كامل جابر
كنت فتى صغيراً مثل كلّ أترابي، نعشق السينما في وقت عزّ فيه انتشار التلفزيونات في كل بيت، وكانت هي، أيّ السينما، ملاذنا الأجمل في الأعياد والمناسبات والعروض والأفلام المهمّة. منذ ذاك الحين بدأت أتعرف إلى وجه قاسم صباغ، إذ كان يكبرني بنحو عشر سنوات، أو ما يدور في فلكها؛ كان هذا الوجه البشوش الطيّب يطلّ في المشهد الثقافي السينمائي، قريباً إلى عاشق السينما ومطور صالاتها في النبطية، المناضل الشيوعي الراحل الأستاذ عادل صباح..
لم يكن قاسم، أو الأستاذ قاسم في ما بعد، بعيداً عن الأجواء النضاليّة اليساريّة وهذا ما قرّبه أكثر من عادل صباح ليرتبط لاحقاً بإحدى بناته، صفاء (التي رحلت فجأة وباكراً منذ بضع سنوات) وينجبا تباعاً ثلاثة أبناء، ميساء، محمد وعادل..
انتسب قاسم محمّد صباغ إلى الحياة الثقافية والتربوية والاجتماعية في أكثر من ميدان، وتميّز بين معارفه وأصدقائه بلياقة حديثه واحترامه الشديد لكل من مرّ في دائرة الحياة واللقاءات، خصماً في السياسة كان أم صديقاً، ناهيك عن الابتسامة التي لا تفارق محيّاه مستقبلةً ومودعةً وصاغيةً…
ثمّ كان أن لعب “أبو محمّد” دوراً إداريّاً ماليّاً في وزارة التربية الوطنية، في دائرة محافظة النبطية، وعرف عنه زملاؤه المعلّمون والأساتذة حسن الاستقبال والضيافة واللياقة ومتابعة معاملاتهم بكلّ همّة ونشاط ومن دون شكوى أو تذمّر من تعب أو من ضغط العمل، حتى أن جميع من قصده في مهمّات الإدارة الماليّة أو زائراً كان يحلف بحياة قاسم صباغ ومعشره وهدوء باله وسكينته..
انتسب إلى المجلس الثقافي في النبطية، وشارك في العديد من نشاطاته، إلى جانب اهتمامه بالثقافة بشكل عام، إلى جانب اهتمامات اجتماعيّة ولم يخب به ظنّ قاصد أو سائل أو طالب مساعدة…
ما كان في الحسبان أن قاسم صباغ سيحال في عمر الرابعة والستين إلى التقاعد الوظيفيّ، ومن المؤكد أنّ أرباب الوظيفة لا يسألون الموظّفين عن رغباتهم في المتابعة أو التنحّي، ويبدو أنّ أبا محمّد لم يكن جاهزاً لهذا التقاعد الذي ترك فراغاً كبيراً في حياته، بالرغم من سعة علاقاته وأصدقائه والمنتديات الثقافيّة التي تعشق حضوره ومشاركته، هذا لأنّ نجيع الخدمة العامّة كان يتغلغل في شرايينه، ثم أتى الرحيل المفاجئ لشريكة عمره صفاء عادل صباح ليزيد في حزنه ثم في انكفائه نحو العزلة بين جدران البيت.
برحيله اليوم، يترك المربّي قاسم صباغ فراغاً كبيراً في أوساط عائلته، وبين أترابه وفي صفوف محبّيه وأصدقائه ومعارفه، وفي مدينة النبطية التي تفتقد لرجل كان أمثولة في القيم الأخلاقية والاجتماعية والإدارية، وكان كالنسمة الباردة في لظى صيف أو شدّة، زرع الحبّ من غير منّة، وكان مقاوماً مستتراً في مقارعة العدو الإسرائيلي وفي النضال في سبيل بيئته الوطنية والاجتماعية والإنسانية…
المربّي قاسم صباغ، أبا محمد، وداعاً…