بعد «لبنان الجمال… يفوق الخيال»، ها هو يصدر «فصول لبنان». بعد رحلة شاقة في تأريخ أهوال الحروب والمجازر ودوّامة العنف، يلجأ جمال سعيدي إلى الطبيعة، وتحديداً طبيعة بلده بوصفها علاجاً من ندوب وأعطاب أحدثتها أكثر من ثلاثة عقود من التغطية من قلب خطوط النار. كتاب يتوجّه أيضاً إلى الجيل المغترب، مظهراً كنوز موطنه الأصلي، ويدق في الوقت عينه ناقوس الخطر بخصوص المخاطر التي تهدد البيئة
«فصول لبنان» كتاب فوتوغرافي صدر أخيراً لنقيب المصوّرين السابق جمال سعيدي (1957) عن Turning Point، بغلاف سميك و151 صفحة/ صورة (قياس 24 × 28.5 سنتم). قد يفاجأ بعضهم من هذه الخطوة الجمالية لمصوّر حرب. إذ يصح للكتاب عنوان أدق: «وعود من العاصفة» تيمُّناً بقصيدة درويش.
فمن غطى منذ شبابه الباكر، معارك دامية في كل المنطقة العربية، ومَن شهدت عدسته وأرّخت منذ أكثر من ربع قرن لمشاهد القصف والعنف من قلب خطوط النار، ها هو اليوم يزيحها جانباً كمن يزيح الستارة عن نافذة شباكه بعد العاصفة. وإذا بعدسته نفسها تلتقط جمال لبنان لا بل فرحه.
جمال سعيدي المصور الصحافي في جريدتي «النداء» و«البناء»، ثم في وكالة «رويترز» منذ ثلاثة عقود، يهدي القراء اليوم كتابه الفوتوغرافي الثاني. يصرّ لا بل يتحدّى بشاعة الحروب، بحثاً عن اثر اسمه في الأرض نفسها التي عاشت الأهوال. يبحث عن «جمال» قد يظن كثيرون أنه شُوِّه، لكن عدست سعيدي تحييه عند التقاطه.
جال سعيدي في كل المناطق اللبنانية، في بقاعها وجرودها، في جبالها وسهولها… من الجنوب إلى البقاع والجبل مروراً بجبيل وصولاً إلى الشمال. لا يدعي سعيدي في هذا الكتاب استعراضاً فوتوغرافياً على الإطلاق. بل على العكس بكل تواضعه المعهود القريب من القلب، ينسى للحظات أنّه المصور الصحافي المحترف، ويترك الطبيعة في لبنان تفعل بقلبه ما تشاء. يلتقط منها الصور كأي طفل أراد السلام في أحضان أمه. أليست الطبيعة هي الأم الكبرى؟ «لقد شفتني طبيعة لبنان الجميلة من كل أزمات الحروب التي دخلت عقلي منذ عقود!» يقول سعيدي لـ «الأخبار» مضيفاً: «نعم، لقد عالجتني هذه الطبيعة وغسلتني من الداخل! تغيرت الصورة لدي من خلال عملي طبعاً في تغطية الحروب، من الحرب اللبنانية إلى الحرب العراقية، إلى السودان فتجوالي في المنطقة العربية كلها. كانت الذروة في عام 2004. وكان العلاج أن انطلق فعلاً إلى الطبيعة. بعد كتابي الأول «لبنان الجمال.. يفوق الخيال». يأتي «فصول لبنان»، وهو بمثابة ولدي الثاني.
لقد تعمدت أن يكون باللغة الإنكليزية، كي يقرأه الشباب المهاجر بشكل خاص. لقد حاولت ما أمكنني أن أصوّر الفصول الأربعة، لكن ذلك كان صعباً جداً».
لقد استغرق العمل على الكتاب قرابة خمس سنوات، التقط خلالها سعيدي آلاف الصور، ما يفوق الـ 10 آلاف تقريباً، حتى استطاع أن يختار منها ما ورد في الكتاب. «حاولت أن أوصل الفكرة كما أريدها، أي الفصول الأربعة، لكنني لم أتمكن من تسميته الفصول الأربعة بل «فصول لبنان»، لأن هناك صعوبة كبيرة جداً في تقديم الفصول الأربعة، بخاصة مع التحول المناخي والتغييرات التي تطرأ على طبيعتنا بسببه. كما أنني أردته صرخة أو نداءً أو حتى رسالة للبيئيين ولكل الشباب المهتمين من الناشطين وغيرهم بأن ينشطوا كي يحافظوا على هذه البيئة لأننا نستمد أنفسنا منها! طبيعتنا عرضة للإهمال، ورغم ذلك بقيت الطبيعة مصدر علاج ونقاء وصفاء. كل مكان كنت أزوره، كان علاجاً بالنسبة إليّ. كنت أذهب في رحلاتي وأتأمل ثم أنتظر الضوء، أشعر بالهواء. في بعض الأوقات، كنت أذهب صباحاً، ثم أذهب في اليوم التالي في وقت مختلف إلى المكان عينه لالتمس تغير الألوان، وهكذا. لم آخذها أبداً كمهمة تصوير لا بل على العكس، كان الأساس هو الغوص في هذه الطبيعة».
أما عن المناطق التي صورها، فمن تجوالات سعيدي الرئيسية كان البقاع، والجنوب والشمال.. «هذه في منطقة سير الضنية، وهذه على طريق الهرمل، وهذه في تنورين وهذه في دوما، هذه بنشعي، هذا وادي أدونيس، نهر ابراهيم، وهذه في الجنوب، هذه إبل السقي، هذا الليطاني، هذا الوزاني، هذا جبل الشيخ… الباروك، كلها بالنسبة لي كانت مصدر فرح! هذه الطبيعة تخلق حالة تغيير كبيرة! قوتني وجعلتني استمر في عملي» يقول سعيدي بشغف استثنائي.
هذا الرجل الستينيّ المثابر، الذي بدأ كمصور هاوٍ وبتشجيع من والده وأهله الذين كانوا يملكون استوديو تصوير في منطقة عائشة بكار، تابع مسيرته الدؤوبة مع رفيقته الكاميرا، رغم إمكانية أن يكون مقاتلاً. لكنه اعتبر لعبته آنذاك التصوير، إلى جانب رفاقه المقاتلين. حتى أصبح مصوراً محترفاً ثم نقيباً للمصورين. لا يكف سعيدي عن التغزّل بالطبيعة الأم، مصدر قوته، وشفائه، واليوم «يؤيقنها» في كتاب رغم كل ما مر من أهوال وحروب على هذه الأرض اللبنانية ذاتها. لكنه قرر أن يعكس ما فيها من فرح. وها هو يتطلع للكتاب الثالث الذي يحضر له منذ زمن تاركاً العنوان مفاجأة قادمة.
«أتمنى أن يحب القراء هذا الكتاب»، يقول سعيدي، مضيفاً: «رغم مطالبة الأصدقاء والمعارف لصوَر من الحرب. لكنني أصر على أن أشارك الفرح في هذا الكتاب الفوتوغرافي. وهذا هو إصراري على مقاومة من أجل الحياة. وهو صرخة كي نشفى من الحروب ومن كل الأسى والحزن. ورغم كل المجازر وكل الحروب، فلبنان يتجدد.. وما زلنا نرى الجمال في بلدنا».
كتب محمود درويش في «وعود من العاصفة» لفلسطين: «سأغني للفرح/ خلف أجفان العيون الخائفة/ منذ هبّت، في بلادي، العاصفة/ وعدتني بنبيذ/ وبأنخابٍ جديدة، وبأقواس قزح». لقد غناها لحناً مرسيل خليفة، واليوم إذا أردنا إسقاطها على لبنان، قد يصحّ مع هذا الكتاب القول بأنّ جمال سعيدي صوّرها.
يمكنكم متابعة الكاتب عبر تويتر | nicolesyouness@