في ذكرى الشاعر محمد العبدالله: أحد الإخوان لبطني/ لطفي فران

كتب لطفي فران

كنت اليوم في دردارة بلدة الخيام؟

لست أدري بعد ليلة طال فيها سهادي، استفقت على ذكريات، وجاشت فيّ عاطفة هوجاء، فقصدت زاوية مقهى Le COPERNIC المقابل لمقر إقامتي وجلست على طاولة في زاوية الرصيف أمام المقهى، كما في الماضي، وإذا بالنادل يسألني عما أرغب بتناوله، فأجبته بعفوية وبلا مبالاة: سأنتظر قدوم صديق. وسألته عن «ميشال» فتبسم ضاحكاً وقال: رحل منذ فترة. اقشعرّ بدني. كنت من رواد هذا المقهى، وآليت على نفسي ألاّ أدخلها بعد غيابك عن باريس منذ سنوات، خشية أن أتوه في الذكريات فلماذا قصدتها اليوم! وانا على يقين بأنك لن تأتي، فأنت كَرِهتَ الحياة وترجلًت في 23/03/2016، وكان الأجدر بي أن أكون على قرب منك في دردارة الخيام. نم قرير العين فالوضع كما كان؟ وجميع الأخوان لبطونا!، ولعجزي وعدم استطاعتي، وكي لا أذرف الدموع، فسأعيد ما كتبته عنك من ذكريات:

في بداية دخول قوات الردع العربية إلى لبنان، دخلت معهم القوات العسكرية السورية تحت غطاء جيش التحرير الفلسطيني، واقيمت المعابر ما بين الشرقية والغربية، واودت معركة الفنادق بمعالم ومتاجر ومقاهي وسط بيروت ولم يبق سوى منطقة شارع الحمراء، مزدحمة بالمارة والتجار وتكاثرت فيها المقاهي، سكان منطقة الحمراء كانوا النسيج اللبناني الحقيقي، لا طائفية ولا مذهبية ولا حتى ميليشيات مسلحة من الأهالي، بل كانت الحراسة عند مدخل المراكز الحزبية وكلها من خط واحد تحت ما كان يسمى الحركة الوطنية. شارع الحمراء واحة في قلب صحراء يرتاد مقاهيها العديد من رجال الصحافة والأدب والمسرح، يتجمعون ويتحاورون، إما في سناك «الهورس شو» وإما في «الستراند»، وصالات السينما تضج بمن كانت الأفلام السينمائية هوايتهم.

في منتصف شارع الحمرا قرب المبنى الدنيماركي كان هناك حانوت صغير منخفض قليلاً عن مستوى الشارع بدرجتين، محل «عمي الزعيم» لبيع سندويشات الفلافل. القوانين العسكرية الصارمة المتبقية في خلفية تصرف «الزعيم» كانت بمثابة شروط التعامل بين البائع والمشتري المتلهف لسندويشة فلافل، فعليه إنتظار دوره بهدوء تام. وعندما يقترب من الزعيم يجب عليه أن يدفع بصمت، ومن القيمة المدفوعة ينال ما يريده. إن كانت «إكسترا» فعلى الزبون دفع 35 غرشاً بالتمام والكمال، وإذا دفع 25  غرشاً تكون السندويش «عادي». الزعيم لا يستقبل الزبائن من خارج التعرفة، وليس لديه الوقت للصيرفة، وفي ظهر ذاك يوم كان «محمد العبدالله» في عداد الطابور منتظراً مثوله، وفجأة تدافعت الناس في شارع الحمراء من كثرة ما توافدت إليه السيارات العسكرية من النواحي الأربع، لا فرق لجهة السير، وترجلت العناصر المدججة بأسلحتها وضربت طوقاً حول المكان، فأخذت الناس تتباعد وتأتمر بأمر رجال السلطة المداهمة، اقترب أحد المسلحين من محمد العبدالله الذي لم يتحرك من مكانه ونهره وصرخ بلهجة عسكرية النبرة واضحة الهوية، فلم يبال محمد لذلك، وبقي في مكانه، لأنه كان من المقربين من جميع تشكيلات الحركة الوطنية والكل يعرف الكل في تلك المنطقة، فما كان من العسكري إلا ان يدفعه بقوة، فلم يتزحزح، فهو قوي البنية، والعناد لديه عادة ومعه في ذلك شهادة . فقام العسكري بركلة من رجله ومصوباً سلاحه نحو صدر ابن الخيام. حسبها «ابن الدردارة» وانصرف بحكمة وليس من هلع أو خوف، وتوجه إلى سناك «الهورس شو» حيث وافوه كالعادة، على الفور، بفنجان القهوة. استل ورقة من دفتر يحمله وبقلم لا يفارقة وكتب:

أحد الأخوان 
وأنا ابتاع رغيف فلافل
من ذاك الدكان
لم يعجبه أمر لا أعرفه فيا
أحد الأخوان 
لبطني
لبطني

وأنا إن قيس الإنسان بهامته
سأساوي من هذا الأخ 
اثنين
أو قيس الإنسان بفكرته
سأساوي إلفين 
أو قيس الإنسان برفقته
وشجاعته
سأساوي مليونين

كنت سألقن هذا الحيوان 
درساً لا ينساه
فأضربه كفين
فأضربه كفين
ولكن حين علمت بأن
الأخ اللابط أعلى من 
زلم السلطان
أحجمت 
أحجمت
لأني تعبان لأني تعبان
لأني تعبان 
قسماً بعليّ والعباس 
انا تعبان
قسماً
بصلاح الدين وحطين 
أنا تعبان 
وجميع الجبهات لتحرير فلسطين 
أنا تعبان 
وإن شئتم قرفان
وإن شئتم كسلان 
وإن شئتم جبان
قسماً بجميع القديسين 
أنا تعبان 
أنا تعبان 
أنا تعبان