كامل جابر
باكراً ترجل عن صهوة عطائه ورحل، الآدمي حتى العظم غلبه المرض وغاب… يترك في الروح ألماً وغصة، وهو المبدع في اختياراته وأعماله، حتى ظن البعض أن جان شمعون من كثرة حماسته للقضية الفلسطينية والقضايا الثورية والإنسانية، أنه فلسطيني الولادة والنشأة… ولم يكن غريباً أن يختار المناضلة الفلسطينية مثله مي المصري لتكون شريكة حياته…
صديق آخر من أصدقاء المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، بل من عصبه وروحه، يرحل هو الآخر هذا الأسبوع بعد رحيل الأديب الدكتور أحمد علبي… ليترك فراغاً ما كان يسده غير جان شمعون بحد ذاته، صاحب مدرسة إخراج وعطاء من نوع المقاومة، بل مدرسة مقاومة ستنهل منها الأجيال إلى أمد طويل.
لن تفي الكلمات حق صديقنا جان شمعون اللبناني الفلسطيني المناضل المبدع النظيف الآدمي… لكن لا بد من استعادة الذاكرة حول نشأته وأعماله…
كل العزاء لعائلته ولنا في خسارته المدوية… ولميّ المصري وعائلتها الصبر والسلوان…
نادي السينما في الجنوب بداية مع جان شمعون
تتكثف العناوين في نيسان 2007، التي نتظلل خيمتها لنطلق نادينا للسينما في الجنوب، هي الذكرى المشؤومة التي ما زالت تقرع في البال كلما حلّ نيسان ما بعد الـ75، فكيف بها وهي عادت تطرق أبوابنا نحن الرافضين نهجها وأسيادها؟ هي المناسبة التي جعلت المخرج جان خليل شمعون، يطلق فيلمه التوثيقي الأول من نحو ثلاثين عاماً “تل الزعتر”؛ وهل أبدع من اختيار عمل يحمل بصمات جان شمعون، عيداً نعلن من خلاله انتسابنا إلى السينما المعرفية التي كلما اشتقنا إليها، نشد الرحيل نحو العاصمة بيروت تقرباً إليها، تماماً كما الهجرة في مواسم الاجتياحات الاسرائيلية التي جعلت الجنوبيين يتحسسون منازل غير بيوتهم ويلتحفون فضاءات غير سمائهم، ويتوهون في أزقة راحت تسرق منهم، المرة تلو المرة، خيرة من أحبائهم، بعد اكتشاف مغرياتها المختلفة الاسماء والأقانيم.
تعجز الصفحات عن احتواء سيرة المخرج البقاعي المولد، الجنوبي الانتماء، الفلسطيني الهوى، جان شمعون؛ وتكفي عناوين أفلامه التوثيقية، ولا أدري إذ يرغب بعبارة التسجيلية، والروائية كذلك، لأن تدلل على رائد السينما التوثيقية في لبنان، الواقعية ذات النمط السهل، التي تشبه صاحبها باتساع أهدافها المعرفية وقضاياها الوطنية الصلبة المقاومة، وهمومها الملتبسة خلف جملة من أسئلة محقة؛ لطالما نكزت ضميرنا ووجداننا ومفهومنا للحياة الحرة الذي لم يكن يوماً متستراً خلف قوقعة.
نعم، بدأت تتسرب إلى حيواتنا نحن أجيال الحرب اللبنانية، ثقافة السينما اللبنانية والفلسطينية الجدية، لما راح جان خليل شمعون، وشريكته في الحياة والعطاء المخرجة مي المصري، يطرحان قضايانا الوطنية والاجتماعية والانسانية بأسلوب يشدنا ويترك فينا شوق جدل وأسئلة وانتظار لفصول أخرى تطرح هواجسنا المختلفة. وإذ به أو بهما، كلما خمدت سيرته أو سيرتهما، سنة أو أخرى، يطل ويطلان علينا بإنجاز يسمرنا من جديد حول اقتفاء حقيقة إبداع هذا الرجل وتلك المرأة؛ ونبقى رهائن انتظار.
في جعبتي تسجيلات أعقبت الكثير من الاعتداءات على مناطق مختلفة في الجنوب، على مدى عشرين عاماً من تجربتي الصحافية، وحينما شاهدت “رهينة الانتظار” رأيتها وأيقنت روعة اختيار الأستاذ جان شمعون أبطاله من الحياة الواقعية، ليوقفنا على الصدق الصدق، من غير نصوص مهيئة، هي العفوية المطلقة التي تبوح بالعنفوان والألم، وتصور الحزن الإنساني المتأتي من ظلم العدو من غير مواربة؛ شخصيات تطلق العنان لثقافتها المقاومة ولسخطها تجاه حرمان وإهمال ولا تستسلم للقهر، بل تنتفض وتسلك الطريق التي سقط الشهداء على قارعتها، وتزرع الحقل الذي أحرقت نيران العدو موسمه، وتبني البيت المهدم أكثر من مرة؛ وتشيع الشهيد لتستقبل الحياة.
وإذ نعلن انطلاق نادي السينما في الجنوب، فلرغبة في الوقوف على السينما الشاملة والواقعية التي تفتح آفاقنا نحو ثقافات ومعارف وتجارب شعوب، يحثنا السعي إلى تطوير الفكرة واكتساب الخبرة. لذلك نستلهم من وجود شريك “بعدنا طيبين قول الله” و”الخروف الأسود في العائلة”، المخرج الكبير جان شمعون بيننا لتقصي مفهومه للتجارب السينمائية الواقعية المختلفة: تل الزعتر، أنشودة الاحرار، تحت الانقاض، زهرة القندول، بيروت جيل الحرب، أطفال من جبل النار، أحلام معلقة، طيف المدينة، أرض النساء؛ متوقفين عند فيلمه “رهينة الانتظار” عرضاً واستفساراً، مرحبين بمشاركة بطلته العفوية النصوص والسرد الدكتورة الطبيبة ليلى نور الدين حمزة، بعد مرور 13 عاماً على الفيلم، المتجلي بتجربة جرت قبل عقد وثلاثة أعوام، ومن عشرات السنين، وجرت أمس في عدوان 2006، كأن الفيلم يجيء بعد هذا العدوان، إنما العدو مدحور عن أرضنا منذ أيار العام 2000، تماماً كما توقع الإعلامي ساطع نور الدين في بعض حوارات الفيلم، ولم تكتب لهذا العدو عودة إليها بفعل المقاومة الباسلة.
في هذا المساء العامر بالحضور، والمناسبة الجذلى بضيفها الكبير، الأستاذ جان شمعون، بالصديقة الدكتورة ليلى نور الدين نستهل “نادي السينما في الجنوب” بفيلم “رهينة الانتظار، بعد استماع لخير كلام من الأستاذ جان وشهادة من الدكتورة ليلى.
النبطية 21/04/2007
كامل جابر
وكتب الشاعر الدكتور محمد فران:
عمر الكبار على الأزمان مختصر وعمر جان لمجد الدهر عنوان
جان شمعون الكاميرا سلاحاً
عبدالرحمن جاسم
جان شمعون (1944) ابن قرية سرعين البقاعية، وخريج الجامعتين اللبنانية (معهد الفنون الجميلة) والفرنسية (جامعة باريس الثامنة) صنع مدرسته الخاصة. تقترب سينماه كثيراً من «الناس».
تعبّر عنهم وتقترب منهم ومن أوجاعهم، «فالسينما إن لم تكن ملتصقة بالواقع اليومي للناس وبقضاياهم ومشاكلهم، ليست سينما» كما يشير في إحدى مقابلاته. يعتبر شمعون من الجيل المؤسس للسينما اللبنانية الجديدة، ضامين إياه مع أسماء مثل برهان علوية ومارون بغدادي. أمر ينتقده، مؤكداً أنّه «مختلفٌ عنهم ومستقل، ولكلٍّ منا أسلوبه».
عرف اليساري المقاوم على طريقته أن يقدّم سينما تشبه ما يريد قوله لو أنّه يحمل بندقية، فكانت الكاميرا بين يديه أشبه بسلاح، وأكثر من هجوم. «الحمل الأسود» في عائلة شمعون، الذي توسّط له الرئيس اللبناني كميل شمعون ـ شخصياً- لإخراجه من سجنٍ للقوات اللبنانية في السبعينيات (بعد خطفه على أحد الحواجز)، قدّم فيلمه الوثائقي الأوّل «تل الزعتر» في عام 1976 عن المجزرة الفظيعة، ليتبعه بعد عامين بوثائقي «أنشودة الأحرار»، متحدثاً عن حركات التحرّر في القارات الثلاث. خلال تلك المرحلة، تعرّف إلى المخرجة الفلسطينية مي المصري التي ستغدو شريكة حياته الشخصية والإبداعية. هذه الشراكة ستخولّهما العمل معاً، فتغدو أعمالهما ذات روحية واحدة ولو كان الاسم على الأفيش لأحدهما. معاً، قدما «تحت الأنقاض» (1982)، ليتبعاه بفيلم «زهرة القندول» (1985) الذي حصد لهما كثيراً من الجوائز والاهتمام العالمي. قارب الشريط الوثائقي قضيةً شديدة الأهمية هي دور المرأة، وخصوصاً الجنوبية في مقاومة الاحتلال الصهيوني. لاحقاً، أتى تسجيلي «جيل الحرب» (1989) ليقترب من بعدٍ إنسانيٍّ آخر، هو الجيل الذي ولد في الحرب و«تربّى» عليها وفيها، ليتبع هذه التجارب بوثائقيين هما «أحلام معلّقة» (1992) مع مي المصري (50 د ـــ 10/5)في حكاية حول مقاتلين سابقين من الحرب الأهلية باتا بعيدين عنها في إنتاج لـ bbc و«رهينة الانتظار» (1994) الذي يتناول قصّة طبيبة تعود إلى جنوب لبنان لتقارب الاحتلال وهواجسه.
في عام 2000، قدّم شمعون ـ وحده هذه المرّة- فيلمه الروائي الأوّل (الوحيد حتى اللحظة) «طيف المدينة» في مكاشفةٍ مباشرة مع الذات حول الحرب اللبنانية. إنها حكاية أحد «أبناء هذه الحرب» في حكايةٍ ستغدو معتادةً لاحقاً مع الأيام في رواية الحرب: الفساد الذي استشرى في الحرب، سيبقى بعدها ليشكّل علامةً لسنين لاحقة. يومها، قدّمت الممثلة اللبنانية كريستين شويري واحداً من أهم أدوارها في شخصية المرأة التي تفقد زوجها في الحرب في طرحٍ لقضية المفقودين المعلّقة حتى اللحظة. عاد شمعون بعد ذلك إلى هوايته المفضّلة في إخراج الوثائقيات، فقدّم واحداً من أجمل وثائقياته حتى اللحظة. إنّه «أرض النساء» (2004) الذي قارب حكاية ثلاث مناضلات فلسطينيات أولهن كفاح عفيفي الأسيرة المحررة من معتقل الخيام، وفدوى طوقان أولى شاعرات فلسطين، وسميحة الخليل إحدى رائدات المقاومة الاجتماعية والثقافية والشعبية ضد الصهاينة. «يوميات بيروت» (2006) كان أحد أواخر أعماله، بالاشتراك مع مي المصري، محاولاً سبر الواقع اللبناني بعد اغتيال رفيق الحريري.
تأتي السينما لدى شمعون كثقافة حياة لا يمكن فصلها عن حياته اليومية المعاشة، ولا عن تجاربه التي يريد أن تظل كاميرته تسجّلها كي تكون الكلمة التي سيظل يرددها.