“أبو تمّام” ينام على حبّ أسرته ويخلد إلى حلم بعيد

كتب عباس الحاج أحمد

يقف على حافة الشرفة بوجه حرج “علي الطاهر” في النبطية الفوقا، حاملاً كوب قهوة، سيجارة والكثير من الطاقة الايجابية. تقف أمام أشجار الزيتون، الورود، مشغل ريّا، ألوان تمّام المسكوبة بين الأزهار، موسيقى أم كلثوم من تلفون غزوة، ذكريات بشّار المغترب، بسمات سماهر، سجائر حمادة، أقلام محمد، قصائد آدم، أرقام الأستاذ خالد، طيبة الدكتور خليل وضحكات الاستاذ محمد.

تمتزج تلك الخلطة بيد إم تمّام على طاولة أبو تمّام*. يجتمع الجميع تحت “كساء” الأب والجد الذي حفر الماضي البعيد للمنطقة ومحيطها في دماغه. جلس على الكنبة، جلسة حكيمة. تابع المستجدات. راقب الأحفاد. استمتع بكل ما تحبكه يد الحبيبة إم تمّام: طبخات، مشاطيح، كرواسّون، ورود، قهوة عربية، قمصان صوف.. استمتع ايضاً، بالرّوح الفنّيّة المتوارثة بدماء عائلته.

يداه اللتان شقتا الارض وحصدتا، ألهمتا حاملي جيناته معماريّاً، فنّاً معاصراً، شعراً، إبداعاً بالخشب، حفراً بالأرض وتخليداً بالمجسمّات. منزله المطلّ على منزل إبنه “السّفينة” إستثنائيٌ جداً. منزلٌ مليء بالحسّ المرهف في عصر سطوة “القسوة”. منزلٌ يعلو بالقيم المعنويّة بوجه أمواج المصالح المادّيّة. منزلٌ تربّع على عرشه وجه أبو تمّام. وجه يذكّرك بقصص مارون عبّود وحضوره. قصص المزارع المكافح. الأب المعطاء، والصديق صاحب النّكتة الجميلة والحضور المحبّب. وجه أبو تمّام حمل معه شقائق النّعمان وآثار الأيّام بشمسها وقمرها. وجه جلس بالغرفة أمام “الصوبية” فترة طويلة بقلبٍ رقيق قائلاً للطرقات القاسية- المحيطة: “ع كتر ما طلع العشب بيناتنا بيرعى الغزال”.

رحل أبو تمّام اليوم، وبقيت كل آثاره وحسناته متنقّلة بالأبناء والبنات والأحفاد. بالحجر واللوحات والمجسّمات. بالألوان والطّحين والتّين والزّيتون.

رحل الحبيب أبو تمّام، وبقيت قصصه، لنسردها ونتعلّم منها كيفية الاستمتاع والعطاء بهذه الحياة الزائلة.

لروحه الجميلة كلُّ السلام.

  • خلد “أبو تمّام” محمد علي عبد الرؤوف غندور إلى النوم ولم يستفق أبداً، يقول ابنه: “رحل باكراً، تاركاً فينا غصة كبيرة، لكنه مات ميتة هانئة..”.

***

وكتب الفنّان باسم نحلة:

 ما زلنا نرى الأحبة ينتقلون إلى الرفيق الأعلى دون أن نتمكن من وداعهم.

لقد رحل الرجل الطيّب والأقرب للبساطة منه للطيبة، إنتقل العم ابو تمّام إلى جوار ربّه، نام الرّجل القويّ ذو القبضة المحكمة المتماسكة نومته الأخيرة الأبدية.

نعم لقد كنت يا أبا تمّام من أطيب الناس، ولو كان الناس كلهم بطيبتك وبساطتك لكانت الدنيا بخير والعالم أكثر نظافة وعفّة وطهارة وصدقاً وتآخياً.

منذ نعومة أظفاري عرفته رجلاً وقوراً مبتسماً مازحاً لا تفارق الكلمة الطيبة لسانه وشفتيه. برحيله نستعيد ذكريات الأيام الطيبة، والناس البسطاء في النبطية الفوقا، من خلال ذاك الرجل الذي تميّز بطيبة قلبه وتسامحه وهدوء أعصابه.

ابو تمّام من أولئك الرجال الأوفياء الذين حقّقوا بجهدهم وحرصهم طموح اسرتهم وسعادة أبنائهم، فأنجزوا ما وعدوا، وسعوا إلى حيث أرادوا فتحقّق لهم الهدف، ونالوا الغاية وسعِدوا بحبّ المجتمع وتقديره…

صديقي تمّام…

لم يبقَ لنا سوى الحزن في القلب والدمع في العين.. واسترجاع كل الذكريات لرجال كانوا معنا بالأمس فغابوا عنّا اليوم… وغاب معهم لحن الحياة.. هنا فقط… تنتهي الكلمات. تفسح في المجال لعبور الدمعات. هي وحدها تبقى بعد الفراق ومعها الذكريات… ذكريات سنوات قضيناها مع الأحبة، نسترجعها في دقائق عندما يخطف الموت من تربّينا على أيديهم.

نتذكرهم.. نبكي.. نتمنى أن نجلس معهم.. نحاكيهم كما كنا نفعل ولو لمرة واحدة. نرتشف الحزن بهدوء.. بصمت… نعانق بعضاً مما تبقى من طيبهم وإرثهم.

يرحلون بصمت .. تاركين خلفهم عبق ذكريات لن يضمحلّ عبيره…