زهير دبس
معتمراً «ألوسته» البيضاء التي غالباً ما يُنادى صاحبها «بالحج»، يجلس قاسم قديح بقامته الطويلة أمام محله للنجادة العربية في حي الميدان في النبطية، المدينة التي أبصر قديح النور فيها منذ ما يقارب الأربعة وثمانين عاماً. حكاية قديح مع مدينته تشبه كثيراً المكان الذي عاش فيه وكان مختبراً حقيقياً للأفكار والسرديات الوافدة إلى المدينة التي احتضنت تلك الحكايا وصارت جزءاً من تاريخها. لم يعد قاسم قديح ذلك الطفل الذي كان «يدعس لوالده المنجد على طرف اللحاف» بل صار يجوب معه القرى منادياً «منجد.. منجد». لكن فيما بعد المهنة التي تفتّحت عيناه عليها منذ الصغر بحكم أنها مهنة الوالد ورثه عنه، انطفأ بريقها، وحالها ككل شيء.. لم يعد كما كان.
لا زال قديح يعيش من مهنته التي يقول «بدها معلميّة وذكا وقوة… وأخلاق» والأخيرة هي قبل كل شيء لأن الغالبية العظمى من الذين يتعامل معهم المنجد هم من فئة النساء، ومن مختلف القرى والأطياف. وهذا يحتّم على المنجد أن يتعاطى بأخلاق عالية.
باكراً حفظ قديح وقائع عاشوراء التي وفدت إلى المدينة عام 1917 من خلال التاجر الإيراني ابراهيم الميرزا، وتنفرد النبطية في إحياء ذكراها عن غيرها من المناطق. وباكراً اعتنق الفكر الماركسي اللينيني من خلال صديقه الإسكافي قاسم الصباغ الذي عرّفه على تلك الأفكار.. بين حكايا عاشوراء الكربلائية وأفكار قاسم الصباغ اللينينية نشأ قديح وترعرع ينهل منهما.. إنه الظلم والفقر والتوق للخلاص منهما هو ما أعجب قديح وحفّزه للسير والنضال في سبيلهما.
لم يجد قديح بين ثورة الإمام الحسين على يزيد في كربلاء، وثورة لينين على القيصر في روسيا من تناقض، فإلى جانب حفظه عن ظهر قلب وقائع عاشوراء، انتسب قديح إلى الحزب الشيوعي في العام ١٩٥٤ متظاهراً في صفوفه وحاملاً للسلاح «الذي أحضرناه من بانياس من سوريا» في ثورة العام ١٩٥٨. «كنا نحرس البلد» حيث كانت النبطية تضج بالنضال وبالعمل الحزبي الذي كان صعوده كبيراً، وكان الحزب الشيوعي الأقوى والأول في المدينة.
في عمر السابعة عشرة عاماً كنت أذهب إلى الحسينية أحضر البروڤات الخاصة بتمثيل وقائع عاشوراء. يقول قديح: «ذاكرتي كانت جيدة جداً لذلك حفظت الأدوار جميعها». يتابع: «بداية كنت أمثل ككومبارس مع قوم الحسين، وهذا لا يحتاج إلى «واسطة» ومهارة. فيما بعد مثلت لعامين متتاليين دور حمزة إبن المغيرة الذي قدّم نصيحة إلى عمر إبن سعد كونه من «مخوله» فكان يقول له «أنشدك الله يا خال أن لا تسير إلى الحسين فتأثم وتقطع رحمه، والله لو خرجت عن دنياكَ ومالَكَ وسلطان الأرض، لكان خير لك من أن تنسى الله بدم الحسين». فقال له إبن سعد حمداً لك على نصحك ولم يأبه له.
بعدها ونتيجة تغيّب الشخص الذي كان يؤدي دور هلال بن نافع، وهو من كفرتبنيت سافر إلى إفريقيا، قلت للمرحوم فؤاد كحيل الذي كان يشرف على تمثيل الوقائع وكان أيضاً شيوعياً: «أنا أمثل هذا الدور» فقال: «اكتبولو الدور حتى يحفظه». فأجبت: «ما حدا يكتبو ويتعِّب قلبو، حافظو عن ظهر قلب». وعليه أديت الدور… عن هلال بن نافع البجلي يقول قديح إنه كان من جماعة عمر إبن سعد، ولما جاء الحسين إلى كربلاء «وشاف إنها حميت الحديدة» راجع نفسه والتحق بالحسين واستشهد معه.
واظبت على تأدية دور هلال لفترة، لكن ونتيجة حادث ألم بالشخص الذي كان يؤدي دور «الشمر»، بدأ القيّمون على تمثيل الواقعة بالتفتيش عن «شمر» جديد، فقلت لهم: «لا تفتشوا وتتعبوا أنا جاهز». يتابع قديح: «عندما ذهبت إلى المنزل وراجعت نفسي، عدلت عن موافقتي، وقلت إن الشمر «بيدعو عليه النسوان.. الرجال بيسبوا وبيبهدلو.. وأنا طبيعتي «سكر قليل»، فخفت والسيف بيدي أن أضرب أحد وأتورط». في اليوم الثاني اعتذر قديح عن تأدية الدور محتفظاً بالأسباب لنفسه، لذلك ذهبوا إلى الشيخ محمد التقي وكان إمام المدينة قائلين له إن قاسم قديح رفض تأدية دور «الشمر»، فقال لهم نادوا له فأتى قديح وسأله الشيخ مستفسراً عن عدوله فأجابه قديح بالأسباب. حينها قال له الشيخ: «ببركة الحسين، الله يبعث لك أذناً خرساء وأخرى طرشاء.. «بتسمع بس ما بتحكي». وعليه عليك أن تختار «أو في عاشورا.. أو ما في عاشورا» وعليك أن تمثل دور «الشمر» و«اصطفل منّك للحسين». فقلت له: «اتكلنا على الله». بعدها كرّر الشيخ التقي ما قاله كحيل حول تدريب قديح على الدور، فقالوا له «هوّي بيدربنا كلنا.. حافظ كل الأدوار، ولو راح عمصر كان عمل ممثل».
تأديتي للدور في المرة الأولى تخلله طرفة يقول قديح، إذ أن زوجتي كانت تعلم أنني أمثل مع قوم الحسين، ولم تكن تعلم بالانقلاب الذي حصل معي في الليلة الأخيرة، وعليه نزِلت إلى «البيدر» مكان تمثيل الواقعة.. «شمر»، وهي كانت تقف مع النساء يتفرجنّ، ولم تعرف أني أؤدي دور «الشمر» ولم تستطع تمييزي بسبب ملابسي، فبدأت تقول: «له يا مأزوع الشباب كيف عم يطأرطز أرطزة.. منين جايبينو هي». فقالت لها إحدى النساء بجانبها «ما عرفتهيش.. هيدي بو رشاد يا إم رشاد». فقالت لهم «أبو رشاد يمثل مع الحسين».. فقالوا لها «انقلبت الحكاية» وزوجك صار هو «الشمر».. في المساء يقول قديح اعتذرت إم رشاد منه قائلةً: «سامحني».
لأكثر من خمسين عاماً مثّل أبو رشاد دور «الشمر» في تمثيل واقعة عاشوراء في النبطية، ولم يتقاعد إلا في السنوات الأخيرة. ويقول: «كنا نعمل «شمر» أحسن من هالإيام… كنا نعمل بآخر المسرحية حوار بين الإمام زين العابدين و«الشمر» لما يجيبو السبايا».. الآن ألغوه»، بالرغم من أنه الأهم برأي قديح. يتابع: «قلت لمولانا ما الذي هزّ عرش يزيد عندما جاؤوا بالسبايا إلى الشام. أجابني، خطاب زين العابدين، فقلت له إننا كنا نقول ذلك الخطاب ونهز من خلاله مشاعر الناس، فلماذا ألغوه؟!».
مزج قديح بين حبه للحسين ومبادئه الشيوعية ولسان حاله يقول: «الدين لله والوطن للجميع». «شيوعي وأمثّل دور الحسين وكل الناس تعرفني». متابعاً: «لم أكتفِ بذلك، بل عملت كل فرقة تمثيل وقائع عاشوراء شيوعية، وصارت الناس تقول، صارت العاشورا شيوعية».
أدّيت دوري في تمثيل وقائع عاشوراء عن قناعة ورغبة كبيرة، فأنا عاشق للإمام الحسين، وأنا حسيني أكثر من الذين يدّعون أنهم حسينيين الآن. يقول قديح ويتابع: «خمس مرات زرت الإمام الحسين في كربلاء، وزرت النجف والكوفة وفي كل مرة كانت تشدني الزيارة أكثر، وأيضاً ذهبت إلى الحج». «يقولون الشيوعية بلا دين.. نحنا الشيوعية صحاب الدين» يقول قديح: «أعتز بشيوعيتي ولا أعتبر أنهم فعلوا أي خطأ ولم يعملوا إلا كل خير، لمصلحة العامل والمعتر والفقير».
عن تمثيل الواقعة الآن، يقول قديح إن العامل المادي غلب عليها وإذا سألتني رأيي أقول لك: «ما عاد في عاشورا». و«ليست الثكلى كالمستأجرة» فنحن كنا نعمل بقناعة ودون أجر.. وحباً بالحسين.
في محله المتواضع الذي يمتلئ لحفاً وفرشاً وحكايا، يمتشق «الشمر الطيب» قاسم قديح سوط التنجيد وسيف الحكاية، ينفض عنهما غبار الذكريات. يجلس على حافة العمر.. يلعن «الشمر» ويتقمص دوره.. وذلك في حب الحسين. يتمسك بأفكاراً غادرت أماكنها لكنها لا زالت تتوهج في داخله انتصاراً للفقراء ودفاعاً عن المظلومين. قلّص قاسم قديح المسافة بين كربلاء ولينينغراد، صارت النبطية صدىً لحكاياتهما وصار هو حارس الحكاية.. حكاية ضاق بها محل النجادة و«البيدر» واتسع لها فضاء المدينة