الى «جوزف العريّي»
أنا مدين لك بما لا أخفي من شغف لفرن الحطب .
وأنا مدين لما لديك من طحين تنثره على جوعي لكسرة خبز تحرق ولا تحلق .
انت مرآتي اليوم إذا كنت لا تعلم. وإن علمت إمنحنِ فرصة النزول إلى فوهة النار المتأججة لاستعادة ذلك الزمن البعيد الذي قضيته مع جدّي «أسعد البسكنتاوي» في فرنه العتيق .
لا أعرف إلاّ ما لست أعرف، لكني أعرف ما تعرفه. تعلمت من جدّي ما ينبغي لولد مثلي أن يعلم. تعلمت كيف أقتات من طبق الرغيف الحارق وأصابعي عجنتها بالماء والنار. وأنا أجرأ ممّا تتخيّل: أن أعترف بأني لست أعرف من الغامض أكثر ممّا تعرف .
وحدها الأشياء الحميمة تأخذك، رائحة التراب المعفّر بحبّات المطر الشحيح في الخريف أمام الفرن. زهرة الياسمين المدندلة على الباب. عطر تعب الأمهات وعلى رؤوسهن الصواني الكبيرة المملوءة بالعجين. وصوت جدّي الجوهري يجلس لسنين طويلة في فرن الحطب بحي «المعبور» أمام الفوهة المشتعلة. ممسكاً بيديه لوحاً خشبياً ينتهي بمقبض طويل ويقذف به العجين بعد أن ترققه النساء إلى بيت النار وافخاذهنّ مفتوحة على مصراعيها، تسهيلاً لفعل الرَّقْ والحركة وبلمسة سريعة بالمجذاف يُخرِجْ الأرغفة حمراء .
وكانت بَشْرَة جدّي مدبوغة بقسوة مناخ فوهة النار اللاهبة. وما زلت لليوم أحتفظ بطعم الخبز الحاف تحت أسناني .
كان جدّي كل مساء قبل عودته الى البيت يركن في زاوية الفرن ويسكب الماء على وجهه ويصهل مثل حصان. يهزّ رأسه هزّات مترنحة فتتناثر قطرات الماء الى صدره العاري وكفّاه تغرفان كميات كبيرة من الماء. يسفحها من جدّيد على وجهه.
كان جدّي كالنحل الذي نسي مصّ العسل، كان منتشياً بالنار.
وفي أيامه الأخيرة ترك الفرن وانسحب الى وحدة عامرة في صمت أكثر عمقاً وفي هدوء طافح بالسكون .