كتبت حياة جابر علي أحمد:
في 16 آذار/ مارس 2021
ابن النبطية، نائب حاكم البنك المركزي في لبنان سابقاً، الدكتور عبد الامير بدر الدين، هامة وطنية من عملة نادرة..
في دفاتر ذكرياتي جمعٌ من حوادث واسماء لكبار من النبطية، هذه المدينة التي هي بالنسبة لي كالمرآة التي أرى فيها وجهي، وحلوَ مستقبل اولادي واحفادي، برجالها ونسائها أفخر، وبمكانتها في لبنان الوطن أعتز.
لقد كتبت عدة مرات منوهة بوجوه ثقافية وعلمية واجتماعية واغترابية كان لها شأن وفضل، والحديث اليوم عن شخصية بارزة كبيرة معروفة في الاوساط الاقتصادية والثقافية في لبنان والعالم.. شخصية نبطانية وقامة مرفوعة، رجل العلم والثقافة والشهامة، هو: الدكتور عبد الامير بدر الدين نائب حاكم البنك المركزي في لبنان.
لمَنْ لا يعلم من هو، وكثيرون في هذا الوطن لا يعلمون، هو عاملي أصيل ابن النبطية مدينة العلم، تلقّى علومه الأولى في مدرسة عبد اللطيف فياض، المدرسة الرسمية في البلدة، انتقل بعدها الى مدرسة الامريكان في صيدا، والى الجامعة الاميركية في بيروت لدراسة الاقتصاد والعلوم السياسية، والى اميركا. وليغرف المزيد من العلم والمعرفة نحو جامعة اوكسفورد أرقى وأعرق الجامعات في العالم، حيث تابع دراسته حتى درجة الدكتوراه في العلوم المالية والبنوك المركزية، ودكتوراه في الاقتصاد نالها بدرجة امتياز، لتحظى بحوثه واطروحاته أعلى درجاتٍ بين أقرانه…
عاد بعدها الى الوطن ليدخل المدرسة الشهابية، مدرسة الاصلاحات، مدرسة مجلس الخدمة المدنية وديوان المحاسبة والتفتيش المركزي، فكانت شهادته جواز اختبار من قبل الراحل الرئيس فؤاد شهاب لحاكميّة المصرف المركزي، ومن قِبل صاحب السمو الملكي الأمير طلال بن عبد العزيز ليكون مستشاره في استثماراته وتوظيفاته المالية في السعودية، المدينة التي لجأ اليها وعائلته جراء احداث لبنان…
عندما بدأ الرئيس الراحل فؤاد شهاب ببناء دولة المؤسّسات، اختار الدكتور عبد الامير بدر الدين نائباً لحاكم البنك المركزي، من دون وساطة أو شفاعة أو أي انتماء سياسي، فقط لأنّه رأى فيه الكفاءة العالية والنزاهة المفرطة. وكان في حدسه صائباً، إذ لم يكن صاحبنا محسوباً على أي زعامة محلية، ولا على أي من الاقطاع السياسي، ومن لم يستسيغوا أن يعيّن هذا الرجل بمعزل عن الذين لم يتّفقوا يوماً إلا على الاحتجاج، ووئد احتجاجهم على بوابة القصر الرئاسي في صربا.
عُين في مجلس النقد والتسليف بمرسوم رقمه 154 سنة 1959، وعندما صدر قانون المرسوم تقرر اقامة مصرف لبنان، وعُيّن وزير الخارجية فيليب تقلا حاكماً والأعضاء: د. بدر الدين وجوزيف اوغورليون وشفيق محرم،، فاشتغلوا على بناء البنك وتأسيسه. وعين “الأمير” نائبَ حاكمٍ للمصرف المركزي عام 1963، وعُين الياس سركيس حاكماً بعدما استقال فيليب تقلا، وعندما تم انتخابه رئيساً للجمهورية عُين ميشال خوري مكانه.
وظل د. بدر الدين نائب حاكم للمصرف المركزي مدة عشرين عاماً، بعدها انتقل الى مرحلة مهمّة في حياته الى السعودية حتى العام 2016 هو وعائلته خلال احداث لبنان.
فتح له وجوده في الرياض كمستشار لسمو الامير طلال بن عبد العزيز المُلقب بأمير الانسانية، اتصالات مع اميركا واوروبا والعالم الخارجي.
“عندما اتحدث عن الدكتور عبد الامير”، تقول زوجته، رفيقة العمل والدرب، “السِت ليلي” كما كان يسميها: “اتخيل البحر والموج وعطاءه وعظمته وألوانه، نرى اللون الازرق في كل اللوحات التي كان يرسمها ويقدّمها لنا هدية في مناسباتنا العائلية، الامير كان ينبوع معرفة وعلم وعطاء، انتماءاته العائلية المتينة والوطنية والانسانية والصداقة والعمل من المقدسات”.
“كان أبي وراء دراستي المحاماة في باريس”، تضيف “ليلو”، كبرى بنات الأمير التي اسماها على اسم والدتها، وتردف: “كان زوجاً وأباً حنوناً يزورني ويتابعني باستمرار، لا بدّ من أن يحثني، كلما اتصل او راسلني، على قراءة كتاب جديد فيه فائدة لتخصصي. لم أزل أتذكر فخره واعتزازه بي عندما نلت شهادتي بتفوق. الوقت عنده ثمين يقضيه بين الكتاب والرسم، فالعلم والثقافة والمعرفة هي كل شيء في حياته “.
تقول سيليا الابنة الوسطى: عندما كان أبي في الجامعة الاميركية، درس شعر شكسبير وفلسفته، ومن احدى رواياته اختار لي هذا الاسم: سيليا، وقدم لي مجموعة مسرحيات شكسبير باللغة العربية، وربما كان هذا سبب حبي للأدب والشعر، كان لا يفارق الكتاب، عوّدنا منذ الصغر على المطالعة، فيكافئنا بالكتب على نجاحاتنا،ف لو دخلت علينا في أي وقت لوجدت كلّ منا على كنبة والكتاب بيده”.
أما “سيبيل” الأبنة الصغرى، فقد تأثرت كثيراً بأبيها، وحازت شهادة الماجستير في الشؤون الدولية. تقول: “الاسم من اصل يوناني، استمده أبي من اشهر لوحات مايكل انجلو. وعندما اشتغلت في البنك رضخت لعدة امتحانات في جامعة “ايذا” كان أبي يصوّر كل كتاب ليساعدني ويشرح لي ما لا افهمه، كان قريباً يتابعنا أينما كان، فأبي لا يحب المظاهر ولا تعني له وكان يأسف على ممن كانوا اسرى لها”.
وبعد..
كان الدكتور عبد الامير بدر الدين شخصية نبيلة استثنائية، تتمتع بمزايا ندر ان تجتمع في شخص واحد، فالنزاهة المفرطة أبرز صفاته، وهو أصلاً من أسرة كريمة، وينطبق عليه قول معروف الرصافي:
“وخير الناس ذو حسب قديم أقام لنفسه حسباً جديدًا”..
لقد تفرّع عن الدّوحة الشريفة، والأسرة الكريمة، عشرات من الأغصان الوافرة المضيئة. والده السيّد صبحي بدر الدين، وجدّه السيد مصطفى من كبار التجّار وملاّكي الاراضي.. عائلة علماء وشعراء وأدباء وفنانين، منهم شقيقه الشاعر والفنّان ياسر بدر الدين، وعمّه الدكتور علي بدر الدين رجل العلم والسياسة، والطبيب البارع مالك بدر الدين.
كان مؤمناً بالله وبدينه من دون تعصّب. تزوّج من فتاة من أهل الكتاب وكان مزهوّاً بإيمانه، من دون الحاجة إلى إعلان أو إظهار أو إشهار.
صديق مقرّب جدّاً من السيد موسى الصدر، الأمر الذي حذا بالدكتور رائد شرف الدين، ابن شقيقة السيد، ونائب الحاكم الحالي للمصرف المركزي، أن يطلب من السيد عبد الأمير كتابة مقالة عنه لينشرها في كتابه.
استمر بدر الدين في متابعة دراساته وابحاثه المالية الى ان بات مرجعاً اقتصادياً مالياً يتحلّى بمصداقية وموضوعية، وعلى الأخص في قطاع النقد. وقد توّج حصاده الرائع، كتابه الصادر في العام 1984 بعنوان: “مصرف لبنان _البنوك المركزية في المركز المالي والمنطقة الحرة المالية”
وقد اعتبر لورد بولوك، مؤسس كلية سانت كاثرنز ورئيس جامعة اكسفورد، في مقدمة كتاب بدر الدين “دمار لبنان هو أحد المآسي الرئيسيّة في أواخر القرن العشرين، بالرغم من أن العالم كان ينظر الى لبنان منذ وقت قصير فقط كسويسرا الشرق الاوسط، وكواحة من التعقل في وسط محيط يسوده عدم الاستقرار، كيف عمل هذا النظام الرائع في مثل هذه الظروف؟ كيف كان لبنان يدير ماليته وما كان الدور الذي لعبه مصرف لبنان وهو المؤسسة الوطنية الوحيدة الباقية؟ لا يوجد مثيل لمصرف لبنان بين جميع المؤسسات المالية في العالم “.
ذلك هو موضوع هذه الدراسات الفريدة التي قام بها د. عبد الامير بدر الدين، تمّت كمشروع بحث في جامعة اوكسفورد باشراف سير روي هارود،، فكان من الاوائل ممن كتبوا عن المصرف المركزي والنقاش في الامور النقدية والمصرفية والسياسة المالية، ويُعدّ مرجعاً غنيّاً للدارسين والباحثين في النظريات التقدية.
وكان امضاء د. بدر الدين يمهر كل اصدار للعملة الوطنية، ويتابع كل تحويلة كبيرة، فكان البنك المركزي بلبنان هو اول بنك مركزي بالبلاد العربية، يتداولون بالليرة اللبنانية في بورصات الأسهم متل الدولار والفرنك وكانت عملته تسمّى في أكثر دول العالم بالعملة الصعبة.
عاش نائب الحاكم ولم يأخذ حقه، وكان موقعه كموقع الكرام على مائدة اللئام. توفي في تشرين الأول سنة 2017. أما بعد وفاته، فقد تلقفته ايادي العناية بالسهر والرعاية، فتمّ تكريمه في مناسبة الذكرى السنوية الأولى لرحيله، في احتفال أقيم في ثانوية حسن كامل الصباح الرسمية سنة 2018.
رثاه وكتب عنه الكثيرون، واشادوا بغياب الدكتور عبد الامير..
في كلمة ابن شقيقته “الموقرة”، سماحة الشيخ عبد الحسين صادق مدح في خاله امانته واستقامته. وقريبه الذي اثنى وحمد اخلاقه بقوله: “إن الذي يتعرف إليه يشعر نفسه بلا اخلاق”. وألقى شقيقه الشاعر ياسر بدر الدين قصيدة ادمت القلوب. وكتب عنه العميد د. هشام جابر في صحيفة اللواء، تضاف إليها كلمة صديقه الوزير فوزي صلوخ، وكلمة توفيق شامبور المدير السابق في مصرف لبنان وغيرهم، ممن استعنتُ انا بهم وباقوالهم لاكتب عمن وقعوا على هوية مشرفة اعتز بها، حملت توقيع العبقري حسن كامل الصباح على اختراعاته، وتوقيع النائب محمد بك الفضل على العلم، وتوقيع دكتور عبد الامير بدر الدين على الاقتصاد…
لن يفتقده لبنان »مشروع الدولة« ولن يفتقده أهله ومحبّوه فحسب، بل ستفتقده الاستقامة والأخلاق، وبه كانت متناهية، وتفتقده النزاهة، وبسلوكه كانت ساطعة، ويفتقده العلم الذي وصل به إلى أعلى درجات.
كشهاب شعَّ وانطفأ، تاركاً اطيب الأثر. إلى جنة الخلد حيث لا فاسدين ولا مرتشين.
سقى الله تلك الايام التي تركن في خبايا ذكريات ذلك الزمن الجميل في بلدتي ومسقط رأسي النبطية.
واخيراً، يراودني قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، وقد حمل عبد الأمير شيئاً من اسمه وحظي بشرف نسبه:
“قم بعلم ولا تطلب به بدلاً فالناس موتى وأهل العلم أحياء”.
___حياة___