ميشال حايك: العاشق الحبيس
كتب شربل فارس*:
جاء ميشال سعيدي هلموا وراءه…!
نركض وراء سيارته “الطوزة” (سيارة ستروان) فنتوارى في غبار يزعق وراءها، وسرعان ما تتمهل لتصطف في ظل الكنيسة المشرفة على البيادر، حيث أجدادنا يفلشون طرحة القش ويدرسون الغلَّة…
يترجل ميشال سعيدي من سيارته على آخر طراز وأناقة، تتدلى من كتفه الكاميرا، ومن فمه الغليون، وتتستر عيناه بنظارات شمسية سوداء. يبتسم لنا، إنما يتقدّم نحونا، نحن أطفال القرية، ويمسح يده على خدودنا السمراء، ثم يوزّع علينا “المُلَبسَ” أو “الدْرِبس” _قطع من الحلوى_ بعدها يتّجه الى البيادر ليطلّ كالعادة على أصحاب ورشات دراسة القمح، يُسلِّم عليهم بالعوافي ويفتح حديثاً معهم عن محصول “هذه السنة”، ولا بأس من أن يتطرّق معهم الى كيفية معالجة بعض الآفات الزراعيّة المتعلّقة بالقمح، كيف لا وهو المهندس الزراعيّ الوحيد في قريتي صربا الجنوب و في الجوار… بعد هذا الحديث المقتضب تبدأ جولته التصويرية المعتادة، فيدور ويفتل على جميع المزارعين الدرَّاسين مصَوّرًا بلقطات بطيئة وسريعة غالبًا. أمّا نحن، الأطفال، فإننا ننتهز المناسبة لنطلع في الصورة كأن نتغلغل بين فدّان البقر أو نقف على النورج أو نرتمي على عرامة التبن أو نتمدّد في ظلال أكياس القمح.
وهذا الزائر اللطيف، الأنيق، الخبير الزراعي ميشال حايك (1937- 2016)، المعروف بميشال سعيدي (جدته تدعى سعيدة) كان يأتي من بيروت الى القرية في معظم المواسم الزراعية. يطلّ على الفلاحين ويسهر معهم، بكل تحبّب، على المصطبة في ضوء القمر صيفًا. وقرب الموقد أو “حارون” النار شتاءً، والكاميرا لا تفارق كتفه. يقتنص المشاهد، أو يمتشق الكاميرا، على غفلة، ويتمترس على لفة زاروب أو منعطف “قادومية” أو زاوية حقل فيلتقط، مثلًا، عدة صور للحج سعد وراء فدّانه وهو يفلح “الرزقات” أو يزرع “القمحات”، أو يتوقف مطوّلًا أمام بيدر أبو مارون يدوِّن بعدسته دوران النورج والفدَّان والمختمية على بوز الدابة لمنعها من التهام سنابل القمح… ولا بأس لو التقط بسمة عفوية أو مصطنعة من “أبو مارون”، أما أجمل الصور فستكون حتمًا لإبنة أبو مارون وقد لوَّحت شمس تموز وجهها… وهي الواقفة على النورج رافعةً “المسّاس” بيمينها وكأنها تحمل شعلة الحرية “النيويوركية” وفي قرية متواضعة من جنوب لبنان…!
ميشال حايك من الأوائل الذين “هاجروا” إلى بيروت في خمسينيات القرن الماضي طلبًا للعلم أو العمل. ينحدر الخبير الزراعي من بين أفقر عائلات فلاحي قريتي الذين “نزحوا” إلى العاصمة طلبًا للعلم، ليس إلاّ، فعاشوا في أحزمة بؤسها…
بعد المرحلة التكميليّة تابع ميشال حايك دراسته الإختصاصية في الحقل الزراعي ودراسة التربة ليلتحق بعدها بمصلحة الأبحاث الزراعية…ليتحوّل الى “حبيس” في صومعة هذه الأبحاث . وعلى مدى ثلاثين سنة اعتكف الباحث الناسك في صومعته الطبيعية يعمل على إكتشاف النباتات الطبّيّة. أصدر سبعة معاجم في موسوعة “النباتات الطبية” و موسوعة “النباتات الميسَّرة”. وصدرت هذه الموسوعات بست لغات عالمية. أمضى ميشال حايك عمره باحثًا علميًا في التربة ومصورًا فنيًا لما هو فوق التربة. قام بجولات ميدانية في مختلف أرجاء الوطن معلقاً الكاميرا على كتفه مصوِّرًا لمعاجمه نباتات الطبيعة اللبنانية (٣٠٠ صورة ملونة).
والى جانب فرادته في البحث العلمي الزراعي تفرّد ميشال حايك في فنّ التصوير الفوتوغرافي في تصوير النباتات ثم في تصوير يوميّات وعادات فلاحي قريته صربا (الجنوب- إقليم التفاح) وكأنه في مهمّة تصوير”ذاكرة صربا” وتدوينها في سجل الأولاد والأحفاد من الحقل الى البيادر الى الشقاء والعوز الى قهر النفس وعزتها من الأعراس الى المآتم… وتحوّل المهندس الزراعي من مصوِّرٍ هاوٍ الى فنانٍ محترف. ويعود الفضل في ذلك الى عشقه للأرض وأهلها الفلاحين الطيبين، الى بيوتهم الطينية، الى معبور مسقط رأسه في قريةٍ أنسن أزقّتها وخلَّد بساطة ناسها وعنفوان الهِمَّة من الحقول الى البيادر.
ترك ميشال حايك لوطنه كنزًا علميًا ولأهله ذاكرة صربا بين نهاية الخمسينيات ومطلع السبعينيات من القرن الماضي..
شكرًا ميشال حايك، وإن رحلت، نبراسك لا يزال، ينير ذاكرتنا…
*كاتب وإعلامي ورسّام ونحّات
رسم وكلمات شربل فارس