الشعب الفسطيني يشكل انتصاراً حقيقياً لا تستطيع مقابله إسرائيل ومن يؤازرها الحؤول دونه. وأهمية هذا النوع من الحراك الشعبي أنه يندرج ضمن سياسة الرد الفلسطيني الذي يهدف إلى تكريس حق العودة في الوعي العام، ويعزز حضوره على المستويين العربي والعالمي. وتتزايد ضرورة هذا الإنجاز لكونه يحاكي طبيعة المرحلة التي تمر بها القضية الفلسطينية.
أما عن موقع هذه المسيرة ودورها في الانتفاضة الشعبية، فإن تقييمها يأتي كجزء من مسار، وليس على نحو استقلالي. وتجسد المسيرة في التوقيت والعنوان والأسلوب تجسيداً للإبداع الفلسطيني على المستويين الشعبي والفصائلي في إدارة حركة المقاومة ضد الاحتلال. مع ذلك، هذا الإنجاز مشروط باستمرار الحراك الشعبي والمقاوم على نفس المسار بغض النظر عن التكتيكات والأساليب، وهو ما يتوقع أن يتواصل، بل هو ما أثبته الشعب الفلسطيني مراراً في مواجهة الهجمة المتعددة الجبهات العربية والإسرائيلية والغربية التي تستهدف النيل منه استكمالاً لمخطط الاستيطان والاحتلال.
تبقى الحقيقة أكثر حضوراً في حسابات القيادة الإسرائيلية أن مسيرة العودة تكشف عن تصميم فصائل المقاومة وقياداتها على مواجهة التحديات التي تمر بها القضية، وتعكس إصرارها على التصدي ومقاومة أي محاولات تصفية القضية الفلسطينية. على هذه الخلفية، إن إسرائيل التي تواجه الإنسان الفلسطيني المحتشد على حدود القطاع، يحضر في وعي صناع قرارها السياسي والأمني الخطوات التصاعدية التي سيلجأ إليها في اليوم التالي والشهر المقبل، والسنوات اللاحقة.