كامل جابر
كفّ يا بلبل عن هذا النواح، وعدّْ بنا يا عندليب إلى تغريد الأماسي والصباح…
في الثلاثين من شهر أيار سنة 2015، كان للمجلس الثقافي للبنان الجنوبي، موعد، في فرعه في النبطية، مع الأستاذ محمد فخر الدين (1956- 2021) تحت عنوان “تجربتي السياسية والاجتماعية في ساعة”، في ندوة قدّم لها طبيب الأسنان الراحل الدكتور حسن حريري. في هذا اللقاء الساعة، حاول صديقنا محمد فخر الدين أن يحكي كلّ ما له أو عليه، ولو بإيجاز، من تجاربه السياسية وخوضه من خلال موقعه “الناصريّ” المعارك السياسية والعسكرية على أكثر من محور حتى في بيروت، خصوصاً بعد اندلاع الحرب الأهليّة اللبنانيّة سنة 1975، ثم انكفائه لاحقاً نحو العمل الاجتماعي، خصوصاً من خلال موقعه المتميّز في النبطية كمؤسّس لأكثر من جمعيّة ثقافيّة واجتماعيّة ورياضيّة وصحّيّة، فيشكّل “قوة” إجتماعية- إنسانيّة نادرة في مدينة حسن كامل الصبّاح، اسمها “محمد فخر الدين” هذا الأسم “الجدل” الذي يعني الكثير الكثير إذا ما محّصنا في حياة “النبطانيين” والجوار في خلال أربعين عاماً أو ما يزيد.
في الحديث عن تجربته أقرّ محمد فخر الدين أنّه أخطأ هنا وأصاب هناك، وقليل من الرجال ممن خاضوا التجارب الشبيهة بتجارب “أبو علي” لا يعترفون، وما زالوا يناكفون الواقع والنتائج بكتمانهم أخطائهم، بل وتجاربهم “الفاشلة” و”المريرة”؛ وهذا إنْ دلّ على شي، فعلى أنّ أبا علي كان يمتلك من الشخصيّة والشجاعة والقدرة على الاعتراف بما له، وبما عليه، وعلى المواجهة. نعم على المواجهة دفاعاً عن حقوق أبناء مدينته في الكهرباء والمياه والخدمات كافة، وعن حريتهم في القول والعمل وفي الانتخابات النيابية والبلدية، وفي انتخابات الأندية والجمعيات، في الدفاع عن حقوق الأفراد، فرداً فرداً، وفي الوقوف إلى جانب المظلومين ولو كانت المضاضة من “ذوي القربى”.
الكلام عن أبي علي، كلام عن شخصية فريدة بدأت من صفوف الناس الطيبين، من حي السراي، الحي الشعبي الأقوى في النبطية التي كانت تشبه أهلها. وتنامت فراسة هذا الرجل من تواضعه واقترابه من أهله المفطورين على الحبّ، “الفقراء الطيبين”، ووقوفه إلى جانبهم في الأفراح وفي الملمّات، حتى في كثير من الأمور والمشاكل الشخصيّة الصغيرة، وكان خير ستّار. ولن ننسى دوره في التصدّي لمفاعيل الاعتداءات الإسرائيلية التي كانت تتعرض لها مدينة النبطية على مدى سنوات طويلة.
ولكي لا ننكر على أبي علي عشقه لفلسطين وحبّه لاسمها، فلقد كان في صدارة المدافعين عن حقوق الفلسطينيين في لبنان، والمتصدّين للممارسات غير الإنسانية في تعاطي الدولة اللبنانية معها، ناهيك عن تصدّره التظاهرات المستنكرة للاعتداءات الصهيونية على فلسطين وأهلها وأطفالها، المؤيدة لانتفاضاتهم البطلة.
توطّدت علاقتي به في أواخر الثمانينات، مع بداية عملي الصحافي والإعلامي، ثم بقينا على “وئام” مستمر كان جلّه يتمثل في النشاطات الثقافية والاجتماعية وفي “الوقفات” النبطانية المطالبة بالحقوق، المدافعة عنها، وكان صاحبنا رائداً من روّادها، مثلما كان رائداً في الحوارات الإيجابية، المبددة لكل خلاف. لم يمرّ “تنمّر” تعرّضتُ شخصيّاً له، من مواقع وشخصيات سياسية واجتماعية وثقافية وحتى دينية، إلاّ وكان أبو علي أوّل المتصلين ليعلن تضامنه ووقوفه إلى جانبي، مردّداً عبارة: “صاحب الحقّ سلطان”.
هذا غيض من فيض شخصيّة محمد فخر الدين.. وسيمرّ زمن طويل على أهل النبطية لكي يعدّدوا مآثر هذا الرجل “المختلف”، إن كانوا من مواقع محبّة له أو حتى مناكِفة، بل سيظل محمد فخر الدين حاضراً في كلّ الميادين، وفي الذاكرة الجماعيّة التي لن تنسى رجلاً خرج إليهم من من وسط دخان خبز الأمهات في حي الفقراء الطيّبين، انتسب إلى أوجاعهم وضحكاتهم، وقف إلى جانبهم مرات ومرات، وها أنه يرحل اليوم محرراً من كل قيد، مزوداً بحبّ لا ينضب…
محمد فخر الدين “أبو علي”… وداعاً