العملاق نصري شمس الدين مكرّماً في بلدته جون في الذكرى التسعين لميلاده
عبير حمدان– البناء
حين تسير في الأحياء العتيقة في بلدة جون الشوفية، تطالعك مشاهد كثيرة مجبولة بالحنين إلى زمن كانت الطواحين فيه تزخر باللحن المجبول بعبق الياسمين وزهر الليمون، وتحدّثك الحجارة التي عاصرت الفنّ الأصيل عن صوت من الصعب أن يتكرّر في ظلّ ما تقوم به وسائل التطوّر من تعليب وتصدير لأصوات النشاز التي ينال أصحابها صفة «نجوم»، فيما هم لا يقدّمون إلا القرقعة والتطبيل الفارغ من أيّ مضمون، وجلّ ما يتركونه في الذاكرة الآنيّة، ضجيج راقص من دون أيّ قاعدة.
تعيش المواويل بين تلك البيوت، وقد تلمح وجوهاً لأسماء سكنت الأغنيات التي حاكت أمسيات «الصيادين». ويُخيّل إليك أنّ «العصفورة» ذات اللون الرمادي تسأل عن «سلاحهم» الذي يلمع من بعيد. وربما تجد «سعدية» و«حليمة» وغيرهما من اللواتي ذكرهن الفنان الراحل العملاق نصري شمس الدين في أغنياته الخالدة حتى يومنا هذا.
نصري الذي غنّى الحبّ، لم تغب عن حنجرته الماسية فلسطين، ولها غنّى من كلمات الشاعر الفلسطيني يوسف الحسون:
«يا طير يا طاير على فلسطين
بكّير صبّحها ومسّيها
سلّم عليها وقلها جايين
جايين نحرّر أراضيها».
ولعلّه يرى من عليائه أن التحرير قريب، هو الذي ورث عذوبة الصوت عن والديه وكانت والدته تطرب لوليدها عندما تسمعه يدندن أغاني الفنان كارم محمود. ولكن الوالدين لم يدر في خلدهما أن أصغر أبنائهما سيخالف رغبتهما في أن يكون طبيباً أو مهندساً وسيحترف الغناء لآخر لحظات حياته.
بعد أن حصل نصري على شهادة التعليم المتوسط عام 1943 عمل كمدرّس لغة عربية لمدة ثلاث سنوات. ولكن هذه المرحلة سرعان ما انتهت من حياته بعد أن ضبطه مدير ثانوية صور وهو يغنّي للطلاب في الصف خلال الحصة الدراسية، فخيّره بين الغناء أو التدريس فاختار الرغبة الأولى من دون تردد.
ولاحقاً، أصبح شمس الدين من مطربي إذاعة لبنان الرسمية، ثم بدأت علاقته الوثيقة مع الأخوين رحباني واستمرت 28 سنة، وغدا صوته حكراً على الرحابنة ليشارك في جميع أعمالهم المسرحية والفنية. لكن القدر لم يمنحه الكثير من الوقت فكان موعده مع الموت في 18 آذار 1983 في نادي الشرق في دمشق حيث هوى عندما كان على المسرح. والمؤلم في رحيله المباغت أن الجهات الرسمية في وطنه لم تكلّف نفسها عناء إحضار جثمانه إلى مثواه الأخير، فكان أن فوجئ أهالي بلدته بسيارة أجرة تحمل نعشاً وتصل إلى وسط البلدة ليسأل سائقها عن منزل نصري شمس الدين.
مخّول: التشديد على الوفاء
يسأل رئيس بلدية جون جورج مخول عن سبب تجاهل قامة فنية كالفنان نصري شمس الدين. ويطرح عدداً من الاحتمالات، مؤكداً أن الوفاء هو المقياس تجاه الكبار الذين رحلوا بصمت، فيقول: تسألين عن تجاهل الجهات الرسمية لقامة فنية وبدوري أكرر هذا السؤال، أربع وثلاثون سنة على رحيل الفنان نصري شمس الدين ولم يهتمّ أحد، ربما لأنه من فئة معيّنة أو ربما لأن عائلته أهملت الذكرى وربما لأنه عمل مع أشخاص لم يمنحوه حقه، لا أعلم. من جهتي لا أحبذ كلمة تكريم، إنما أشدّد على الوفاء. نحن بدأنا بتكريم نصري شمس الدين وفاءً له، ولكن هناك كثيرين قدّموا لجون مثل «شوشو» حسن علاء الدين وميشال نبعة وغيرهما ممن يستحقون أن نفيهم حقهم.
ويضيف مخول: بدأت الفكرة بطرح من أبناء نصري الذين قصدوني وقالوا إنهم يريدون أن يفعلوا أيّ شيء تكريماً لوالدهم، وهم لا يملكون الإمكانيات، وكانت الخطوة الأولى العمل على إصدار طابع بريدي بِاسمه. وعليه، تواصلت مع وزارة الاتصالات والمعنيين فيها، وبالفعل رحّب الوزير بالفكرة ووقّع على الفور، وقرّرناً أن يكون الحفل على مستوى رسميّ، فقصدنا وزارة الثقافة وحصلنا على الرعاية والحضور من الوزير غطاس خوري الذي اتصل بالأوركسترا السمفونية الوطنية التي يقودها المايستروا أندريه الحاج، وطلب منه التحضير للحفل المرتقب الذي سيضمّ إلى جانب الكورال التابع لها، فرقة دبكة. ليصبح المشهد عبارة عن رسيتال ضخم يليق بالمحتفى بذكراه. وكنت أحبّذ أن يكون الحفل في ساحة الضيعة القديمة لما في ذلك من رمزية، ولكن المشكلة في الوصول إلى الباحة، إذ إنّ طريقها واحد ومن الصعب أن تستوعب جميع الوافدين، وعليه كان فناء منزل المهندس بسام عيسى هو المكان الأنسب بناء على الكشف الذي قام به مهندس الصوت والمايسترو، وحدّدنا التاريخ مساء اليوم 26 آب.
أما لماذا الإصرار هذه السنة بالذات على تكريم شمس الدين؟ يجيب مخول: هذه السنة تصادف الذكرى التسعين لميلاده، وهو أكبر من ضيعته ومن وطنه، وهو قد ظُلم في حياته وفي مماته، ولم أزل أذكر كيف وصل جثمان نصري إلى جون، حين وصلت سيارة برقم تسجيل سوريّ تحمل صندوقاً خشبياً ويسأل سائقها عن منزله، وهذا المشهد حفر عميقاً في ذاكرتي.
ويشير مخول إلى برنامج الاحتفال، فيقول: سيتم عرض فيلم عن سيرة حياته وسيتم توزيع هذه السيرة على قرص للحضور، إضافة إلى البطاقات البريدية والطوابع التذكارية، والميداليات المذهبة، وأزرار فضية، وستكون هناك كلمات للجهة الراعية ولكلّ من ساهم في تنظيم هذا الحدث.
ولا يغفل مخول دور الإعلام في الإضاءة على الحدث مثنياً على الجهد الذي تبذله «جمعية بيت المصوّر» في هذا الإطار. متمنّياً أن يكون هناك سعي حقيقي من قبل الجهات الرسمية والنقابية المعنية للحفاظ على الإرث الفني للفنان نصري شمس الدين.
جابر: امتلَكَ قدرات قلّ نظيرها
يتحدّث رئيس «جمعية بيت المصوّر» الإعلامي كامل جابر عن نصري شمس الدين العملاق وكيف انتابه الحزن الشديد لأنه لم يستطع المشاركة في تشييعه فيقول: أذكر أنني كنت طالباً في مهنية صيدا يوم تشييع الراحل العملاق نصري شمس الدين، كان ذلك عام 1983 وانتابني حزن شديد لأنني لم أستطع المشاركة في تشييعه، وأنا مولع بفنه وأغنياته. وظلّت تدور في بالي فكرة أن نصري شمس الدين لم يكرّم في حياته أو مماته بما يستحق، على ما كان يمتلكه من قدرات في الصوت والغناء والتمثيل قلّ نظيرها.
تدور الأيام، وفي ذكرى ربع قرن على رحيله أجريت تحقيقاً عنه في صحيفة «الأخبار» وتعرفت إلى عائلته، لينتابني وجع جديد كيف أن الراحل ترك إرثاً كبيراً من أغنيات «جاهزة» لم تنشر أو تذع، وكيف أن كثيرين استخفوا بإرثه ولم يكرّم كما يجب.
ويضيف جابر: منذ سنتين كتبت في أخيرة «السفير» عن اليوم العالمي لطابع البريد وسألت «أين طابع نصري شمس الدين؟» لا سيما أن وزارة الاتصالات و«ليبان بوست» في العام 2011، كرّمتا الفنانين ممّن يستحقون فيروز ووديع الصافي وصباح وحسن علاء الدين «شوشو» ونبيه أبو الحسن «أخوت شناي» إلى جانب «كركلا» والأخوة بصبوص… من خلال إصدار مجموعة من ثمانية طوابع وتجاهلتا نصري شمس الدين، ثم كرّمتا في العام 2016 الراحل الكبير زكي ناصيف والممثل القدير الراحل إيلي صنيفر. من هنا رحت أنا من خلال «جمعية بيت المصوّر في لبنان» وبالتعاون مع «معرض خليل برجاوي لطوابع البريد» و«منتدى الخميس ـ حفظة الذاكرة» نبحث عن وسيلة نستطيع من خلالها تكريم الراحل الكبير، خصوصاً أن العام 2017، يحمل الذكرى التسعين لولادته في 27 حزيران 1927 . وكانت الفكرة إصدار مجموعة من البطاقات البريدية تنشر صوراً نادرة للفقيد العملاق في هذه الذكرى ونبذة عنه باللغتين العربية والإنكليزية وإقامة احتفال في بلدته جون نرفع من خلاله الصوت لإعادة الاعتبار إلى من يستحقه بجدارة، نصري شمس الدين، ونطالب بإصدار طابعه البريدي الذي يعتبر من أرفع الأوسمة الوطنية.
سارعت إلى الاتصال ببلدية جون من خلال رئيسها الأستاذ جورج مخول الذي وافق على اللقاء للتشاور مرحّباً بالموضوع، ثم اتصلت بالصديق مصطفى نصري شمس الدين الذي أبدى هو الآخر كل استعداد، مع أنّ الأفكار كانت مشوّشة. لكن، ومن اللقاء الأول برزت مجموعة من الأفكار التي تعزّز إقامة الذكرى وتكريم نصري شمس الدين، ومنها إلى البطاقات الستّ التي بدأنا اللقاء حولها، إصدار ميدالية مذهبة بمجموعة توزع على العائلة والمساعدين في إقامتها لاحقاً أصدرنا مئة ميدالية تحمل صورة نصري وتوقيعه وشعار وزارة الثقافة التي أبدت كل استعداد للتعاون ومنحتنا هذا الكرم . وإصدار مئة زرّ مذهّب يحمل صورة نصري، وتقرر الاتصال بوزير الاتصالات لمقابلته وتقديم طلب الحصول على طابع تذكاري لنصري. وجرى ذلك بعد أقل من عشرة أيام بحضور رئيس البلدية وعائلة نصري والنائب محمد الحجار ووقع الوزير بالموافقة على إصدار الطابع، لكن الأمر يحتاج إلى قرار مجلس الوزراء ليصبح قيد التنفيذ.
وفي زيارة وزير الثقافة الدكتور غطاس خوري لدعوته رعاية مهرجان التكريم، أوعز الوزير إلى «الأوركسترا الشرقية اللبنانية» التابعة للوزارة بإدارة المايسترو أندريه الحاج لتقديم حفل من أغنيات نصري خلال المهرجان. وهكذا بتنا ننتظر بفارغ الصبر يوم المهرجان الذي سيشكل سنوية إعادة الاعتبار للفنان الكبير نصري شمس الدين، بعدما تأمنت كل السبل لتحقيق أمنياتنا وأمنيات عائلته الصغيرة، أبنائه وأحفاده، وعائلته الكبيرة أبناء بلدته جون التي طالما أحب وغنى لها، ومعهم كل اللبنانيين الذي ما زالوا إلى اليوم يحبون أغنيات نصري وصوته ومواويله، وما فتئ تلامذة المدارس يدبكون على أغانيه الحماسية على نحو «طلّوا الصيادي» و«عالعالي الدار» و«رقّصتك بالعيد» و«يم الأساور» وغيرها.
الشامي: الفنان الشهم
من الصعب أن تحثّ سلام الشامي رفيق درب نصري شمس الدين على الكلام، وهو الذي يختزن في ذاكرته الكثير من القصص. ولذلك نخفي أداة الجريمة المتمثلة بآلة التسجيل ونتركه على سجيته ليخبرنا كيف بدأ رحلة الفنّ الشاقة والطويلة، فيقول: رافقته منذ البداية، وهو الذي شاهدني أرقص الدبكة في أحد الأعراس فطلب منّي مرافقته راقصاً في حفلاته ومع مجموعة من شباب البلدة وشاباتها. أسّسنا فرقة «جون للرقص الشعبي» ثم أصبحتُ مدرّبها ومؤلف رقصاتها. مع نصري خرجت من دائرة البلدة الصغيرة بما تختزنه من صوَر أسّست للكثير من أغنياته، وجُلتُ في لبنان كلّه ورقصت في المهرجانات أيام العزّ. وبعدئذٍ «برمنا العالم كلّه». وأذكر رحلتنا إلى أميركا وكيف «انكسرنا مادياً»، وهناك أتاه أحد الأشخاص بعرض ماليّ خياليّ لكنه رفضه بحزم لأنه متمسّك بقوميته، فكيف له القبول بعرض من شخص يهودي… وهو الإنسان الشهم، والفنان الذي غنّى لفلسطين والمتأثر بشقيقه الكبير هاني الذي كان من رفاق الزعيم أنطون سعاده.
ويختم الشامي: نصري كان بعيداً عن الصحافة ولم يبحث عن التسويق بالمعنى الإعلامي، هو كان يحبّ فنّه ووهبه حياته كلّها، ولم ينل حقه المادي والمعنوي وتم تمييز كثيرين على حسابه رغم أنه كان أكبر من الجميع ولم يزل كذلك في نظري.
يذكر أن حفل تكريم الفنان الراحل نصري شمس الدين يقام مساء اليوم في بلدته جون، برعاية وزير الثقافة غطاس خوري وحضوره، وبدعوة من بلدية جون و«لجنة إحياء تراث نصري شمس الدين» و«جمعية بيت المصوّر في لبنان»، ومعرض خليل حاوي لطوابع البريد، ومنتدى «الخميس ـ حفظة الذاكرة».