كأنك سائح في بيروت العثمانية..
|الثلاثاء07/02/2017
كل تلك الوثائق المصوّرة والمكتوبة، التي عززت مكانة بيروت وجعلتها مقصداً للسياح والتجار والرحّالة فلم تعم محطة توقف طويل ومضنٍ، حفظها دبّاس في مجموعته الهائلة من البطاقات البريدية والصور الفوتوغرافية على تنوعها، منذ ولادة الفوتوغرافيا في النصف الأول من القرن الثامن عشر.ولد فؤاد دباس (1930-2001) في بيروت. درس الهندسة. إلى إهتمامه بأعمال العائلة، أسس أكبر المجموعات العالمية من الصور الفوتوغرافية والبطاقات البريدية عن لبنان والشرق الأوسط. ميله إلى جمع الصور القديمة بدأ إشباعاً لعاطفة تحوّل مع الوقت إلى منهج علمي مؤسساتي. بنى مجموعته على قاعدة بيانات تسهّل له وللباحثين في علم الإجتماع وعلم الأجناس ومهندسي المدن، مصادر وثائقية ضرورية لصياغة طروحاتهم حول تاريخ لبنان والمنطقة. دفعه هذا الولع بالصورة القديمة إلى تكريس وقته لإغناء مجموعته. آمن بأهمية الجمع والحفظ والتوثيق وتبادل الصور القديمة بهدف حماية ذاكرة جماعية وتاريخ منطقة بأكملها من الإندثار. في 2001 اقام معرضه في معهد العالم العربي وفي باريس، وبينما كان يحضّر لنقله إلى متحف سرسق في بيروت فاجأه الموت.لم ينحصر شغفه في جمع الصور فقط بل تعداه إلى جمع الوثائق المتعلقة بلبنان وبالشرق عامة.
مرجع بصري فريد من 45000 صورة، موزعة على الشكل التالي: 22 ألف بطاقة بريدية، 20 ألف صورة فوتوغرافية، ألفي شريحة ضوئية (Slides) وسلبية، ألف صورة مزدوجة (Stereo) أي مقسّمة إلى قسمين متشابهين تقريباً، تُشاهد من خلال منظار يوحي للعين بأبعاد ثلاثية. بوّب المجموعة وصنّفها وفق العناوين التالية: البلد (18 بلداً من الشرق الأوسط، المغرب العربي، أوروبا إيران، الهند)؛ فترة الحكم (العثمانية، الإنتداب الفرنسي، الجمهورية اللبنانية)؛ إتجاه الصورة (عامودي/ أفقي)؛ الحقبة الزمنية (1800- 1940)؛ المصوِّر (50 مصوّراً وناشراً)؛ الأسلوب (بالأسود والأبيض، بالألوان، أو البني –سيبيا)؛ النوع (صورة فوتوغرافية، بطاقة بريدية، صورة مزدوجة).
لا تكمن قيمة المجموعة في عددها بل في الجهده والبحث عن الصور والتحقيق في مصادرها ومواضيعها ومعرفة مصوريها ومناسبات وأمكنة إلتقاطها، إضافة إلى الهيكيلية التي وضعها أساساً لتصنيفها وأرشفتها بطريقة علمية عصرية.
في شبابه تساءل دبّاس عن سبب عدم وجود صور للبنان في كتب التاريخ “كان أساتذة التاريخ يتلون علينا الكلمات من دون أن نشاهد صوراً عن بيروت أو عن لبنان القديم” قال في مقابلة إذاعية (كانون الأول 1996). يضيف: “بدأت جمع الصور في 1973 عندما وجدت لدى بائع كتب على ضفاف نهر السين في باريس مجموعة من البطاقات البريدية القديمة، فسألته إذا كان لديه أيضاً بطاقات عن دول أجنبية وخصوصاً لبنان، فردّ “طبعاً!”. هكذا حصلتُ على مجموعة من 50 بطاقة. مذاك وأنا ابحث عنها في أسفاري لأنها كانت تُرسل من لبنان إلى الخارج، أو ويحملها السياح والرحالة والمرسلون العائدون من لبنان. لا يكتفي جامع البطاقات والصور بالتجميع العشوائي بل يسعى إلى الحصول على كامل المجموعات التي تصدر عن ناشر أو مصوّر أو في مناسبات معينة.
يوضح هذا الـ”جامع المهووس” “أن هناك نوعين من البطاقات البريدية: البطاقة المطبوعة، والبطاقة المنسوخة بالتقنية الفوتوغرافية التي لم تتوفر في لبنان آنذاك وسائل إنتاجها.
اهتم بتقنيات التصوير والطبع وتطورها “لأنها تساعد في تحديد تواريخ تصويرها والبحث عن مواضيعها إنطلاقاً من ملمس الصورة الخارجي وتقنية طباعتها” قال.
إلى حشريته العلمية لا ينكر مشاعر الحنين التي حثّته أحياناً إلى التفتيش عن الصورة. بيروت هي التي تهمه بالدرجة الأولى، وتطورها كمدينة “إنطلاقاً من المدينة القديمة إلى تمددها خارج الأسوار”. بيروت التي جمع أزمنتها صوراً، لا نعرفها اليوم. “جمعُ صورها منذ القرن الـ19 أشبه بـ “Puzzle” إن أعدنا تركيبها فربما تساعدنا في ترميم القديم والكشف عن المطمور والتخطيط لمدينة المستقبل كما تُسعد عشاقها ومحبيها بيروت القديمة.” قال.
كتب دبّاس تاريخ البطاقة البريدية، إنطلاقتها العالمية ورواجها في لبنان. “ما حصلت عليه من لبنان قليل نسبياً، صوّره بونفيس وخلفه غيراغوسيان. ومن المواضيع المهمة، آخر ما إلتقطه أدريان بونفيس، زيارة الأمبراطور الألماني غليوم الثاني لبيروت في 1898”.
في مجموعته صور نادرة لبيروت بكاميرات محترفين (مجموعة من 1860 لفرنسي تولى آنذاك إدارة مرفأ بيروت) وأخرى لهواة، من بينها صورة وجدها في أمستردام مؤرخة في 1870، تُظهر المرفأ من زاوية غير مألوفة وغير موقّعة، “ما يدل على أنها لهاوي تصوير” استنتج دبّاس. انتشرت البطاقة البريدية لبيروت والشرق الأوسط مع عودة المرسلين إلى بلادهم، ولم تنتقل مع المهاجرين اللبنانيين “العاجزين عن دفع أثمانها الباهظة آنذاك”(دبّاس).
مجموعة دبّاس عن بيروت تقدّم مدينة نموذجية. في كتابه الأول “بيروت ذاكرتنا”-1986، (256 صفحة. صدر بالفرنسية ثم بالإنكليزية فالعربية)، أعاد تجميع بورتريه للمدينة كما كانت بين 1880 و1930 عبر البطاقات البريدية. في كتابه الآخر “مصورون في بيروت: 1840- 1916”-2001، واصل بحثه عن بيروت المتغيرة ثم الزائلة، في مجموعة صور وبطاقات تعود لزمن ولادة الفوتوغرافيا وإنتشارها. صدر بالفرنسية، وكان دبّاس بصدد ترجمته إلى الإنكليزية عندما فارق الحياة. في 1996 كان قد أصدر “المصورون الأوائل لجبل لبنان”، (بورتفوليو) ضم 60 صورة اختارها من معرض أقامه في بيت الدين في العام نفسه. “رحلات إلى الشرق: 1853-1855، و1860-1862. يوميات الكونتيسة برثيوس”. (244 صفحة). وثيقة حققها دبّاس، عايشت كاتبتها حوادث 1860 والمتغيرات السياسية والإجتماعية لها.
كتبه عن بيروت ربما حرّضت على إعادة تكوين المدينة بطريقة أخرى “هذا ما أعلنته منذ كتابي الأول، قال، الذي أهديته إلى لبنانيي الشتات الذين هاجروا بسبب الحرب الأهلية، لأقول لهم أنها طريقتي في وجوب أن تكون بيروت محبوبة، نعثر عليها من جديد، نلتقيها مرة أخرى. نحافظ عليها ونتعلّق بها، غير أن بعضنا يخشى التطلع إلى الماضي”.
أبعد من العواطف ومشاعر الحنين تجاه زمن زائل، يأتي دور الصورة الداعمة للتطور المديني الذي يطرحه دبّاس: “الوثائق المرئية المصوّرة للبنان والمنطقة قليلة. في البداية شعرت أن التجميع لا معنى له”. إنتقد إعادة الإعمار: “إننا نبني مدينة إنطلاقاً من الوسط وليس العكس. لا وجود لقلب المدينة في هذا الحاضر المغلف بالباطون. توجّه إلى الجيل الشاب ليشاهدوا ما لم يعايشوه، كما إلى مجايليه “الذين يكنون لبيروت التي يحبونها مشاعر الحنين” قال. إهتم بالحقبة العثمانية “لأننا لم نعايشها”، بيروت التي عرفها كانت مدينة الأسواق والشوارع والمقاهي وساحة الشهداء، حيث إلتقى أبناؤها على إختلاف إنتماءاتهم. بيروت القديمة، بنظره، كانت تجسيداً للتعايش والضيافة.
عرفت بيروت، حسب فؤاد دبّاس، التصوير منذ دخولها إلى الحداثة. إلى الحملة المصرية في 1840 شهدت بيروت حدثاً آخر هو وصول الفوتوغرافيا إليها. تحولت المدينة إلى محطة ضرورية لكل وافد إلى الشرق بفضل أمان وخدمات مرفئها. من الرحالة المصورين من آثر البقاء فيها، أولهم، تيودور لووي مفتتح أول أستوديو في الشرق حوالي 1845. وتوالت البعثات العلمية: مكسيم دو كامب مع غوستاف فلوبير (1849)، ولوي دوكليرك (1859). في حوادث 1860 رافق جيش نابوليون الثالث بعض المصورين الهواة، منهم لويس فيني الذي حقق صوراً رائعة لبيروت، كما ترك المستشرق لوي سوفير صوراً عن مدينة بدأت تتغيّر.
منذ 1865 إمتلأت بيروت بالمصورين المقيمين، شارلييه، أوبين، تبعهما بونفيس الذي ذاع صيته لإصداراته من البطاقات البريدية وشبكات توزيعها. وثّق هؤلاء الحياة اليومية للمدينة ووثقوا أحداثها كهبوط طائرة الفرنسي فيدرين وزيارة الأمبراطور الألماني. منذ بداية القرن الـ19 كان الحجاج والتجار يعودون حاملين معهم الرسومات المحفورة، لكنهم في 1839 إشتروا من القدس ومن مصر صوراً فوتوغرافية.
زوّد المصورون المقيمون في بيروت الحجاج والتجار العائدين منها بالصور التي كانوا يبيعونها في محلاتهم، وأصبحت تباع في فنادقها. إنه العصر الذهبي للصورة وخصوصاً للبطاقة البريدية، الذي بدأ مع تصنيع آلات تصوير صغيرة المقاس خفيفة الوزن وسهلة الإستخدام، قابلها إختصار في عمليات التظهير والطبع. مع مطلع القرن العشرين أصبح بإمكان الجميع إلتقاط الصور بأنفسهم.
بدأت بيروت منذ 1897 تستورد بطاقاتها البريدية المطبوعة في ألمانيا والنمسا وسويسرا، دون أن تجد رواجاً بسبب أسعارها المرتفعة. تطور تقنيات الطباعة الورقية وضع بين أيدي المستهلكين مشاهد فوتوغرافية أقل سعراً، جذبت العديدين لنقاوتها وواقعيتها. في بيروت تحوّل عشرات المصورين وأصحاب المكتبات والفنادق إلى ناشرين لهذه البطاقات. بلغ عدد البطاقات المرسلة في العالم 900 مليون بطاقة. عدّل الفرنسيون في تصميم البطاقة مفسحين المجال للصورة، فتحولت وثيقة مرئية.
يعتبر دبّاس ان هناك عهداً ذهبياً ثانياً للبطاقة إثر نهاية الحرب الأولى وتوافد الجنود الأوروبيين إلى لبنان، فنفدت من الأسواق ما اضطر الناشرين والمصورين إلى تصوير ما يرضي هؤلاء، فأنتجوا أعداداً كبيرة ليست بالجودة السابقة، لكنها بقيت وثيقة مهمة، أظهرت بيروت تحت الإنتداب الفرنسي بعماراتها الحديثة وفنادقها الشهيرة وثكناتها العسكرية ومرفئها، العاصمة العصرية بحدائقها الخضراء التي راحت تختفي من البطاقات مع السنوات. ذكّرت البطاقة البريدية المتواضعة بما كانت عليه بيروت بكثير من مشاعر الحنين، لكن من دون تجميل. “إنها متحدرة من الفوتوغرافيا، لا تسير مقنّعة، بل عارية، تختلف عن الرسم وعن الصورة السينمائية. إنها الشاهد الأكثر قرباً من إلى الحقيقة والأقرب إلى الواقع المشتهى” كتب.
في زمن الحروب والهدم خاف دبّاس على بيروت، تمنى “لو نودعها بين أيدي علماء الاثار وحافظي المتاحف، لتشارك العالم في حفظ تراث الإنسانية”. في صوره التي جمعها لاحظ بأن المدينة حافظت على تراثها المعماري وعلى كل ماضيها. آمن دبّاس، أنه لا يمكن التغاضي عن واسطتين إعلاميتين هما الفوتوغرافيا والبطاقة البريدية لدورهما كشاهدين أمينين على حقائق كان يصعب رصدها.
في متحف سرسق، ستعيدنا صور فؤاد دبّاس إلى بيروت التي أحببناها من دون أن نعيش أزمانها، لكننا حتماً سنتعرّف على بيروت التي أودعناها الحرب، بينما أودعها هو البطاقات البريدية متمنياً أن تبقى كما كانت في الصور، مع إحساسه بما يشبه المنفى في الداخل: “لأنني لم أعد أجد مدينتي!”.