كتب شربل فارس*
المعمرجي نجيب ابراهيم الحلو
سبع وتسعون سنة بين شاقوف الصخر ومعول الحقل
نجيب ابراهيم عقل الحلو ويُنادونه، في قريتي صربا(النبطية، جنوب لبنان)، نجيب عقل بالتركيز على جِبْ العائلة “عقل”. سبعة وتسعون عامًا عاشها أبو إبراهيم متنقّلاً بين الحقل والصخر.
مزارع مهووس بتنقيب أرزاقه واستصلاحها، لتصبح أكثر تأهيلًا لزراعة الحبوب وغرس “نصبات” الزيتون والتين والكرمة. لكنّه صَبَّ جلّ اهتمامه المهني – الحرفي على الصخر، ناحتًا مقَصِبًا فيه. يقتلعه من أكثر من مقلع، كيف لا؟ وهو الذي ورث هذه الحِرفة عن والده ابراهيم عقل المشهور ببناء حيطان الأرزاق والحقول والبيوت الصخرية- الترابية لأهالي القرية.
توفي ابراهيم عقل في عمر مبَكِّر تاركًا عدَّة الصخر لولديه نجيب وعقل من مَهَدَّة ومِخل وقارص وشاقوف و”بيك” و”ترتبيك” و”بوشارد”… كما ترك لهما بيتًا من الطين والصخر “الغشيم”، والذي كان قد بناه من الصخور الكبيرة، لا سيما تلك التي تحتضن زوايا البناء، والتي لم تخضع للنحت والتقصيب. وعندما تزوج نجيب كان لا بدّ من تقسيم البيت الى قسمين تفصل بينهما خزانة خشبية كبيرة: قسم له وقسم لأخيه عقل. حيث كان نجيب يكبر أخاه عقل بنحو خمسة عشر عاماً.
حمل الأَخوان عِدَّة الصخر الى حيطان الكروم والحقول والبيوت الطينية- الصخرية والى المقالع الصخرية… ومن الطبيعي أن يكون الأخ الأكبر نجيب “المعلم”، والأخ الأصغر عقل “المساعد” لأن نجيب كان بمثابة الأب البديل لأخيه عقل. وبذلك كان الحنون أحيانًا، والصارم في معظم الأحيان. وبالرغم من أن عقل كان سيء الطباع وبقلب حنون أيضًا، يتفاهم مع شقيقه الأكبر نجيب، بقليل من الكلام والحوار وبكثير من التفاهم “العاطفي- المزاجي” والصامت في معظم الأحيان.
أبو إبراهيم، بما يمتلكه وما ورثه من خبرة حوارية مع الصخر، أصبح “المعمرجي” الأول في القرية، مُعَلّم من دون منازع، من حيطان الحقل إلى حيطان البيوت الطينية، وبخاصة تلك “العايبة” او الآيلة الى السقوط، بعد شتاء قارص. تراه في مشهد يتكرر ولا يُنسى: يقف نجيب على السلم أو السيبة قبالة الحائط المنهار أو المائل وعلى أخيه عقل أن يجد في كومة الصخور على الأرض الحجر المناسب أو يعمل على صخرة بالمهدة والشاقوف بما يلائم مع ما يطلبه المعلم نجيب، ويا ويل عقل من لسان أخيه المعلم إذا ما أخطأ في مهمته. يؤنّبه، ويحنق عقل بصمت، و”يُتربس” بصوت منخفض حتى لا يسمعه نجيب. يكتفى عقل بتلويح يده قبالة وجهه. ويلوي برقبته يمينًا راميًا الشاقوف على الأرض بعصبوية. ولطيبة قلبه لا تلبث الزمهولة العصبية أن تمرّ بسلام، والمعلم نجيب على”السقالة” يدير له ظهره، لا يسمعه، أو يتظاهر بعدم السماع حتى لا يكبر المشكل: النهار بعدو بأولو… وصافي يا لبن..
المعمرجي نجيب تمرَّس حرفة البناء الصخري، وكان المعلم المميز في بناء الكنيسة الجديدة الكبيرة في القرية، في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، بمسؤولية وتقنية عالية. كأن تراه واقفاً على مدماك مرتفع جدًا في حائط الكنيسة، وبيده خيط يتدلّى منه البلبل الشاقولي، والمسترين الإسمنتي باليد الأخرى. يعمل بهدوء وقد تحسب أنه بطيء لكنه مشهود له بتوازن الحجر بين يديه وثبوته في المكان المخصص له “وعلى الشعرة”.
كان لبنان قد شهد عام ١٩٥٦ هزة أرضية دمرت الكثير من بيوت القرى، وبخاصة الطينية منها. ثم كان مشروع “التعمير” لمساعدة الأهالي على بناء بيوت جديدة من الباطون والإسمنت. شكّل هذا التاريخ منعطفًا ونقلة نوعية في حرفة البناء عند نجيب وشقيقه عقل. إنتقلا الى هذه المهام ولم يتغير التصنيف: نجيب المعلم دون منازع وعقل الفاعل المساعد. كان للمعلم الفضل الأبرز في إعادة بناء البيوت المهدمة وإلحاق غرف الباطون بها، أو بيوت كاملة من الباطون مع تعديلات “على الموضة” في ذلك الزمان… كزيادة المطبخ، وبما تيسّر، وأحياناً قليلة زيادة غرفة واسعة بما يشبه الصالون. أما الحَمَّامات أو بيوت الخلاء والمراحيض فبقيت، غالبًا، رهن الحواكير، وبين تكتلات السنديان والعشب اليابس والبلاَّن…
تقدّم أبو إبراهيم في العمر، ليتقاسم مع أخيه عقل الأرض الموروثة من الجد عقل وبخاصة كرمي الزيتون في “خلة الضبع”، والتين والعنب والصبير في “المطيط”. وكانت المحاصصة مناصفة في العقارين وأخذ كل منهما يهتم بقسمته…
ترك أبو إبراهيم عدَّة العمار ليكتفي بعدة الحراثة، كأن يحل المحراث والمعول مكان المَهَدة والشاقوف… ومع ذلك، بقي ترميم حيطان الحقل، التي عمَّرها والده، رهن إشارته وهمته وتحيته المتواصلة لوالده. وهو في التسعين من عمره، كان يستعين بعربة (كرّاجة حديدية) ذات الدولاب الواحد، لينقل عدّة الحقل ونصبات الزيتون الطرية وسطول الماء بعربة الحديد. كان يدفع بالعربة أمامه، وهو يتكئ عليها أيضًا، ويذهب الى كرم “المطيط” أو إلى كرم “خلّة الضبع”، فيزوِّد الخلّة المزدانة بالزيتون المعمِّر بنصبات جديدة من الزيتون الطلياني منفّذًا مقولة “زَرَعوا فأكلنا ونزرع لمن يأكل بعدنا” كان يردّدها على طريقته، ويتباهى بها بعد ولادة حفيده الجديد نجيب الصغير.
رأيته مرّة يرمِّم حائطًا في خلة الزيتون “خلة الضبع”، وأمامه صخرة كبيرة يتحايل عليها ليعيدها الى مكانها في المدماك الثال. ركع ودحرج الصخرة الى فخذيه، وحاول النهوض مستعينًا بعصا المعول. بعد عدة محاولات صرخ: “يا رب” وبنتعةٍ قوية أعاد الصخرة الى مكانها. مسح عرق جبينه بفوطة رقبته، وابتسم عربون تحية للمرحوم والده الذي بنى الحائط قبله.
اليوم التالي، كان من نصيب كرم “المطيط”، حيث يعيد “روح الشباب” إلى شجر التين والكرمة والصبير، ليعود الى بيته مساءً محمِّلًا عربته التي يجرها، ذات الدولاب الواحد ، كل أصناف العناقيد وأكواز التين والصبير ليوزعها على أولاده وأحفاده.
كان نجيب يترك بيته فجرًا ولا يعود إلا عند المغيب… وهكذا كان يفعل شقيقه عقل، وغالباً ما كانا يلتقيان في كرم “المطيط” كجيران وكلٌ في حصّته، يتبادلان التحية بهدوء، وأحياناً بصمت الإشارة…
بيد أن “عقل” خرج من البيت في صباح ربيعي عام ٢٠٠١ ولم يعد، ومالت الشمس الى الغروب ولم يعد… بحثوا عنه عند جميع الأقارب والأصدقاء ولم يجدوه. وعندما سألوا نجيب أشار بيد مرتجفة باتجاه كرم “المطيط” حيث وجدوا جثة عقل على كعب العريشة الحيفاويّة، وبيده المعول. بكاه نجيب بدموع الأخ والأب معًا، وبعد سنة ونصف اختفى نجيب بدوره، بحثوا عنه مطوّلاً ليجدوه قد فارق الحياة متكئًا على حائط عتيق في كرم “المطيط” إياه، وعلى بعد أمتار من المكان الذي أسلم فيه شقيقه عقل الروح.
مخل: آلة من حديد مستطيلة يستعان بها على رفع الحجارة أو قلعها، جمع : أمخال ومخول.
شاقوف: يَشُقُّ الحِجَارَةَ بِالشَّاقُوفِ : مِطْرَقَةٌ ضَخْمَةٌ تُقْطَعُ بِهَا الحِجَارَةُ
الصخر “الغشيم”: الصخر القاسي
قَصَّبَ الْبَنَّاءُ الْحَجَرَ : نَحَتَهُ، سَوَّاهُ
“يُتربس” (عامّيّة): يشتم ويردد كلاماً بانفعال
*كاتب إعلامي، رسام ونحّات