حكاية صورة: يوم حمل أطفال النبطية دماءهم “عيديّة” لأمهاتهم

كامل جابر

أحد أطفال باص النبطية يوم عيد الأم سنة 1994، أضحت دماؤه وروداً لعيد أمه (مستشفى النجدة الشعبية اللبنانية)

لم تغب تلك الصورة عن ذهني وفكري، إذ رأيت بأم العين كيف تنفجر قذيفة إسرائيلية حاقدة بجانب باص يقل أطفالاً من تلامذة المدارس، عادوا مزهوّين بما يحملونه من أزهار لمعايدة أمهاتهم، يوم عيد الأم في 21 آذار 1994، بيد أنّ ورودهم البريئة سرعان من خضبتها دماؤهم، إذ شظتهم القذيفة شهداء وجرحى…

يوم علا صراخهم مذعورين من صوت الانفجار قبل مشاهدة وجوه بعضهم البعض وقد نخرتها الشظايا، كانت كل بيوت النبطية تصرخ،: “حي على المقاومة…”.

في كل يوم، وفي يوم عيد الأم من كل عام، لا يمكن لنا أن ننسى وجه زينب سلمان التي قتلت بتلك القذيفة المجرمة قبل أن تصبح ذات يوم، أمّاً. ومعها نتذكر قاسم وهبي الطفل الشهيد الآخر، مع عشرين طفلاً أصيبوا جميعهم بجراح لم تندمل…

أَستشهد هنا بما كتبه الزميل الإعلامي محمد نزال بتاريخ الثلاثاء 28 آب 2018 في جريدة «الأخبار» في سياق تناوله مجازر أطفال اليمن (في ضحيان أو الدريهمي في اليمن)…

«كانت قناة «المنار» تبثّ، قبل أكثر من 20 عاماً، نشيداً أقرب إلى الرثاء، ما عادت تبثّه، وفي كلماته: «آه يا زينب لو أنتِ غير فتاة لبنانيّة، آه لو بالأمس قُتِلتِ في مزرعة صهيونيّة، لرثتك الدنيا، وبكتكِ كلّ الهيئات الدوليّة، لكنّكِ يا زينب أنتِ… رقم ببلادٍ منسيّة». كانت تلك زينب سلمان، الطفلة، التي قُتِلَت بقصف إسرائيلي أصاب حافلة تقّلها مِن المدرسة إلى المنزل. حصل ذلك في مدينة النبطيّة عام 1994. إنّه يوم الاعتدال الربيعي، ظهراً، يوم عيد الأم في 21 آذار.

كانت زينب تحمل بيدها وردة، ستُقدّمها لأمّها في عيدها، عندما تصل، فلم تصل. ثيابها، حقيبتها، أشياؤها، تلوّنت بالأحمر إلا الوردة في يدها… هي حمراء أصلاً. لم تكن الفتاة وحدها على متن تلك الحافلة الصغيرة. كانوا نحو 20 طفلاً. قاسم وهبي، الطفل، كان في الحافلة. التحق بزينب. كان أيضاً يحمل بيده وردة حمراء لأمّه. يقول النشيد: «أرعبهم أنّك يا قاسم قد تكبر يوماً وتقاوم، شُلّت أيدٍ صهيونيّة تقذف حمماً أمريكيّة، تذبح أزهاراً وبراعم… تذبح زينب تقتل قاسم». سائر الأطفال أصيبوا. تراوحت أعمارهم ما بين 3 سنوات و12 سنة. كانوا كلّهم يحملون الورود لأمهاتهم، هديّة، وكأنّهم كانوا يحملونها زينة لنعوشهم.

مشاهد تلك المجزرة أثارت المخرج جان شمعون. ضمّنها فيلمه «رهينة الانتظار». لم يكن بحاجة إلى إعادة تمثيل. كانت المشاهد حيّة. صورة تلك الطفلة، الجريحة، تنزف عينها وقد تلطّخ «مريولها» بدمها… لعلها أكثر الصور ارتباطاً بذاكرة مَن شاهد ذاك الشريط. تلك الصورة أصبحت لاحقاً، على مدى سنوات، رمزاً لذكرى المجزرة. وذاك الطفل الذي يبكي، يتلوّى، فيما يسعفه أحدهم وقد ثَقبت شظيّة جبينه. يجهش منادياً: ماما، ماما. أين كانت أمّه وقتذاك؟ لن يطول الوقت ليصلها الخبر. تلتقط كاميرا المخرج شمعون لحظة اختناق راوية فيلمه، الطبيبة ليلى نور الدين، بعبارتها التي سكبتها أخيراً: «بكلّ بيت بالجنوب في أم عم تنحرم مِن أحلام ولادها. كان ممكن ابني يكون واحد مِنهم».

حافلة صغيرة لونها أصفر. صورتها وهي مهشّمة حفرت طويلاً في ذاكرة جيل. يُحكى أنّ فتى التحق بالمقاومة، بعد رؤيته لذاك الطفل الجريح (ماما، ماما) تحديداً، وقد أضافت تلك الموسيقى الحزينة للنشيد في نفسه مزيداً مِن الأسى. أمضى سنوات في قتال المُحتل، قبل أن يُصبح هو شهيداً. هذا بعض مِن أثر الصورة وفعلها. كذلك أثر النغم التراجيدي. ذاك الفتى، عندما أصبح عشرينيّاً، كان يُردّد قبل رحيله هذه الحكاية على مسامع أصدقائه».

ويعود ذاك النشيد، الذي ما عادت بثّته «المنار» منذ كثير مِن السنوات (ربّما لتوالي المجازر)، ليختم: «الباص تفجّر فانتثرت أشلائي، محفظتي احترقت، وورودٌ في العيد هديّة، عفواً معذرة يا أمّي… كان الورد إليكِ هديّة. سفكوا في يوم العيد دمي، فخذيني في العيد هديّة. صبراً ووداعاً يا أمّي، يا أغلى مَن في البشريّة، صبراً، صبراً، صبراً يا نبطيّة».