في عام 1986 أعلنت شادية اعتزالها، علماً بأنها ولدت في ال1931 في الحلميّة، والحنجرة لا تزال نضرة، والوقت كان لا يزال معها كي تعطي الفن من موهبتها، عدداً أكبر من الأعمال الفنيّة والغنائيّة. لبست الحجاب وحَجّت، وعاشت بعيداً عن الأضواء، لكن وليس كما قيل بأنها انقطعت عن العالم؛ فهي استفادت من مخزونها العاطفي لتوظّفه بشكل آخر. قامت بأعمال اجتماعيّة وخيريّة، ومدّت يد العون للمحتاجين، وأقربهم سائقها الذي اشترت له سيّارة خاصّة به.
قولوا لعين الشّمس ما تحماشي/ لَحْسَن حبيبي دا اللي صابح ماشي..
من الزّمن الجميل، جميلة مَشَت. أنت كمتذوّق، ترجع إلى الوراء، كي تنهل، جمالاً وَرُقياً، بكل ما في الكلمة من معنى. حديقة الفن العربي التي تركها لنا من سبقنا، عطرها لا يَنْضُب.
الفنّانة شادية واحدة من آخر عنقود الزّمن الجميل “وانت يا زمن قاسي علينا..” كما غنّت “دلّوعة الشّاشة” وكما لُقّبَت، وها هي تَصدق ونحن نعيش أردأ الأزمنة، سياسيّاً وفنيّاً. هي من زمن عمالقة الفن والسياسة، فقد عاصرت فنيّاً أهم الفنّانين كعبد الوهاب، وأم كلثوم، وعبدالحليم حافظ، ونجاة الصّغيرة وفريد الأطرش وغيرهم، وفي السياسة، كان عبد النّاصر. بكت كثيراً حين رحل، واكتأبت وانعزلت. أمّا الآن، فيبكي الشّعب على جلاّده، والفنّان أصبح أسوأ مثال كقدوة، والأمثلة صارخة، لا ضرورة لذكرها.
سيبقى الأبيض والأسود
لَعِبَت شادية في 112 فيلماً سينمائياً، ومسرحيّة وحيدة، هي “ريّا وسكينة”، وتركت 500 أغنية، ومثّلت في فيلم ياباني، قلّة من يعرف عنه، إنتاج مشترك مع مصر، بعنوان “على ضفاف النّيل” من إخراج المخرج الياباني “كوناكاهيرا” والمخرج المصري “حلمي رفلة” الممثّلين حسن يوسف، كمال الشنّاوي، محمود الميليجي.
نجحت لأنّها لم تمثّل. الفنّان الحقيقي يعيش الدّور ولا يُمثّله. هذه الصّفة من أهم مواصفات الممثّل النّاجح، والتي لم تتعلّمها الأجيال الجديدة في التمثيل ولا استوعبتها، لذلك أصبحوا مثالاً للسخرية، مع بعض الاستثناءات؛ إن كان من حيث الأداء، أم من حيث الشكل، و”التجميل” الذي هو أيضاً مادة للسخرية، وأيضاً لا يحتاج المشاهد أو القارئ للشرح، لأنهما أوّل المنتقدين، رغم أن هناك من مهلّلين ومصفّقين، يرضخون للموجود، وبقيت أفلام الأبيض والأسود الكلاسيكيّة.
بتغنّي مع فرحة قلبي
“حاجة غريبة، حاجة غريبة السّما بتغنّي انت سامعها..” يُجيبها عبد الحليم: “أيوا سامعها، بتغنّي مع فرحة قلبي..”
عاشت شادية أدوارها التي مثّلتها ونقلت إحساسها إلى المشاهد، فكانت متنوعّة بين الدّراما والكوميدي، وأرقّ من الرقّة بأدوارها الرومنسيّة. عادت من افتتاح فيلمها الأوّل، يملأ قلبها الفرح، وأذنيها التّصفيق، وكان حبّها الأوّل، جارها أحمد وهو ظابط في الجيش المصري. لكن أحمد لم يعد من إحدى المعارك التي كان يخوضها في حرب فلسطين عام 1948 . رحل أحمد، وبقيت شادية حزينة، رافضة الزواج من بعده لفترة طويلة. الحزن ثقافة توظّف لاحقاً من خلال موهبة الفنّان، التي تصقلها التجارب الفنيّة، والحياتيّة، وتُلمعها العاطفة. ألم يشعر كل مستمع لأغانيها، رنّة ألم بصوت شادية؟ “لا ح نام أيّام/ ولا حقدر اشوف أحلام/ أيّام/ وان غاب حطّول الايّام..” فارس أحلامي/ حبيب قلبي وحبيب أيّامي..”
لا شيء يُضمّد الجروح سوى الفن. تابعت الصبيّة طريقها الفنّي، واستمعت إلى صوتها “ست الكلّ” أم كلثوم وقالت ما نلمسه ونشعر به، حتى لو احترنا بالتّعبير عنه: صوت البنت فيه حنان وشجن وإحساس.. ربّنا معاكي يا بنتي..
توأم روح عبد الحليم حافظ
يسأل “حبيبها” عبد الحليم بأغنية تجمعهما: أنا وانتِ قاعدين بجنينا/ والورد بيسمّي علينا/ والنّجمة بترقص حوالينا/ يبقوا اللي زيّي وزيّك إيه..
تجيبه: تعالى أقلّك..
حتقولي إيه؟
إيديّ لمّا تكون في إيديك/ وعينيّ لمّا تناجي عينيك/ وقلبي بيسألني عليك/ يبقى اللي زيّي وزيّك إيه؟..
مشهد من فيلم “لحن الوفاء”.
في رحيلها كتب ابن أخ الفنّان عبد الحليم حافظ، يرثي رحيل شادية: رحلت توأم روح عمّي.
“..والسّما بتغنّي انت سامعها؟..” هكذا الفن. غذاء الرّوح، الذي يُداوي الجسد..
يا واد وسّع عشان امشي
رنّة قبقابي يمّا/ رنّة قبقابي/ وانا ماشية/ ماشية يمّا/ بتميّل راسي/ الكل قالوا اسم الله.. حتى العزول القاسي/ القاسي يمّا..
الأغنية مكتملة عناصرها، ما بين اللحن ورنّة الصّوت والأداء، وخلخال، وغمزة من ابتسامة وإغراء غير متكلّف، مترفّع عن الهبوط إلى السوقيّة. “ويا واد وسّع عشان امشي..” المعجبون كثر، ولا حبيب واحد.. “وسّع عشان امشي..”
مثّلت مع أجمل ممثّلي السيّنما، وأُغرِمت بالممثّل عماد حمدي الذي يكبرها ب20 سنة، وتزوّجته رغم معارضة والدها. غار عليها كثيراً. إنفصلا.
الفنّانة شادية، حياتها سينما أيضاً. كيف ستغنّي ومن أين سيأتي الإلهام و”تشرقط” المشاعر، إن لم ينبض القلب؟ في فيلم الحب الحقيقي، مثّلت أمام الممثّل صلاح ذو الفقار، وانسجموا بالتمثيل، فأصبح الحبّ فعلا حقيقي. تزوّجا. دام زواجهما طويلاً. حملت مرّتين، ولم يثبت حملها. انفصلت عن زوجها ذو الفقار، ولم تتزوّج من بعده. أصيبت بسرطان الثّدي واستأصلته.
اعتزلت والحنجرة لا تزال نضرة
لا لينا أهالي يابا يسألوا علينا/ ولا قلب حنيّن واحد من اللي حوالينا/ ومنبكي في قلوبنا يابا/ ولا دمعة في عينينا يابا..
في عام 1986 أعلنت شادية اعتزالها، علماً بأنها ولدت في ال1931 في الحلميّة، والحنجرة لا تزال نضرة، والوقت كان لا يزال معها كي تعطي الفن من موهبتها، عدداً أكبر من الأعمال الفنيّة والغنائيّة. لبست الحجاب وحَجّت، وعاشت بعيداً عن الأضواء، لكن وليس كما قيل بأنها انقطعت عن العالم؛ فهي استفادت من مخزونها العاطفي لتوظّفه بشكل آخر. قامت بأعمال اجتماعيّة وخيريّة، ومدّت يد العون للمحتاجين، وأقربهم سائقها الذي اشترت له سيّارة خاصّة به.
رشدي يرقص على صوت شادية
لعبت شادية في أفلام كوميديّة وأظهرت خفّة ظلّ كبيرة، ومن أجمل أفلام هذا النّوع برأينا، فيلم الزّوجة 13، أمام الممثّل رشدي أباظة. رغم أنه كوميدي خفيف، لكن مستوى أداء الممثّلين رفعه وأعطاه نكهة خاصّة، طريفة، وأجواء رومنسيّة ناعمة وعميقة؛ ورغم أن البطل يكون متعدّد العلاقات في الفيلم، إلا أنه يثير الغرابة بسلاسته وعدم وقوعه بالابتذال، ونفس فني ساحر. رشدي أباظة الدونجوان، يقع بحب شادية، التي تلقّنه درس في اللعب بمشاعر النّساء، وبأسلوب ناعم وطريف. تدعُ زوجاته السّابقات، وتجعله يرقص معهن. ويتابع رشدي الرّقص بشكل تعبيري جذّاب، على أغنية شادية الذي سلطن بتلحينها بليغ حمدي، ومن كلمات مرسي جميل عزيز، ورقص رشدي مع العصا وروب النّوم وخصلة شعره على الجبين، وابتسامة شادية التي تقطر شهداً: “الحنّة يا حنّة يا حنّة/ يا قطر النّدى/ يا شبّاك حبيبي يا عيني/ جلاّب الهوى.. لوحات ترشق بها الخيال.
منذ 31 عاماً وشادية معتزلة الفن، ولا زالت أغانيها حيّة لا تموت، وستبقى على مرّ الأجيال، تعلّمهم أن الفنّ الجيّد هو الأبقى. “ولالا لا لا/ ولا لا لا لا/ الصبر دا حالو وحالة.. صبراً وسيعود الفن مع هذا التراث العريق للنهوض.