كتاب مرجعي بالفرنسية من القرن التاسع عشر
عن «دار كتب للنشر»، صدر أخيراً «سوريا: أزياء وأسفار ومشاهد» (باللغة الفرنسية) بطبعة ثانية بعدما كانت الطبعة الأولى تعود إلى عام 1865. كتاب يجمع بين العنصر الجمالي والوثائقي، إذ كان باكورة الأعمال التي عرّفت العالم الغربي إلى أزياء منطقتنا خلال القرن التاسع عشر. ننشر هنا مقدمة الطبعة الثانية بقلم الكاتب بدر الحاج
نُشِر هذا الكتاب الاستثنائي في طبعة واحدة وصدرت منه 60 نسخة مرقّمة في إطار مشروع طموح تحت عنوان «المعرض العالمي للشعوب». وفي عام 1865، قدم الناشر الفرنسي شارل لالمان (1826-1926) السلسلة قائلاً:
«إليكم الخطة التي رسمتها لنفسي.
من خلال الصور، سنعيد إحياء الأزياء الوطنية التي تندثر بسرعة أمام الحضارة، ونخلّد ذكرى ما كان جميلاً وبهياً لأصحاب الذوق الرفيع والفنانين على حد سواء؛
وسنعيد رسم الأنماط الشائعة في كل من البلدان بوفاء المصوّر؛ ليصبح هذا الكتاب أداة مساعدة قيّمة لدراسة التاريخ المعاصر والجغرافيا، وفي الوقت عينه وسيلة ترفيه ممتعة في صالونات عالم الأناقة؛
وأرفقنا مجموعة اللوحات هذه بنص تثقيفي ومشوق في آنٍ معاً؛
وسوف توزّع مجموعتنا من خلال اشتراك سنوي يتضمن مئة لوحة تصويرية على ورق صيني إلى جانب نص من أكثر من 150 صفحة مكتوبة بعناية.
وسيتوزع هذا الاشتراك على 6 دفعات تضم الواحدة منها 15 إلى 17 لوحة يتم توصيلها بانتظام إلى المشتركين كل شهرين ابتداءً من 15 كانون الثاني 1865».
كان كتاب «سوريا: أزياء وأسفار ومشاهد» آخر ما نُشر من سلسلة «المعرض العالمي للشعوب»، غير أنه لم يلقَ النجاح المأمول، وقد سبقته أربعة كتب مماثلة في 1865 تناولت على التوالي المناطق الآتية: ألزاس وفورتمبيرغ ودوقية باث الكبرى والغابة السوداء.
وقد شكّل هذا الكتاب باكورة الأعمال التي عرّفت العالم بالأزياء الوطنية السورية عبر الصور الفوتوغرافية في القرن التاسع عشر. أما الصور الفوتوغرافية التي التقطت في الشرق الأوسط منذ خمسينيات القرن المذكور، فكانت لمشاهد طوبوغرافية أو معابد ومعالم قديمة كانت تلاقي الصدى الإيجابي لدى القراء الغربيين.
قليلة جداً كانت الصور التي التُقطت للأزياء المحلية في المشرق. مع ذلك، تبدل الأمر في مطلع عقد الستينيات من القرن التاسع عشر، حيث بدأ المصورون الغربيون بالتوافد إلى مدن المشرق وأسسوا الاستديوهات وأخذوا يلتقطون الصور للعادات والتقاليد والحرف والأزياء المحلية التي كانت بمعظمها غريبة عن الواقع حيث تمتزج فيها التخيلات الاستشراقية.
عندما انطلق مشروع «المعرض العالمي للشعوب»، استعان لالمان بالمصور البريطاني لودوفيكو ولفغانغ هارت (1836-1919) والكاتب الفرنسي إيميل سولييه ومقدم المشروع في باريس أرنماند فاروكييه.
بالرغم من إزالة اسم هارت من الكتاب، من الواضح أن صوره الثمانية عشرة هي التي أضفت على العمل طابعه الجمالي والوثائقي الفريد الذي افتقرت إليه كتب الرحلات المشابهة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
عمل هارت في قسم الهندسة في البحرية البريطانية بين عامي 1853 و1858. وبما أن عمله هذا تطلب منه دراسة التصوير، التحق المصور البريطاني بدورات تصوير وتتلمذ على يد أحد أبرز المصورين البريطانيين، تشارلز طومسون (1816-1868).
ونظراً لما أظهره من تميز وبراعة، نشر هارت عام 1857 كتاباً في مدينة ساوثهامبتون البريطانية حول التكنولوجيا والتصوير بعنوان: «التصوير ببساطة: بحث عملي حول عمليات الكولوديون والألبومين».
وفي عام 1855، شارك هارت مع فريق من المهندسين من البحرية البريطانية في معرض باريس العالمي السنوي، وقدّم وإياهم أجهزة تستخدمها البحرية البريطانية في مسوحات الخرائط القائمة على حساب المثلثات.
كان للفترة التي أمضاها هارت في باريس أثر كبير في حياته، فبعدما أنهى خدمته العسكرية بفترة وجيزة، تبدلت حياته جذرياً وانتقل للعمل كمصور محترف حتى وفاته في عام 1919.
وفي عام 1858، دُعي هارت للعمل كمصور في أشهر الاستوديوهات الباريسية التي يملكها مخترع «بطاقة الزيارة» (Carte de Visite)، وهو المصور المعروف أندريه أدولف أوجين ديسديري.
راكم هارت بفضل عمله هذا خبرة مهمة وأظهر براعته في التقاط البورتريهات على بطاقة الزيارة. وتجلت هذه البراعة بوضوح في الجودة والجمالية اللتين تميزت بهما مساهمته المنشورة في مشروع «المعرض العالمي للشعوب».
وإثر انتهاء عقده مع ديسديري في عام 1860، بدأ هارت بالعمل مع لالمان في المشروع المذكور.
في عام 1865، انطلق هارت ولالمان في رحلة إلى الشرق، فزارا مصر حيث التقط هارت ما يقارب 60 إلى 70 فيلماً سالباً (نيغاتيف) بجودة عالية، وكانت الصور عبارة عن بورتريهات وصور أخرى لمعالم أثرية مصرية. بعد ذلك، توجها إلى بيروت بناءً على رسائل توصية من الحكومة الفرنسية بوصفهما «فنانين في مهمة لصالح الحكومة الفرنسية» موكلَين بإعداد تقرير حول الحرب الأهلية في عام 1860. علماً أنه من المستغرب أن تطلب الحكومة الفرنسية إليهما إعداد هذا التقرير بعد انقضاء خمس سنوات على نهاية الحرب. على أي حال، بدا محتوى الكتاب وتركيز المصور والكاتب على المنطقة الشمالية لبيروت، حيث أغلبية السكان من الموارنة، والمنطقة الجنوبية التي تقطنها غالبية درزية، مرتبطاً بالمهمة التي انتُدبا لأجلها.
ففي مقال نشرته المجلة البريطانية «بريتيش جورنال أوف فوتوغرافي» (المجلة البريطانية للتصوير الفوتوغرافي) في أيار (مايو) 1865، كشف هارت أن التصوير لم يكن معروفاً في المناطق الشمالية لبيروت وأنهما حظيا بأحسن الضيافة، لا سيما لالمان كونه فرنسي الجنسية. وذكر هارت أنهما تلقيا المساعدة على الفور، وتحولت إحدى غرف الكهنة إلى مختبر للصور. وتمكن هارت من التقاط صورة للبطريرك الماروني بولس بطرس مسعد والبطريرك الروم الملكيين غريغوار يوسف بزيهما الكنسي.
وخلال جولتهما في الشويفات، أقنع هارت ولامان الأمير ملحم ارسلان بالتقاط صورة له، كما سمح لهما الأمير بتصوير إحدى بناته. والغريب في هذه الحادثة بالنسبة إلى هارت أن الصور الثلاث التي التقطها للأميرة «أخفقت في إظهار جمال هذه المرأة الآسر».
وبعد نقاشات طويلة مع طرفي الحرب 1860، اختتم هارت مقاله بالقول: «أود تدوين ملاحظة في هذا الشأن. إن الدروز والموارنة الآن على أتم الوفاق، فهم أدركوا أن الحوادث المأساوية التي وقعت في عام 1860 كانت نتيجة التحريض التركي الذي سعى إلى إشعال الفتنة بين الطرفين».
استطاع هارت بفضل الصور الثماني عشرة التي نُشرت في هذا الكتاب أن يحفظ لنا صورة حقيقية عن الأزياء السورية التقليدية التي لم يعد لها أي أثر اليوم. وفي الواقع، مهدت صور هارت الطريق أمام حقبة جديدة من إنتاج صور الأزياء والحرف السورية في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر.
*باحث متخصص في صور القرن التاسع عشر الفوتوغرافية للشرق الأوسط