رحل أمس الأربعاء رسام الكاريكاتير والتشكيلي الفلسطيني زكي شقفة عن 76 عاماً. وشيّع جثمانه في مقبرة سحاب.
والراحل من مواليد عاقر – الرملة (فلسطين) العام 1945. عاش يوميات لجوئه موزعاً ما بين غزة ورفح ومدينة عمان الأردنية التي وجد فيها مقاماً ومعاشاً. أنهى مرحلة دراسته الثانوية بمدرسة بئر السبع الثانوية في مدينة رفح عام 1964، ليستكمل مسيرة حياته وصقل مواهبه الفنية الفطرية التي رافقته في طفولته وشبابه بمتابعة دراسته الجامعية في ميادين الفنون الجميلة التشكيلية التي أحبها ونمت طموحاته في ظلالها، مُنتسباً إلى كلية الفنون الجميلة بجامعة القاهرة مُتخرجاً من قسم التصوير عام 1969، ليُقيم بعد تخرجه وانتسابه إلى عضوية الاتحاد العام للفنانين التشكيليين الفلسطينيين معرضه الفردي الأول في جمعية الشابات المسيحية في مدينة عمان عام 1970، والثاني في قاعة فندق اليمامة بمدينة الرياض السعودية عام 1971، ولتستمر دورة عروضه الفنية التشكيلية والكاريكاتير الفردية والجماعية في أكثر من معرض ومكان داخل الأردن والوطن العربي وخارجه، وقد كان له في مكان إقامته الدائمة بمدينة عمان الأردنية مساهمات ثقافية ومهنية عديدة ومنها شرف المشاركة في تأسيس رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين عام 1976.
لقد أضافت مواهبه الفنية في ميادين الرسوم الكاريكاتيرية، صفحات مُشرقة من حياته الشخصية والمهنية، مكرسة حضوره الفني في أوساط صحفية عديدة عربية وسواها مُظهرة الجوانب الخفية في ملامحه الشخصية، ومُعلنة انحيازه لقضايا مجتمعه وأمته وقضيته الفلسطينية، والتي أخذت منه وقتاً مديداً من مبتكراته ومعارض متعددة داخل الوطن العربي وخارجه في الدول الأعجمية، فضلاً عن اشتغاله المهني والتقني في مجالات التصميم والإخراج الفني لأغلفة الكتب والقصص والمجلات، وقد عمل في صحف (الدستور، صوت الشعب، العرب، الرأي) وسواها، مخرجاً ورساماً للكاريكاتير فيها.
لوحاته التصويرية تكشف عن حدود مواهبه المدربة والمصقولة بملامسها الأكاديمية والمدرسية، ودالة على انتمائه لمجتمعه الفلسطيني وقضيته النضالية العادلة في عشرات اللوحات الممجدة للإنسان والأرض الفلسطينية وتراثه الشعبي. والمواءمة ما بين نضال الأرض والتاريخ والشعب في بوتقة شكلية وجمالية واحدة، تستعيد ما حفظ في ذاكرته البصرية عن جماليات موطنه الفلسطيني وهموم شعبه الحالمة والآملة بتحقيق حلم التحرير والعودة إلى ربوع ديارها وطبيعتها الخلابة وجذورها وناسها الطيبين. يرسم ذاكرة مكانه البصرية جامعاً مكوناتها الطبيعية وكائناتها الحيّة وفي مقدمتها الإنسان الفلسطيني في مسحته الفلسطينية الريفية والبدوية الموصولة بتعب الأرض وعرق السنين، بولائم تصويرية حافلة بالتعبيرات الجمالية والحسيّة والشعور بالفخر والزهو بتراثه.
معتمداً فيها على ما اكتسب من مهارات التواصل الفكري والممارسة التقنية لسبك مؤتلفات مكوناته، متخذاً الأساليب التعبيرية الواقعية، والتعبيرية الرمزية والتجريدية وجمعها في قوالب تصويرية تبيح له خصوصية التأليف والتفرد في تخير مواضيعه. المقاومة الفلسطينية هي العنوان الأبرز في مقامته التصويرية والمتناسبة مع مرحلة تفجر الثورة الفلسطينية وامتدادها الثوري في ستينيات القرن الماضي وفي عموم فلسطين وما حولها وتلمس صداها في مختلف بقاع العالم، ركب فيها صهوة الواقعية التعبيرية والرمزية المحملة بنكهة تسجيلية تفوح منها رياح المقاومة والتغيير والتبشير بنصر قادم ومحتمل على طريق التحرير والعودة المشتهاة للأرض الفلسطينية. وفي لوحاته أيضاً نجد تقاسيم التراث الشعبي الفلسطيني المُكرس في تفاصيل الحياة اليومية المعاشة بالريف والبادية وأطراف المدن وداخلها، تشتمل على مجموعة أماكن ومناظر وشواهد بصرية دالة على عراقة الشعب الفلسطيني وأصالته وتمسكه بأرضه وتجليات وجوده. من خلال مجموعة من الرسوم والأعمال الفنية التشكيلية التي تجمع في كنفها خيرات فلسطين المادية والبشرية والحيوية من بشر وكائنات حية وشجر. تجد فيها للمطرزات الفلسطينية فسحة واسعة الطيف في تفاصيل مكوناته، كما نرى للزخارف العربية الإسلامية مكانة مميزة ومكررة في تعبيراته وخفيات لوحاته.
لوحاته تجمع في أنساقها التقنية وبوحها التصويري التعبيري والجمالي أكثر من فكرة وتقنية ومدرسة فنية واتجاه، وكأنها ولائم بصرية ولدت من معين فنان متمكن بقدراته الأكاديمية والمهنية وخبراته من تطويع أدواته وخاماته خدمة لأفكاره وتصوراته، وصولاً إلى مرحلة الاختمار الشكلي في رصف مقامات مكوناته الجامعة ما بين ذاكرة المكان الفلسطيني بكل ما فيه من حيوية وأصالة وتراث، والتقنيات المعجونة بملونات محاكية للطبيعة في بنيتها الشكلية واللونية، وذات الفنان الشخصية ورؤيته لحقائق الوجود وطبيعة الأشياء التي يرسمها ويدرجها في داخل أسوار حدائقه التشكيلية.
الإنسان الفلسطيني مفردة أساسية وجوهرية في عموم لوحاته، سواء أكان رجلاً أو امرأة وتُشكل المعادل البصري لمجموع خطوطه الساعية لرسم حدود جغرافية تستوعب كتله المتداخلة، ومساحاته اللونية المؤتلفة داخل أروقة التكوينات التي تخطها يداه وبصيرته النفوذ إلى عمق الأشياء وخلفياتها الرمزية والمعنوية والتصاقها بالأرض الفلسطينية وبمواضيع المقاومة والتراث. تستحضر القصص الشعبية تارة، وصور التضحيات الموصوفة بالفدائيين العابرين تارة، وتتغنى بالموروث الشعبي الفلسطيني في كثير من الأحوال. وتجود بتقاسيم متوالدة من رحم البادية الفلسطينية ومعزوفات الحنين للرعيان المتساوقة مع غناء السهول والجبال والوديان.
ولقطات تصويرية أُخرى تتغنى بجماليات التقاليد الأسرية المفتوحة على الألفة والمودة والمحبة، والعلاقة الحميمة ما بين الرجل والأنثى كرفيقين متماسكين في رصف الدروب معاً نحو وطن فلسطيني مزين بالخير واليمن والبركة. ولا تخلو لوحاته من المرصوف الجمالي للزخارف العربية الإسلامية التي تزين خلفياته بمداها البصري ورمزيتها الممتدة في عمق التاريخ ونسج معالم حضارته، وكأنها حرز جمالي وضرورة تعبيرية متممة لفسحة مقولاته الفنية التشكيلية، تلك المعشبة بمظاهر العمران العربية المسيحية والإسلامية والتي تعطي لمشاهده أبعاداً حضارية وإنسانية لافتة. فالرمز والتورية الشكلية النصيّة في عموم لوحاته بادية لعين المتلقي وبصره وبصيرته تعطيه المدى لأن يجوب في مسرح فصولها التصويرية براحة تأملية واستنتاجات معرفية وجمالية بأنه يقف أمام فنان يمتلك حساسية عالية ومقدرة فنية مواكبة لروح الحداثة. سواء في تعبيرات الثورة الفلسطينية المعاصرة التي يجسدها شكل الحصان بحيوية حركته الخطية واللونية داخل متن اللوحات. أو فصول التراث المنثورة في فضاء المشاهد المعبرة، أو مرئيات الحقول والجبال والسهول التي تتناغم مع أبجدية التاريخ والجغرافية وحديث الأرض والإنسان الفلسطيني المتمسك بوطنه.
ملوناته تهيم في متاهة عجائنه اللونية المتناسلة من دائرة الألوان الرئيسة، تستقوي بالملونات الأساسية من أحمر وأزرق وأصفر وتنادم الملونات الباردة في كثير من لوحاته وتضع فسحة وإطلالة شكلية للملونات الحارة المتناغمة مع ضرورات الفكرة والمعالجة التقنية والتصويرية. فالأخضر والأصفر المكفهر والحزين وتدريجات الأزرق في تدريجاته هي الأكثر حضوراً في مبتكراته التصويرية. وجدير بالقول أن رسومه التصويرية متأثرة إلى حد كبير برسومه الكاريكاتيرية التي اتخذها حرفة مهنية ويومية، وما تحمله من طقوس تعبيرية مشهودة ومؤثرة على مجمل مسيرته الفنية، والتي كرسها في مجموعة كبيرة من الرسوم التعبيرية الرمزية المعنية بوصف واقع الحال الفلسطيني الثقافي والسياسي والنضالي بجمل فنية واضحة البيان والقسمات
ينتمي شقفة لجيل مجموعة رائدة من الفنانين الذين وضعوا حجر الاساس للوحة الفنية في الاردن وكان هذا الجيل بحكم اقترابه التاريخي من هزيمتي 48 و67 ملتصقاً بتأكيد الهوية وسرد المأساة الفلسطينية.