كتب شربل فارس*:
في أواسط الستينيّات من القرن الماضي توفيت الخورية، في قريتي صربا (جنوب لبنان قضاء النبطية)، وزوجها الخوري جريس كان قد قارب التسعين من عمره… اختفى الخوري يوم العزاء والدفن! الكل يسأل عنه علنًا ويتساءل سرًا: “تُرى كيف يبدو اليوم الخوري جريس؟ كيف يمكن أن يكون في جنازة زوجته التي كان يعبدها بعد ربه؟… وهو الخوري العجوز المشهود له بعبوسه ووهرته وشكيمته وتقلب مزاجه دون سابق إنذار؟”.
وجدوه في “قرنة المعقب”، خلف بيته، مقرفصًا يبكي كطفل صغير مردّدًا بصوت خافت: “راحت الخورية… يا ضيعانك يا حبيبة قلبي… يا حشيشة روحي… يا ويلَك يا تعتيرَك يا خوري جريس… لشو حياتي بعد منِك؟”.
بعد موت الخورية ترهبن الخوري جريس… ففي حين كان المرجع الديني والمدني وأحيانًا “المالي” للضيعة وحفّار قبور موتاها في إبان الحرب العالمية الأولى والمجاعة والأمراض المميتة واسراب الجراد، ها هو يعتكف
راح يمضي ما تبقى له من عمر (قارب المئة عام) متنسكًا، منعزلًا، بائسًا، يائسًا، يغلق بابه، يلتف على نفسه في فراشه بسحنة قاسية المعالم وذقن طويلة بينها وبين المقصّ عداوة… وسيجارة اللف لا تفارق أصابعه التي تملّك بها مرض “الأكزيما”، فترك عليها وعلى يديه ووجهه ورقبته الخرائط والخطوط العشوائية، وبألوان متنافرة زادت على بشرته السمراء الحادة خيالات أسطورية، وأطياف أشباح تتماوج وتضفي على قساوة حضوره التقوى، ممزوجة بالخوف والرهبة والوقار.
هكذا تحوّل الخوري جريس من حيث لا يدري وربّما من حيث لا يرغب إلى ناسك، إلى حبيس أو إلى راهب بامتياز.
*كاتب وإعلامي ونحات ورسام
وجوه من الذاكرة