ترجمة: حسونة المصباحي
طوال حياته المضطربة، الموسومة بالتقلبات والإنفعالات العاطفية، ظلّ الشاعر الفرنسي بول فرلين (1844-1896) يتذكّر مدينة “ماتز” الحالكة والباردة التي فيها ولد، وأيضا شمس مدينة “مزنبيليي” التي زارها في طفولته، حين كان والده يعمل ضابطا في إحدى ثكناتها. وكان بول فرلين الذي يضعه خورخي لويس بورخيس في منزلة أعلى من منزلة كل من بودلير، ورامبو، شاعرا مليئا بالتناقضات، يتأرجح بين العتمة والنور، وبين الكآبة والفرح الطفولي، وبين الخير والشر. وكان فرلين واعيا بتناقضاته. لذا ظل يتصارع معها حتى النهاية. وكان في الثانية والعشرين من عمره لما أصدر مجموعته الشعرية الأولى. إلاّ أن لقاءه برامبو القادم للتو من مسقط رأسه “شارلفيل” القريبة من الحدود البلجيكية عام 1871، أحدث إنقلابا هائلا في حياته، وفي شعره. برفقته سيعيش حياة التيه والصعلكة في لندن وفي بروكسيل. وخلال خصومة بينهما، أطلق فرلين النار على رامبو وأودع السجن ليمكث فيه سنتين كاملتين. ومن وحي تجربة السجن كتب العديد من القصائد عكست عواطفه الدينية فجاءت مفعمة بالإبتهالات والصلوات الحارة.
وكان فرلين يحلم بالحب المثالي، إلاّ أنه كان زوجا تعسا. ورغم أنه كان يحترم النواميس الأخلاقية، إلاّ أنه كان يأتي بما يثير حفيظة المجتمع. فغالبا ما كان يشاهد وهو سكراناً حد التلف، أو مصحوبا بفتيان طائشين. وكان يرى أن الحضارة الغربية تسير إلى الفناء. وعوض أن يلتزم سياسيا مثل إميل زولا، بهدف إنقاذ هذه الحضارة، إحتمى بالجمالية، وبموسيقى الكلمات، مديرا ظهره للتاريخ ولأحداث عصره.
رباعيّة
لأنّ هذا الزّمن البليد
هو دونما بهجة ودونما وجع
فإنّ الضحك المنطقيّ الوحيد
هو ضحك رؤوس الأموات.
Nevermore
أيتها الذكرى ماذا تريدين منّي؟ الخريف
يُطيّر السمّان خلَلَ الهواء الواهن
والشمس ترسل نورا رتيبا
على الغابة وهي تصْفَرّ ببطء
بينما تعصف ريح الشمال.
كنّا وحيدين نمشي ونحلم.
هي وأنا. شعرنا وأفكارنا للريح .
“أيّ يوم كان الأجمل في حياتك؟”
قالت ذلك بصوتها الذهبي.
صوتها العذب الرنّان ذوة النغمة الملائكيّة.
إبتسامة مُحْتَشمة كانت الردّ على سؤالها
وقبّلت يدها بورع.
آه! الوردة الأولى، كم هي مُعطّرة!
وكم رائع النغم! نعم، النغم الأول
وهو ينبثق من بين شفاه المحبوبة!
حلمي المألوف
غالبا ما حلمتُ هذا الحلم الغريب والثاقب
بامرأة مجهولة أنا أحبّها وهي تحبني.
ولم تكنْ هي نفسها في كلّ مرّة، ولم تكن أخرى
وهي تحبني وتفهمني.
ولأنها تفهني، ولأن قلبي الشفّاف
لها وحدها، واها! لم يعد مشكلة لها وحدها.
ولأنها وحدها تستطيع أن تمسح
عرق جبيني الشاحب وهي تبكي.
هل هي سمراء أم شقراء أم صهباء؟ لست أدري.
إسمها؟ أذكره لذيذا ورنّانا
تماما مثل أسماء المُحبين الذين نفتهم الحياة.
نظرتها كانت شبيهة بنظرة التماثيل.
ولصوتها البعيد الهادئ الوقور
إنثناءات الأصوات العزيزة التي صمتتْ.
أغنية خريفيّة
نحيب كمانات الخريف
الطويل
يجرؤح قلبي
بارتخاءات رتيبة .
كلّ شيء يبدو خانقا وممتقعا
حين تدقّ الساعة
أتذكر الأيام الماضيات
وأبكي.
أنطلق إلى الريح الرديئة
تطوّح بي هنا وهناك
تماما مثل ورقة ميّتة.
الشموس الغاربة
فجر واهن
يسكب فوق الحقول
كآبة الشموس الغاربة
الكآبة تهدهد بأغان هادئة
قلبي وهو يسلّمُ نفسَه للشموس الغاربة
وثمة أحلام غربية مثل
شموس تغرب فوق السواحل الرمليّة
أشباح مضيئة مذهّبة
تتابع دون إنقطاع كما شموس كبيرة
تغرب على السواحل الرمليّة.
ساعة الراعي
القمر أحمر في الأفق المغشّى بالضباب
وفي ضباب يرقص ينام المرج
ناشرا الدخان، والضفدع ينقنق خلّل
الأسّل الأخضر حيث تعبر قشعريرة.
أزهار المياه تغلق تويجاتها
وثمّت أشجار حور ترسمُ في الأفق البعيد،
مستقيمة ومتلاصقة، أشباحَها الغامضة.
وباتجاه الغياض تتيه الحباحب.
طيور من البوميّات تستيقظ، ومن دون صوت
تضرب بأجنحتها الثقيلة الهواء الأسود
والسّمتُ يمتلئ بأضواء صمّاء.
بيضاء، تنبثق فينوس، وها الليل.