خليل الدبس «في ذكرى ١٦ أيلول»
«وقلت بكتبلك» تأخرت كثيراً ولكن . . .
على قدر شمس تكون السماء، ذهبت لتقطفها عن الشجر الباسق شرق الينابيع وأخذت معك «ورق» أيلول وانطويت على ظلّك حتّى مغيب الغروب المدمّى بالأحمر القاني .
هل تعود غداً على درب الشمس؟
ثمّة شمس تهبّ من الشجر وثمّة شجر يهبّ من الشمس !
من أي ضوء ستجيء؟
أذرف اليوم وفي ذكرى ١٦ أيلول دمع الكلام وأهيم بغيمة بيضاء تأخذني إلى آعلى ثمّ أعلى .
«وقلت بكتبلك» (يروح ويجي بيناتنا أيلول ، ويموت فوف السهل لون الليلكي، وما حدا يسأل، شو باك وشو بني)؛ أتذكر «محمد العبدالله» عندما التقينا في قهوة بحريّة نتبادل بعض الحنين، وقلت للعود: دربني على وتر إضافي، ليطلع المقام كشال ناعم في حب أيلول. ووصف الحب هذا مهارة لم أوتها. ترسمنا الغيوم على وتيرتها. نضع الخيال على تلفته البعيد .
أتذكر رائحة اليود في بحر بيروت وعطره المالح. فرحي جريح اليوم كالغروب على هذا الشاطىء.
كلمات توقظ الماضي، تحثّ على تذكّر الحمامة التي عششت على القرميد الاحمر وحلقّت على كفاف مكانها وتبادلت بعض الرموز ورحلت عن المدينة التي كنّا نمشي في خريطتها فتضيق بنا ونصرخ في متاهتها: نحبّك، نحبّك، نحبّك. وكان حبنا مرض وراثيّ .
بيروت صارت صغيرة مثل حبّة سمسم. لا المدينة مدينة ولا الديار هي الديار . . . كانت مدينة، صارت نصّاً .
. . .
كان خليل الدبس الفصل الثقافي في حياتنا البيروتيّة وكان اسمه الناهض من رماد الحرب اللبنانية إلى جمرة المطالعة الفكريّة والادبيّة والسياسية ساطع كالشمس. ولقد زرع فينا حب الكتاب ولم يحصد سوى الغياب .
كان خليل الدبس واقعي إلى أقصى الحدود وعميق بالتعدديّة الثقافيّة التي تمنح البلاد والعباد خصوصيتها. يبحث ولا يكلّ عن نقاط الالتقاء مع الآخر. كان بصره كبصيرته يخترق الدخان الاسود المنبعث من حرب ضروس أكلت الاخضر واليابس وكنت شاهداً على اسئلته السياسيّة الهاربة من الشعر في بيروت الحرب اليوميّة وفي المنافي البعيدة .
الألم لاحق هذا الرجل النبيل وحاصره، نام وتدثّر جسده النحيل بأرض الحلم .
سنفتقده دائماً وخاصة في الازمات وفي جميع نواحي الحياة لأنه جزء أساسي في تكويننا الهشّ.
وإنه فريد بثقافته ونشاطه الخارق ومزايا شخصيّة لا تورّث.
كان يسبق الموت الى الحياة فنحيا معه في رحلة الشعر والادب الى هدف يتلألأ بالمستحيل .
لقد اغلق الباب بعد رحيله وبعده لم نعثر على «الخليل».
كان يخصّب الفكرة وينعش الذاكرة ويروّض التناقض ويشعل النار في الجليد .
لم ينتصر في معركة الحياة لكنّه انتصر في معركة الدفاع عن الوطن وترك في كل واحد منّا شيء منه .
أحبنا خليل واهتم بهمومنا الشخصيّة وأرشدنا الى الاحساس بالبوح المسكوت عنه .
صوته الخافت كان صادحاً، كان صوت المتأمل والمعذّب. قرأ علينا مزاميره في زمن المحنة وكان يجد دائماً وقتاً للتأمل ومن الصعب ان تعثر على التطابق الشفّاف بين شخصيته العذبة وحضوره العذب وبين تقشفّه في العيش. انكسر صوته واستمر صداه .
خليل الدبس، ما زلنا معك وحولك نقرأ في كتابك عن حياة تتسّع لحلم عادي يحقق فيها الفرد والجماعة طريقتهم في العيش الكريم .
هل تتابع صورة غدنا؟ ما زلت أذكر وحتى اللحظة الاخيرة كنت عاكفاً على العمل لوطنك وكأنك تعيش أبداً .
وككل مبشّر لم يكتب كثيراً بقدر ما انخرط في النضال الفكري اليومي دفاعاً عن الامل .
خليل الدبس، حاضر للصداقة اللذيذة، أليف ووديّ وهو أخويّ لا أبويّ، يصغي اليك بتواضع من يريد أن يعرف ثم يستدرجك إلى اسئلة حكمته وثقافته .
كان حالماً وكم نحن بحاجة الى الحالمين .
عاد الى الارض ليغرس فيها شجرة المعرفة .
خليل الدبس شكراً لك .