كامل جابر
احتار المؤرخون كثيراً ومطولاً في تحديد موقع قلعة “أبو الحصن” أو “أبو الحسن” وحقيقتها التاريخية؛ وكثرت التخمينات التي ترجّح مرة أنها “قلعة ميس” الواقعة بين أنصار والزرارية، بين قضاءي النبطية والزهراني؛ ومرة تذكر أنها قلعة صليبية في ساحل صيدا، إشارة إلى وقوعها قرب صيدا، من دون تحديد المكان الذي تقع فيه. فما هي حقيقة القلعة الجملية الرابضة على تلّ صخري وسط نهر بسري، أحد روافد نهر الأولي الذي يصبّ في البحر شمالي مدينة صيدا؟
كان من الطبيعي لحماية صيدا التي سيطر عليها الصليبيون في 4 كانون أول سنة 1110م وجعلوها إمارة، أن يقيموا خطوط دفاع أولى عنها؛ وإذا كانت قلعة شقيف تيرون قد تأخرت لتقع في يد الافرنج، بيد أنها كانت ذات أهمية عسكرية قصوى عندهم، إذ تقع على جبل يرتفع نحو 1100 متر عن سطح البحر بالقرب من مدينة جزّين، وترتفع عن الطريق التي تحتها نحو 300 متر؛ ولذلك كان موقعها يسمح للحامية الصغيرة المتواجدة فيه، أن تحذر حاميات الساحل من وصول أي قوات معادية تمر عبر منطقة جزين.
وبين جزين وصيدا، وفي المعبر النهري الممتد من جزين نحو الساحل، الفاصل بين الشوف والجنوب، كان لا بدّ من موقع وسط يستطيع أن يتلقى الاشارة من حامية منطقة جزين وينقلها بسهولة نحو حامية صيدا؛ وبالتالي ليكون نقطة دفاع أولى قبل صيدا؛ لذلك جاءت أهمية قلعة “أبو الحصن” الواقعة على تل صخري وسطي، يرتفع نحو ثمانين متراً عن النهر الذي يلتف حولها من جهات ثلاث، من الشرق والغرب والشمال، ما يستحيل على أي مهاجم من السيطرة عليها من دون سلوك المعبر البري الجنوبي الوحيد. وقد جاء في “تاج العروس”: “قلعة أبي الحسن قلعة بساحل الشام، وهي المعروفة بقلعة المُوت، تاريخ عمارتها سنة 577هـ. وكان موقعها يسمح لحاميتها بأن تفاجئ أية فرقة عسكرية تحاول السلوك في وادي نهر الأولي الضيق؛ وكانت حماية طريق صيدا دمشق تتم بواسطتها وبواسطة قلعة شقيف تيرون وجزين.
للوصول إلى القلعة، من قرية أنان فبلدة صفاريه في قضاء جزين، ثم نزولاً أكثر من خمسة كيلومترات في منطقة حرجيّة بامتياز، جلّها من السّنديان تتبع عقارياً لصفاريه وأنان. أما الطريق إلى أعلى القلعة للمشاة من خلال الأحراج، ثم صعوداً على أدراج صخريّة. وتبدو بوضوح كوّات السّهام المنتشرة على جهتها الشرقية، إذ يروي السّكان أنّ الهجوم عليها جرى بالمنجنيق من ناحيتها الشّرقيّة. وعند جهتها الشّمالية الشّرقيّة يوجد فتحة بئر واسعة، يرجّح الأهالي أنّه يمتدّ إلى مجرى النهر، حيث كانت حاميتها تعتمده للتزوّد بالمياه خلال الحصار. وفيها كذلك مرابض للخيل التي كانت تصعد إليها من طريق جانبيّة في ناحيتها الغربيّة، ويبدو أن بعض المراعي كانت مؤمنة في أعلاها، إذ تعرش أشجار مختلفة. وهناك آبار محفورة في الصخر الصلد؛ وتحتها عند النهر آثار حمّامات قديمة.
وفي الجهة المقابلة للقلعة، من الشمال والشمال الشرقي، لجهة بلدة جون، تقع “تلة النقبة” على الضفة الثانية من النهر، ويوجد فيها بقايا أبنية مهدمة ومنشآت عمرانية، يبدو أنها تعود إلى الحقبة التاريخية نفسها التي أنشئت فيها القلعة، وقد أنشئت لأغراض عسكرية ودفاعية من جانب الجماعات والدويلات التي حاربت الصليبيين.
الدّاخل إلى القلعة يمكن أن يتلمّس روعة المكان والارتفاع وتحكّمه بمنطقة واسعة وبمجرى النّهر المجاور، وأهميّتها المعمارية واختلاف حقباتها، برغم فقدانها أبوابها والسطوح العليا للقلعة، وبعض الأقبية. فبعد اجتياز الأدراج الصخرية، التي هوى معظمها، وبقي منها ما نحت بالصخر الطبيعي الصلد، الذي تقوم عليه القلعة؛ يبدو المدخل الرئيس، وهو صليبي ويفضي إلى ردهة تبلغ نحو خمسة أمتار، محصنة بكوة للسهام، نحو الجهة الشرقية؛ ومنها إلى باب آخر هو المدخل إلى غرف وقاعات القلعة. ويقع المدخل الأساسي على جرف صخري حاد فوق النهر.
وقد ساهمت الحروب والغزوات التي تعرضت لها القلعة من جهة، فضلاً عن التدمير الذي لحق أعلاها من جهة ثانية، طبعاً بعد تعرضها للنهب؛ وإهمالها في حقبات لاحقة؛ وما مرّ عليها من عوامل طبيعية طوال مئات السنين، في نسيان القلعة وتجاهلها وعدم منحها الاهتمام اللازم، لجهة موقعها وتاريخها والتفاصيل المتعلقة بمجريات الأحداث فيها وحولها. وهي اليوم مقصد الزوار من أبناء الجوار، ممن يعرفون موقعها وجماله، وكذلك محط رحال الصيادين الذين يبيتون فيها ليلاً، تربصاً من أعلى بالخنازير التي تتحرك في المنطقة.
القلعة
تقوم هذه القلعة على سطح تلة صخرية ترتفع 80 متراً عن مجرى نهر الأولي، الذي يلتفّ حولها بشكل بيضاوي ويحولّها إلى شبه جزيرة، تحوطها المياه من مختلف الجهات، ما عدا الجهة الجنوبية، إذ يقع المنفذ البرّي الوحيد إلى القلعة.
بنى الصليبيّون هذه القلعة لتتحكّم بالوادي، وهي تشكّل مع “شقيف تيرون” وقلعة “جزّين” شبكة دفاعيّة من جهة البرّ، لحماية ممتلكات “بارونيّة صيدا” التابعة لمملكة بيت المقدس الصليبيّة؛ ويعود تاريخ بناء هذه القلعة إلى أوائل القرن الثاني عشر الميلادي.
ويذكر المؤرّخ الصليبيّ وليم الصّوري قلعة “Belhocem” أو قلعة “بيت الأحزان” في منطقة صيدا في معرض حديثه عن بطريرك بيت المقدس الذي كان محارباً مقداماً شارك في حصار مدينة صور، التي سقطت بيد الصليبيّين عام 1124م، وفي عام 1128م ذهب لنجدة حصن “Belhocem” الذي احتلّته مجموعات من المسلمين، لكنّه توفي أثناء الحصار.
كذلك، زار عالم الآثار الفرنسي دينان في العام 1936م، القلعة المعروفة باسمها الصليبي أو قلعة “ابو الحصن”، كما يسمّيها السّكّان المحليّون؛ وحدّد موقعها ووصف أنقاضها، فقال: “إنّ الجّزء الأكبر من القلعة بحالة سيّئة، وهو من العهد العربيّ أو التركيّ ومع ذلك، فإن آثار اللمسات المعماريّة للافرنج بادية بوضوح”.
قلعة “أبي الحسن” كما وردت في معجم البلدان: “قلعة عظيمة ساحليّة قرب صيدا بالشّام، فتحها يوسف بن أيّوب، واقطعها ميموناً القصريّ مدّة ولغيره، ويُظنّ انّها المسماة قلعة ميس”.
في “تاج العروس”: “قلعة بساحل الشّام وهي المعروفة بقلعة ألْموت واسمها تاريخ عمارتها وهي سنة 577 هـ، عمّرها أبو الحسن محمد بن الحسين بن نزار ابن الحاكم بأمر الله العبيدي صاحب الدّعوة الاسماعيليّة وله عقب منتشر”.
عدسة كامل جابر