عن نسيج عمراني واجتماعي واقتصادي في طور الزوال
كانت المنطقة الممتدة من «بْلِس» وصولاً الى الحمرا، مروراً بشارعَي «عبد العزيز»، و«السادات»، نموذجاً فريداً من التنوّع، مختلفاً عن باقي المناطق، وخصوصاً أنّ «تنوّعها اتخذ أوجهاً عدة غير مرئية» على حد تعبير المعمارية منى الحلاق. إلا أنّ ذلك كان في الماضي، فاليوم، اجتاحت الأبراج الشاهقة هذه البقعة، وأسهم قانون الإيجار الجديد في تهجير سكانها الأصليين وأصحاب المهن المتأصلين في المكان. هذا ما تظهره دراسة «راس بيروت ــــ مرويّات عن السكن في المدينة» التي أُطلقت أخيراً في «دار المصوّر» بمبادرة «استديو أشغال عامة»، و«مبادرة حسن الجوار» في «الجامعة الأميركية». لعلّ راس بيروت، بما مرت وتمرّ به، تشكّل نموذجاًَ صارخاً لما يصيب كل بقعة وزاوية ضحية الجشع الاستثماري.
«راس بيروت ــــ مرويّات عن السكن في المدينة»، هو عنوان دراسة بحثية جديدة تنضم إلى سبع ورش عمل سابقة مماثلة، امتدت من «الباشورة»، و«المصيطبة»، و«الشياح» إلى «البدوي»، و«الروم»، و«الطريق الجديدة».
السلسلة التي تحمل عنوان «أن نرسم بيروت من روايات مستأجريها» (ينظمها «استديو أشغال عامة»، و«مبادرة حسن الجوار» في «الجامعة الأميركية في بيروت») أطلقت دراستها البحثية أخيراً في لقاء أقيم في «دار المصوّر»، وخصّت منطقة «راس بيروت» بالبحث الميداني والأكاديمي.
بحضور عدد من سكان المنطقة، وحفنة من الباحثين والمهتمين، والمدرّبين/ات في هذه الورشة، أطلقت الدراسة (تمتد على 48 صفحة) بهدف خلق التفاعل على ضوء نتائجها، والنظر في مستقبل المدينة، ووجهات نظر سكان «راس بيروت»، والخروج بحلول لعدد من المشاكل والمعضلات التي تطالها اليوم، وتهدد حتى نسيجها الاجتماعي والاقتصادي، كما باقي مدن بيروت على وجه التحديد.
هذا الى جانب طرح قضايا حيوية أساسية كالعدالة المكانية، والحق بالسكن، وبالمدينة في ظل الأخطار المحدقة بهذه المدن، وخطر دخولها في التحول المعماري والثقافي الذي لا يمتّ لها بصلة، بفعل سياسات الدولة، والقوانين المجحفة، التي يستفيد منها المستثمرون، وجشع السوق. الدراسة التي أجريت بين 7 و21 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، شملت 331 مبنى، و2358 وحدة سكنية ضمن مسح أراد إعادة بناء مشهدية السكن في الوقت الحالي، والخريطة العمرانية لها، الى جانب التعرض لمشهدية أخرى تتضمن الملكية والاستثمار، مقابل التهديد الذي يطال السكان ألا وهو… الإخلاء.
في التحديد الجغرافي للمنطقة، شملت الدراسة المنطقة الممتدة من شارع «بْلِس» (الجامعة الأميركية في بيروت)، وصولاً الى شارع الحمرا، وشارعَي «عبد العزيز»، و«السادات». وفي السمات الظاهرة لهذه المنطقة، تورد مديرة «مبادرة حسن الجوار»، المعمارية منى الحلاق، أن «راس بيروت» تعتبر «نموذجاً مختلفاً» عن باقي المناطق اللبنانية، التي تمت دراستها قبلاً، ولا سيّما بتنوّعها الذي «يتخذ أوجهاً عدة غير مرئية».
تاريخياً، وتحديداً في حقبة الخمسينيات، شكل وجود صرح «الجامعة الأميركية في بيروت»، مركز استقطاب أساسياً للسكن في هذه المنطقة. قبلاً، كانت هذه الأخيرة ـــ جغرافياً ـــ عبارة عن مجموعة من الرؤوس الصخرية، لغاية حلول منتصف القرن التاسع عشر، وانتشار المنازل المسطحة السقوف التي تضم حدائق، وطرقات غير معبّدة، محاطة بأشجار الإجاص. لا شك في أن وجود الجامعة حفّز السوق العقارية، فانتشرت الفيلات، والمباني السكنية المتدنية الارتفاع، وصولاً الى منتصف القرن العشرين، مع نشوء المباني السكنية المتوسطة الارتفاع التي كانت تُستخدم لغايات سكنية وتجارية، واستهلاكية وترفيهية. المحطة الأبرز في هذا السرد التاريخي الذي جاء مع اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، وما خلّفته لاحقاً على صعيد العمران والنسيج الاجتماعي.
ورغم صورة الحرب القاتمة، إلا أنّ منطقة «راس بيروت» أفادت من نتائجها كما يظهر البحث. إذ انتقل عدد كبير من المحال والأعمال التجارية من وسط بيروت الذي لحق به الضرر الأكبر، الى منطقة «راس بيروت» خلال فترة السبعينيات. اليوم، يزنّر مشهدان المنطقة: الأول الأبراج السكنية التي تحتوي على شقق فخمة، وأغلبها شاغر، والمشهد الثاني كناية عن مبان منخفضة الارتفاع، يملكها أصحاب الإيجارات القديمة. بين هذين المشهدين، تسير الدراسة الميدانية، التي شملت 331 مبنى، من ضمنها 151 مبنى سكنياً و47 شققاً مفروشة، و12 مبنى تجارياً، إضافة الى 46 مبنى خالياً تماماً من السكان. 2358 هو عدد الوحدات السكنية التي شملها المسح، خرجت منها 75 وحدة سكنية تعود لنظام الإيجار القديم، الذي بات يدخل ضمن الملكية في ما بعد: 19.7% إيجار قديم، و13.7% ملك قديم، الى جانب 23% ملك جديد، و20.7% إيجار جديد، و19.7% مبان خالية تماماً. هنا، استوقف الباحثون/ات هذا الرقم الذي يعدّ مهولاً، مقارنة بالنسب العالمية في شغور الشقق، التي تراوح ما بين 3 و5% فقط. وهذا الأمر يشير بشكل أساسي إلى وجود خلل في عرض السوق، الذي لا يتوازى مع الطلب.
صرح «الجامعة الأميركية» الذي شكل مركز استقطاب للسكن وللاستثمار، ولا سيما في ما يتعلق بسكن الطلاب والسيّاح، بات اليوم يشكل عبئاً مع ارتفاع الأسعار بشكل جنوني، واضطرار العديد من سكان المنطقة إلى المغادرة بسبب قانون الإيجارات الجديد، الذي خرج في نيسان (أبريل) عام 2014. منذ ذلك الوقت، لاحظ الباحثون أن حوالى 205 شقق تم إخلاؤها بعد صدور هذا القانون، بشكل ممنهج وكثيف، ضمن فترة زمنية قصيرة، نتيجة أداة الضغط التي تتمثل في هذا القانون. وهناك آخرون غادروا بسبب سياسة الهدم الممنهجة أيضاً للعقارات القديمة، وتشييد أبراج عالية مكانها، الى جانب خلوّ عدد من هذه المباني نتيجة الحرب الأهلية (11 مبنى). ظاهرة الأبراج العالية المشيّدة، تنضوي تحتها ظاهرة تقسيم الشقق السكنية الى وحدات أصغر (ضمن السكن المؤقت: شقق مفروشة، فنادق..)، كي يستفيد منها المالك أكثر، وتلبي حاجة العديد من الطلاب والسياح، وغيرهم، وحتى من الأجانب، واللاجئين. ولحظ البحث عيشهم ضمن ظروف قاهرة، مع غياب أدنى مقومات العيش (لا كهرباء ولا ماء، مع مساحات ضيقة، ووجود حمام مشترك). ليس جديداً على منطقة «راس بيروت»، وجود مساحات متفاوتة، بين الشقق حتى في المبنى عينه (بين صغيرة وكبيرة)، وتحديداً قبل عام 1998، إلا أن هذا الأمر ازداد اليوم بشكل مطّرد كما أسلفنا.
في هذه الدراسة الميدانية، التي تنطلق من منظور حقوقي وعمراني، وحتى اجتماعي، شكلت السرديات، التي رواها السكان القدامى، على وجه الخصوص، الأرضية التي تدفع إلى مزيد من النقاش، ووضع المعضلات التي تهدد المدينة تحت الضوء، ولا سيما تلك المتعلقة بالإخلاء والتهجير. كثير من العائلات من «راس بيروت»، اضطرت الى مغادرة هذه المنطقة والانتقال الى مناطق أقرب كالأشرفية وبرج حمود وعين سعادة، ومنهم من ذهب أبعد الى عرمون على سبيل المثال. وهنا، خلقت مشكلة جديدة، تتعلق بالسكن والعمل. بعدما كان عمل هؤلاء مرتبطاً بمكان إقامتهم، وجدت مشكلة جديدة ومكلفة أيضاً، تتمثل في انسلاخ السكان عنوة عن أماكن عملهم. ترصد الدراسة كذلك مسار السكان «المهجّرين»، بعد الإخلاء، وبخاصة أولئك الذين لا يملكون خيارات، بسبب قانون الإيجارات المجحف. على سبيل المثال، نورد قصة أشهر الحلاقين النسائيين في بيروت، منذ عام 1977. ورث هذه المهنة عن أبيه في مكان مواجه لـ«الجامعة الأميركية»، وظل لغاية عام 2013، عند تهديد مالك المبنى بالهدم، فانتقل بعدها للعيش في عين سعادة.
في المشهد الاستثماري الذي يشهد نشاطاً ملحوظاً في «راس بيروت»، وأغلبه تعود ملكيته لأسماء مرتبطة بالطبقة السياسية اللبنانية، أو لمستثمرين عرب (السعودية والكويت) يملكون عقارات منذ ستينيات القرن الماضي، فإن البحث يضيء على نسبة 85% منها، شيّد على أنقاض مبان قديمة، تم هدمها، وعلى 72 مبنى بنيت في فترة التسعينيات، الى اليوم، تضم مباني جديدة، وشققاً كبيرة مع أسعار مرتفعة، وتعاني اليوم ركوداً في السوق العقارية، ولجوء هؤلاء المستثمرين الى تحويل بعضها الى مساحات أصغر بهدف استثمارها.
وبين العقارات الأغلى في بيروت، التي تضمها منطقة «راس بيروت»، مع ملاحظة ظاهرة ارتفاع السكن المؤقت، وتقسيم الشقق والمساحات الواسعة، والتهجير اللافت للسكان، والخوف على مصائرهم، ترسم ورشة «راس بيروت… مرويّات عن السكن في المدينة» مشهديتها. تخوض في تجربة جماعية، تفاعلية، واقفة على مرويات السكان «الأصليين»، وتحليلها، مع إرفاقها بالخرائط البيانية والغرافيكية. كل ذلك بهدف الإضاءة عليها، والعمل على تطوير المدينة، من وجهات نظر مختلفة، بغية رسم مستقبل للمدينة، يندرج بين طيّاته الحق في السكن، وفي المدينة، وبحيّز لا يسلخ السكان عن منازلهم التي قطنوها لسنوات طوال، ليستوطن فيها أصحاب العقارات والمستثمرون ويجعلوا الفجوة أكثر اتساعاً.
* نموذج عن الخرائط على موقعنا
هوامش
* أشغال عامة: استديو يجمع عدداً من المعماريين/ات ومصممي/ات الغرافيك والباحثين/ات، أسّسته عبير سقسوق ونادين بكداش عام 2012. ويوفّق بين الأعمال المكلّف بها والمشاريع الذاتيّة من جهة، وبين إطار العمل المستقلّ الذي يتيح فتح آفاق جديدةٍ للنقاش من جهةٍ أخرى.
* مبادرة حسن الجوار في الجامعة الأميركية في بيروت: انطلقت عام 2007، مع مؤسستها سنتيا منتي، ورئيس«الجامعة الأميركية في بيروت» الأسبق جون واتربر. الى حين مغادرة منتي، تولت المعمارية منى الحلاق إدارة هذه المبادرة. تشتغل المبادرة على مشاريع وأنشطة، تضع في أولوياتها حق السكن والجوار، لشرائح اجتماعية واقتصادية متنوعة، للمشاركة في نقاش المحيط المديني وتحولاته الحالية والمستقبلية.
* للاطلاع على الخرائط انقر هنا
يمكنكم متابعة الكاتب عبر تويتر | HawiZeinab@