- كتب شربل فارس*
الأحد في 14 آذار/ مارس 2021
عازف المجوز يوسف نجم الحلو
الحسون الأخير في سنديانة الوعر
رحل بعدما أزهرت أنامله على المجوز. رحل عن خمسة وتسعين عامًا، وعن سبع وسبعين سنة من العزف على “القصب”. غادرتْنا الدلعونا حزينةً برفقة بيت العتابا الأخير، وتفكّكت حلقة الدبكة الأخيرة بالأسى والخجل…
رحل يوسف نجم الحلو تاركًا مجوزه رهينة فرح مؤجّل. ترك في سجل قريته (صربا الجنوب) إلياذة الدلعونا ومشاهد عن مئات الألوف من حلقات الدبكة، والتي تناقلتها سبعة عقود من أجيال الضيعة.
رحل أبو جريس في “عز” الزمن الرمادي بعد رحيل قامات الزمن القرويّ الجميل، وبقي على البيادر من هُم في سنِّ اليأس، ومن ينزوي في ظلال أطلال جوقة ندّابة، وحلقات قليلة مبعثرة على رماد الحنين.
حسبي أن يوسف نجم الحلو لم يولد إلاَّ وبيده القصب (المجوز)، وأوّل كلمة نطق بها كانت عزف الدلعونا، وأولى خطواته كانت وسط حلقات الدبكة. سبع وسبعون من أصل خمس وتسعين سنة، من سني عمره، وهو ينثر الفرح في ساحات صربا وعلى بيادرها، وظلَّ “يدقُّ المجوز” إلى حين نزفت قريتي، هاجرت أو تهجَّرت، ولم يبقَ منها غير “نتفة” من الأحياء اقتصرت مهامهم على دفن الموتى، العائدين الى القرية في صناديق خشبية…!
في أيام الزمن الجميل، وفي أربعينيات القرن الماضي، كانت حلقات الدبكة تتجاوز أكتافها المئات من “الدّبّيكة” ذكورًا وإناثًا، فرقة منهم تغنّي الدلعونا إرتجالًا أو حفظًا عن ظهر قلب، والأجمل كانت الدلعونا الزجلية بين شبابٍ وصبايا يتبارون بما يشير إلى الحب والعشق بينهم، بمرافقة “نتعات بالعالي” وشدّ الأيادي و”زرْك” الأكتاف وإيقاعات معيّنة في ضرب القدم بالأرض بقوّة وعصبيّة… العصا أو المحرمة في يد من “يقف على الحاشي” يلوِّح بها ويغني لفتاة مجهولة “معلومة” تمسك في وسط الحلقة، في حوارية دلعونية، تعود لفترة الحرب العالمية الثانية :
سألتها ما الإسم قالت لورنسا
بنسى المسكوني وإسما ما بنسا
ومتل ما هتلر هاجم عا فرنسا
هجومي عا إمَّا هيك بدو يكونا
وتجيبه الفتاة إيّاها بغنج ودلع:
“طلُعتْ عالسطح للْعبْ بالطابي
دخلك يا إمي إجوا الخطّابي
إن كنّك عزّابي تَسِّر تيابي
وإن كنك متجوز يللاَّ من هونا”
يبدو أن العاشق كان متزوجًا! ؟
مضت الأيام وتقلّصت حلقات الدبكة حتى الإندثار أمام جحافل الديسكو…! و أبو جريس يواجه “غدر الزمان” بالمجوز مفتعلًا الفرح التراثي. لن يتوقّف عن العزف حتى ولو لقلّة من الأوفياء.
في سنواته الأخيرة، إكتفى أبو جريس بالعزف صباحًا ومساءً لرفيقة دربه مريم (ام جريس) التي تشاركه الغناء بما تبقّى لها من صوت جميل، ويِزهر ربيع الحب في حضنهما، وهما في أواخر خريف العمر…
لم يتوقّف يوسف نجم عن العزف على المجوز إلاّ حين فارقت حبيبة العمر ام جريس الحياة ورحلت معها الخوابي العتيقة من العتابا والميجانا وبو الزلف والدلعونا والشروقي… برحيلها ماتت أنفاس الفرح، بل إكسير الحياة في المجوز، ولمن يعزف العاشق التسعيني بعد اليوم؟
بعد شهرين على غياب ام جريس جمع أبو جريس كلّ زاده و ذخيرته من القصب (المجوز) و”لفلفا بمحرمة مُطرَّزة” كانت قد أهدته إيّاها زوجته من أيّام العزوبيّة… وضع اللّفة تحت المخدّة، أسند عليها رأسه وأسلم الروح للخالق وللزوجة. وقيل انّه بعد موت زوجته امتنع أبو جريس عن تناول دوائه لمرض القلب ليختصر المسافة بينه وبينها.
رحل يوسف نجم الحلو وأغلق باب الفرح والأمل والحنين وراءه بقوة، طاويًا آخر صفحات التراث الفرِح في تاريخ بلدتي صربا.
في غيابه تفكّكت آخر حلقات الدبكة وسقط الحاشي في غبار النسيان.
*كاتب وإعلامي ورسّام ونحّات
رسم وكلمات شربل فارس