كامل جابر
ولد أبي وعاش مجمل عمره في وسط سوق النبطية… وأقول في وسط السوق، لأنّه أبصر النور وترعرع هناك، في أسفل نزلة “الديماسي” أي عند الكتف الشّرقي للبيدر، الذي كان يطل عليه بيت جدّي سعيد قاسم جابر، وشقيقه توفيق، وقد ورثا العقار كلّه عن أبيهما أو اشتريا متمّم العقار لاحقاً، وهو العقار الملاصق لساحة النبطية، ساحة السوق و”الشوفرية”.
عاش جدّي سعيد مع شقيقه توفيق الذي كان يملك رتلاً من سيّارات الأجرة “تكسي” ويشغلها على خطوط صيدا وبيروت والعديد من المناطق اللبنانية، وكان من الطبيعيّ أنْ يرث أبي صبحي سعيد جابر (1927- 30 أيار 2002) وشقيقاه، الأكبر من الصبيان جميل (1922- 14 أيار 1975) والأصغر أحمد (1938- 15 أيار 1988)، حرفة القيادة العموميّة “الشوفرة”، وهكذا كان، بعدما عاشوا جميعهم في أجوائها وظلالها…
اشتغل عمّي الأكبر على خطّ الشام ومثله الأصغر، أمّا أبي فعلى خطّي صيدا وبيروت، وعلى خطّ فلسطين في بداية عمله، إذ ظلّ ينقل وبـ”التهريب” في أحيان كثيرة بضائع وتبغاً من وإلى فلسطين، لذلك لم يعرف أبي وشقيقاه مهنة غير قيادة السيارات، إلى أن توفّي عمّي جميل “أبو فؤاد” في العام 1975، في الشام- سوريا عن 53 عاماً، على أثر ذبحة صدرية؛ فيما سافر عمي أحمد “أبو علي” وعائلته إلى الولايات المتحدة الأميركية بعدما بدأت النبطية تتعرض للقصف الإسرائيلي، اليومي، ومن هناك عاد في صندوق خشبي وهو لم يتجاوز الخمسين..
أمّا أبي فلم يغادر النبطية ولم تغادره، حتى في أحلك الظروف، كانت روحه معلقة في “السوق” التي يذهب إليها عند آذان الفجر، ولا يعود منها قبل حلول الظلام، طبعاً ظلّ سائقاً حتى آخر عمره، إذ أسلم الروح قبل تسعة عشرة عاماً، على أثر ذبحة قلبية بعد تضخم في القلب، وانسداد في الشرايين رافقه أكثر من ثلاثين عاماً، وظل يرفض حتى إجراء عملية “كسترة”.
أذكر أنّني أكثر من مرّة، وأنا أغطّي العدوان على النبطية، ومنها عدوان نيسان 1996، عاينت أبي وسيارته لوحدهما في وسط السوق، برغم القصف المتناثر هنا وهناك، والقريب جدّاً من ساحة المدينة. قلت له مرّة: “أنا أفهم صعوبة عملي وضرورته، ما يجعلني أدخل إلى قلب النبطية لأنقل همجيّة العدوان، لكن، قلّ لي “بربّك” لماذا أنت هنا؟”. أجاب باختصار: “بعد قليل أخرج من هنا”. ابتعدت عنه مسافة 300 متر، وإذ بقذيفة تسقط في منتصف المسافة الفاصلة، أدرت السيارة وعدت، وإذ به قد ركن إلى مدخل أحد المباني، ينتظر انتهاء القصف ليعود إلى الطريق.
أصيب أبي بشظية صغيرة من انفجار قذيفة قرب بيتنا في اجتياح العام 1982، وقد شاع خبر استشهاده، إلى حين قصير.. لكنه لم يغادر أبي “نبطيّته” بالرغم من كل ما تعرّضت له منذ العام 1975، إذ بدأ ينهال عليها القصف المدفعي من قلب فلسطين المحتلة ومن ثم من المنطقة الحدودية المحتلة، ثمّ لاحقاً مع كلّ اجتياح وعدوان. وبقيتُ أستغرب تعلّق أبي في هذه الساحة الضيّقة من الدنيا، وتعريض نفسه للخطر الشديد، إلى أنْ أدركت أنّ ثمّة جذور له هناك، فهو ولد في هذا المكان في العام 1927، في الفترة التي كانت النبطية تحت الانتداب الفرنسي، يوم كانت البلدة أشبه بقرية على عفّتها وبراءتها، أيّ عفّة العمران المتواضع غير الشاهق، وبراءة العلاقات التي كانت تجعل من النبطية عائلة واحدة. ثمّ تنشّق لاحقاً هواء فلسطين المجبول بهواء جنوب لبنان، قبل أن تأتي العائلات الفلسطينية إلى النبطية في أعقاب احتلالها في العام 1948، وارتباطه بعلاقات وثيقة مع عدد من سكّان المخيم.
لأبي جذور في ساحة النبطية فرّخت شجرة.. صحيح أنّ الجذع هوى، بيد أنّ الزيتون يظلّ يولد من الجذور الأولى..
إلى أبي في ذكراه التاسعة عشرة ألف أغنية وزجل شعبي وصوت أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب ونصري شمس الدين ووديع الصافي، وكلّ ما كان يهوى سماعه من طربٍ وأغانٍ، من غير تكلّف، أو ضرر بأهواء الغير. وإليه كذلك ما كان يتشهّد به عند الفجر، لحظة خروجه مع بصيص النور، أو في سيادة العتمة، ليصل إلى ساحة السوق ويرتشف “شايه” أو قهوته، ولفافة التبغ، التي بقي نديمها حتى في السرّ، بعيداً عن رقابة أمّي، بعدما نصحه الأطباء بضرورة تركها، لكي يحافظ على سلامة قلبه…