كامل جابر
لم يتسنَّ لي التمتّع برؤية فنّه الأخّاذ، إذ كنت منصرفاً نحو الإعلام والصحافة، إلى الأخبار الأمنية والاجتماعية والمعيشية، غارقاً في مهنة المتاعب، لكنني كنت ألمحه أحياناً من بعيد، يجول في وسط المدينة، متفقّداً أصحابه وأترابه. كانت تلفتني شخصيّة هذا الرجل المكلّلة بالأناقة والشياكة والكياسة، صفات فيه يؤكّدها من نادَمه أو عرفه عن كثب، بل في السؤال عنه يمعن “المجيب” في وصف شخصيّته الفذّة الآسرة، وكيف أنّه كان ينطق بالسحر الوصفيّ والشعر والأدب، وحتى الموسيقى المتلاعبة بين أنامله على أوتار عود، كلّ هذه المزايا الفنيّة تبدّت جليّاً في أعماله التشكيليّة وميَّزتها.
في السّابع من شهر تشرين الأول 1996، أغمض التشكيليّ المبدع زعل سلّوم عينيه على أوجاعه من عضال السرطان قبل أن يتجاوز 51 عاماً، حفل مجمل سنواتها بالرسم والمعارض والنجاح والجوائز التقديريّة. نام شاغل الأوساط الفنّيّة والتشكيليّة والإعلاميّة وقاعات المعارض والفنادق والقصور على تركة فنيّة غزيرة ونادرة، عالية الأهمّية والبراعة. تموت السنون ويبقى اسم زعل سلوم مندرجاً بين أوائل التشكيليّين المحترفين في لبنان والعالم العربي.
اليوم، بعد ربع قرن على رحيله، وأكثر من 75 عاماً على ولادته (15 شباط 1945) تعيدنا الذكرى إلى مسيرة أحد عظماء النبطية والجنوب ولبنان القلائل، إلى أعماله ولوحاته التي ما فتئت تتصدّر قاعات بيت العائلة في بيروت، وكثيراً من بيوتات أصدقائه ومعجبي فنّه، ناهيك عن اللوحات المحفوظة في رصيد وزارة الثقافة اللبنانيّة وغيرها من المعارض العامّة والخاصّة، وفي العديد من القصور الملكيّة في المملكة العربيّة السعوديّة التي زيّنها بلوحات وجداريّات تتناول الحياة البدويّة.
أعود اليوم إلى ذكراه من منطلقات ثقافيّة وفنيّة وإنسانّية ميّزت مسيرة هذا الفنان الكبير، وتنوّع أعماله الوالجة مختلف العوالم التشكيليّة ومدارسها، لتتكوّن لوحاته الساحرة، بالرغم من قتامة ألوانه التي جسّدت الجوانب الداخليّة المتصارعة بين روحه وعقله، لا سيما تلك الأحزان التي رافقت وعيه وشبابه.
أستعيد شيئاً من فقرات تحدثت فيها عنه، في مهرجان تكريمه في احتفائية اليوبيل الخمسين للمجلس الثقافي للبنان الجنوبي في النبطية (9 ايار 2014)، إذ قلت: «لن ترمحَ خيلُنا من غير فارسِها، الذي ألقى، قبل سفرهِ المبكرِ قبيلَ طلوعِ الصباح، على صفحةٍ مبهمةٍ ريشةً، ساستِ الخيالَ لونَ واقعٍ، أو تخطّاه، ثمّ نسجَ من تهذيبِ حسِّهِ الفائق المدى، قميصَنا المهفهفَ المطهرَ من شوائب العصبيّة والفوضى، ليخلقَ لنا عالماً، عشقناه على صورته وأردناه، لوناً مثالياً واضحاً، يبشرُنا بثقافةٍ ناجعةٍ.
زعل سلّوم، ها أنّك اليوم بينَنا، وأنت أصلاً لم تغب، فعلى كلّ جدارٍ من بيوتنا الثقافيةِ أو معارضِنا الفنّيةِ، أو في اصالةِ ذاكرتنا، تعلِقُ مسحةٌ من ألوانِك أو وشوشاتٌ من عذبِ كلامك المنساقِ شعراً عفويّاً يشبه صهيلَ فؤادِك، أو عزفَ يدِكَ تنقرُ وترَ عودٍ لحنَ خلودٍ، فكيف لقلوبنا الرقيقة ألاّ تطيرَ جَذَلاً أو ترقصَ في هذا الحميم من الموسيقى والشعر واللونِ المتفجّرِ من بركانك المتواضع؟
زعل سلّوم، يا فارس اللونِ والكلمةِ والموسيقى، جئنا إليك لندقَّ على بابِك المشرّعِ أمامَنا صفحةً نقيّةً، لنحيّيك وأنت الحيُّ فينا، ونسبَحَ معك في عالمِك، مع ثُلّة من الروّاد، شكّلت من اللون ومدارسِ الرسمِ والخيالِ والكلمةِ ما بقي يعزّينا في زمنِ القحطِ.
هنا، لمّا يزلْ وقعُ خطواتِك في أزقةِ المدينةِ التي لم تنتسبْ إلى غيرها، «النبطية»؛ في الحيّ الذي تفتقتْ منه مواهبُك الأولى، «حيّ السراي»، في تلك «العلّيّة» التي شهدتْ تجاربَك وخياراتِك وقراءاتِك، في هذه المدرسةِ أو تلك، فأثّرْتَ في منحى من علّمتَ أو صادقتَ أو نادمتَ أو زاملتَ أو أحببتَ أو من مسحتَ عن عيونهم ضبابَ الرؤيةِ أو غشاوتِها وكتبت قصائدَ اللون والوضوحِ ورسمتَ ملاعبَ الحبِّ وخطوطاً من ثقافةٍ لا تزوغ».
زعل سلّوم، الأستاذُ الأكاديميُّ والمعلمُ، الرسامُ التشكيليُ، الشاعرُ، الموسيقيُ، والمخرج المسرحيُ (أخرج مسرحية “عودة المهاجرين” لحسان كحيل وحبيب جابر وقدّمها على خشبة كازينو لبنان العام 1968)، ولد في مدينة النبطية من والدين هرمين، وتزوّج من المحامية وداد يونس، وله منها ولدان، ايهاب (يحمل شهادة بكالوريوس في إدارة الأعمال والتسويق، وماجستير في التجارة الدوليّة من جامعة انكلترا، ويعمل حالياً في إحدى الشركات المالية)، وسعد (مخرج سينمائي وعازف بيانو).
يسأل كثر عن تسمية الفنان زعل سلوم بهذا الإسم، إذ أنّه من أندر الأسماء ليس في مدينة النبطية وفي جنوب لبنان فحسب، بل في كلّ أرجاء الوطن. أمّا حكاية الاسم فمرويّة على لسان صاحبه الغائب الحاضر، إذ تقول:
«في العام 1945 كان والدي مكارياً (يملك قطيعاً من البغال) وكانت الحرب العالمية الثانية مندلعة، وظهرت بدايات المجاعة في بلدنا، بعد أن ضُرب موسم القمح. وفي أثناء رحلة لوالدي الى حوران في سوريا، رافقته والدتي وكانت حاملاً، وفي آخر حمل ممكن لها. في ذلك الوقت توفّي الأمير زعل السلّوم (خال فريد الأطرش وأسمهان) في بلدة «نوى». قالت أمّي: «إذا أنجبتُ صبيّاً سأسمّيه زعل سلّوم»، وكان اسمي الأول واسم الشهرة متطابقين مع اسم وعائلة الأمير الراحل. وكلمة «زعل» كما جاء تحديدها في «المنجد» هي أحد أسماء الحصان. وفي الكويت يطلقون هذا الإسم على حصان الرقص في الأفراح».
تلقّى الفنان زعل سلوم علومه الابتدائية والثانوية في مدينته النبطية. انتسب سنة 1965 الى كلّية الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية مدة سنة، وتركها في العام التالي، (لم يكن بإمكان الطالب في حينه الحصول على إجازة). كذلك انتسب إلى الجامعة العربية في بيروت ونال درجة ليسانس في الفلسفة في العام 1971، وكذلك نال الماجستير في علم النفس الإبداعي 1973 مـن الجـامعـة اللبنانيـة، التي نـال منها أيضاً إجازة في علم الفيزياء وإجازة في علم الاجتماع.
علّم مادتي الرياضيات والفيزياء في مدارس رسميّة وخاصة في النبطية والجوار وفي دار المعلمين مدة 15 سنة. وكان رياضيّاً من الدرجة الأولى إذ حاز بطولات عديدة.
لمع اسم زعل سلوم في بداية السبعينيّات، وكانت سيرته صاخبة في تلك السنوات، وقد تنبّأت له الأقلام بمستقبل فنّي بارز. كان منطلقاً من لا شيء الى كلّ شيء. من تحفيزات الألوان وبدائيّة الخطوط وفطريّة العلاقة باللوحة، إلى مزيد من التمركز واكتساب الخبرة والمعرفة الفنّيّة، والبحث الدّائم عن شخصيّة فنّان جديد متجدّد.
بدأ رحلته الفنيّة من خريف كان يعيشه وأسرته وأبناء منطقته، في حال البؤس والعدوان الإسرائيلي المتكرّر على الجنوب عموماً، ومدينته النبطية خصوصاً، والتي عايش أحياءها وصيحاتها المتكرّرة ومعاناة إنسانها المستمرة.
هاجر الفنان زعل سلوم الى السعودية في العام 1977، على أثر دمار محترفه في النبطية بعد سقوط قذيفة عليه، وكان المحترف يضمّ لوحات مختلفة عن قرى الجنوب كافّة وعن فلسطين.
في الغربة، وظّف الوقت في العمل على التراث الكلاسيكيّ، الأمر الذي ساعده على تمتين تركيب اللوحة على المستويين التقنيّ والفنّي. وكان من أهمّ إنجازاته في السعودية تكليفه من قبل “مهرجان الجنادرية للثقافة والتراث”، باعتباره فناناً لبنانيّاً، في رسم 112 لوحة، تجسّد نواحي الحياة البدوية.
لامسَ الفنّان زعل سلوم مختلف مدارس الفنّ التشكيليّ مبدياً إعجابه بكلّ من رسم على المستويات العالميّة والعربيّة والمحلّيّة، ورسم بأساليب متنوّعة مستوحياً الجنوب وقراه، لا سيّما الحيّ الذي نشأ فيه، حيّ السراي، رسم البحر والطبيعة، الخيل والمرأة، وكذلك الحرب على لبنان وفلسطين والحرب الأهلية اللبنانية، وكانت اللوحة بالنسبة إليه خلقاً وإبداعاً.
كان يرسم بلغة الطبيعة والموسيقى والشعر. حفظ جبران خليل جبران في مرحلة دراسته التكميليّة، كلمة كلمة، ورسمه كلمة كلمة، ولكن عندما خيّر بين الرسم والشعر، وجد نفسه رسّاماً. كان يعشق الموسيقى وسماعها في خلال الحفلات الموسيقيّة الخاصّة مع الأصدقاء، وكان من المستحيل عليه الرسم من دون سماع الموسيقى التراثيّة الكلاسيكيّة، فتنبعث من روحه ووجدانه نحو الألوان والخطوط. وقد احتوت مكتبته الموسيقية أعمال أم كلثوم وفريد نلأطرش ومحمد عبد الوهاب ورياض السنباطي وسيد درويش وزكريا أحمد كافة، إلى غيرهم من عمالقة الموسيقى والغناء الأصيلين.
لقد عاين النقّاد العتمة في أعماله كافة، أما هو فكان يقول: «أضع اللون الأسود أولاً في لوحاتي، ومن ثم استخرج الألوان جميعها، انه عمل يشبه عملية الولادة». أمّا الطبيعة والمرأة والحصان، فمواضيع ثلاثة برزت في معرضه الأخير «رحلة العودة» الذي أقيم في صالة فندق «كارلتون» في العام 1994، بعد عودته النهائيّة من السعودية في العام 1990.
كان يجد في الحصان بين أحضان الطبيعة المنفرجة عنوان القوّة والجمال، الإخلاص والوفاء، الصداقة والتناسق، ويؤمن أن جسد الحصان من أجمل أجساد المخلوقات، وصفاته حميمة وقريبة إلى المفهوم الإنسانيّ. وفي موازاة ذلك كان يرى أن المرأة هي أجمل مخلوقات الله، انطلاقاً من أن علاقة الرجل بالحياة وبأشيائها، مرتبطة بالمرأة، أناقته، عطره، فنّه وإبداعه، وأنّ المرأة مخلوق مكمّل للرجل، حروبه كلّها ضدّها ومعها.
معارضه ولوحاته
شارك الفنان زعل سلوم في العديد من المعارض المحلّيّة والدوليّة، وأقيمت لأعماله معارض خاصة عديدة. ومن أهم هذه المعارض:
- معرض في فندق “كارلتون” برعاية وزير التربية سليمان الزين (1967)، تميّز باللوحات التجريديّة وبالتقنية الخاصة التي استعملها بمزج الألوان.
- معرض خاص في غاليري “لاماتور” (1970).
- معرض خاص في “الفاندوم” (1972)، تضمّن لوحات تجريديّة، تناولت البحر والحكايات التي تقصّها أعماقه.
- معرض خاص في “الفاندوم” برعاية وزير التربية أمين الحافظ (1973)، ضمّ لوحات عبرت عن الجنوب الجريح وقراه الصامدة.
- شارك في معارض عديدة في مختلف أنحاء أوروبا في العام 1973، مثل فرنسا وبريطانيا وإسبانيا وروسيا، وذلك بعد اختياره من قبل الأونيسكو لتمثيل لبنان.
- شارك طوال اثنتي عشرة سنة في معرض الربيع في الأونيسكو، ولوحاته ما زالت محفوظة لغاية اليوم في قصر الأونيسكو.
- له أكثر من 400 عمل في قصور الأسرة الملكية السعوديّة، تضمنت العديد من البورتريهات أهمّها للأمير عبدالله والملك عبد العزيز وعاصي الرحباني والسيدة فيروز.
رسم 112 لوحة في مدينة الثقافة والتراث – الجنادرية – الرياض، ويزور هذه المدينة أكثر من مليون مشاهد. - معرض خاص في البيت الثقافي الفرنسي والسفارة الفرنسية في الرياض (1990).
- شارك في معرض الوطن والحرية في دمشق (1988).
- شارك في جميع معارض المجلس الثقافيّ للبنان الجنوبي.
- شارك في معرض “الخريف” في قصر بسترس – بيروت (1991).
- شارك في معرض البيت الثقافي الألماني برعاية السيّدة منى الهراوي (1992).
- حاز الفنان زعل سلوم “جائزة المدارس الثانوية” في العام 1962 التي قدمها جوزف أبي رزق، و”جائزة الأسبوع الثقافي اللبناني في باريس” في العام 1968.
يقول عنه الفنّان التشكيليّ عادل قديح (النبطية):
“اذكرُ بوضوحٍ مناظره الطبيعية المشهديّة التي رسمها بالألوان الزيتية، مستعملاً المشط وأعقاب الفراشي التي تحدث حفراً خطوطيّاً في العجين اللوني، ثم يعملُ على إدخال المساحات اللونية المتجاورة ببعضها بتمازجات ملفتة، تحرر الأحاسيس وتطلق المكنونات العاطفية، ما يجعلُ منظره يتفلتُ من واقعه ليقتربَ الى ما يشبه التجريد”.
ويضيف مخاطباً إياه: “كُنتَ ترسم مناظرك بطريقة ملتبسة تنضح بالمشاعر ولكنها عصيّة على الفهم، كان المشاهد يريد أن يفهم، وكنت تريد منه أن يتذوّق، أن يشعر بالعلاقات اللونيّة تتسلّل الى أعماقه كما تتسلّل الإيقاعات النغميّة، ومع ذلك كان منظرك غرائبيّات سوريالياً لا ينتمي الى عالمنا الذي تجتاحُه حدّة الواقع، كان يتصلُ حتما باحلامك، وأحلام الفنان لا يمكن لها ان تكون واقعية. كان شبهُ التجريد الغنائي طاغياً في معرضك الاول الذي أقمتَه في أوتيل الكارلتون، فلعبةُ اللون سيطرت على تبدّيات الشكل، وسمفونية اللون جعلت أعيننا ترقص فرحاً، كانّكَ رسمتَ عالمك المتخيّل الذي ترغب أن تصولَ وتجولَ فيها كفارس يعتز بشموخه”.
لا أنسى إِنَّكَ رسمتَ مشاهد من النبطية وكذلك قلعة الشقيف، شاهدتُ لك لوحة عملاقة تنم عن ذلك، فانتَ لم تنسَ ابداً هويتك الجنوبية. ما لم ترسمَه علنا من واقع حياتك رسمتَه في اعمالك الهندسيّة، فقد ذاعَ صيتُك وانت تصممُ بيوتات وفيلات وقصور الجنوب وغيره…”.