الأناشيد الوطنية تيتّمت برحيل إيلي شويري وصوته الدافئ

كامل جابر

أسدل الرابع من أيار 2023 ليلَه على رحيل الفنان الأصيل، المطرب والملحن المبدع إيلي شويري، عن 84 عاماً، كان معظمها حافلاً بالعطاء الذي لا حدود له، فلحنُه “بكتب اسمك يا بلادي” بصوت جوزف عازار لم يتحول نشيداً لبنانياً رائداً فحسب، بل اعتبرته العديد من الدول العربية نشيدها “الوطني”، وهو واضع لحن وكلمات “تعلا وتتعمر يا دار”بصوت صباح، وأتبعهما بـ“سامع صوتك يا بلادي”، ثم “صف العسكر” بصوته، فيما اشتهرت أعماله في الأغاني الوطنية، بعدما قدّم لسوريا الكثير من الأناشيد والأغنيات وكذلك للأردنّ والجزائر وتونس.

منحه رئيس الجمهورية ميشال عون وسام الأرز الوطني من رتبة كومندور،  لكنّه عانى في العقدين الأخيرين من تجاهل الجيل الجديد من المطربين لألحانه المبنية على الأصالة والخبرة…

إيلي شويري.. وداعاً

في ما يأتي، أعيد نشر حوار أجريته معه في شهر أيلول سنة 2010 ونُشر في “الأخبار” بتاريخ 30/09/2010 .

 

كامل جابر

“غريب ما يجري، هناك أنفاق في حياتي. عندما أدخل في نفق الماضي أفقد قدرتي على المتابعة نحو الأمام، وعندما أتوجه نحو الأمام أخاف أن أنسى الماضي، لذلك أتريث اليوم في تقديم أعمال لأحد. أنا منذ نحو خمسة أشهر لم أشتغل بعشرة آلاف دولار. ثمة حزن في المسألة، إذ لم يعد من مسرح غنائي في لبنان يأخذ إيلي شويري عنصراً فيه”.

كلمات توجز وجع كاتب وملحن “بكتب اسمك يا بلادي” التي تحولت نشيداً قومياً عربياً، بعدما شفي من أوجاع القلب التي سببت له عملية “قلب مفتوح” منذ أربعة أشهر؛ فيما ينظر بحزن إلى خمسين لحناً، تكدست أشرطتها على رفوف مكتبته بانتظار قرارات “مالية” تنحو بها نحو الطبع وجعلها في متناول السمع. ومع ذلك لا يتوقف عن الكتابة والتلحين.

على ايقاع ارتشاف قهوة مُرّة، أعدها بنفسه، يبدأ الفنان الشامل إيلي شويري استرجاع مسيرته المزينة بالقصائد والألحان والصوت الشجي الذي طالما أطرب آذان مستمعيه، من أعمال الرحابنة الذين لازمهم عقداً كاملاً، إلى ألحانه التي تحولت أناشيد وطنية لمعظم الدول العربية. على شرفة إقامته الصيفية، في بزمار قرب غوسطا، كان اللقاء معه، على ارتفاع ألف متر عن سطح البحر فوق سيدة حريصا.

في الاشرفية، شرقي بيروت، وُلد صغير أبناء المعلم نقولا شويري، (صاحب ورشة لتنجيد الموبيليا) من أمّ “حمصية”، عام 1939، هو خامس أشقائه، بعد صبيين وبنتين. ترعرع بين محلة المزرعة، مسقط رأس الوالد، والأشرفية حيث تقطن العائلة في حي يتألف من مجموعة بيوت مكللة بالقرميد “أنا ولدت في حي يشبهني كثيراً وفيه الكثير من الحرية، قرب مدرسة اللعازارية”.

من عرزال الساحة في ذاك البستان المحيط، أكتشف حنجرته التي كانت تشبه حنجرة أبيه “مذ كنت صغيراً كنت أصعد إلى العرزال، أغني وأسمع الناس صوتي، تشتكي علي الراهبات في المدرسة بسبب تشويشي على حصص الدراسة، فيأتي رجال الشرطة، وسرعان ما يأنسون إلى مواويلي فيتركونني”. أما غناؤه فكان لقديم محمد عبد الوهاب، مما غناه في الأربعينات، ولأم كلثوم وأسمهان، “كان صوت والدي يشبه صوتي كثيراً، وأخوتي كلهم يغنون، وكذلك أبناء الحي، وأنا لا أغالي، إن قلت أنّ الناس حولنا كانت كأنها طيور مغردة”.

في سن الخامسة عشرة أسس مع أترابه جوقة غنائية، كان يردد فيها المواويل العراقية التي حفظها عن والده. يترك مدرسة مار منصور في نهاية المرحلة المتوسطة، ويعمل لاحقاً حلاقاً نسائياً. لكن لم يطل الأمر، إذ سقط مرة من على دراجته النارية، على طريق المطار، أصيب بيده، فوجه له صديق المهنة وهو كويتي بطاقة دعوة للاستجمام في الكويت. هناك وبينما كان يعبر أحد الشوارع قرأ لافتة كتب عليها “دار الإذاعة الكويتية”، وكانت في مرحلتها التجريبية الجديدة (1960). سرعان ما انتسب إليها مؤدياً في فرقتها الغنائية، بعدما خضع لاختبار أشرف عليه موسيقيون من فرقة أم كلثوم، منهم: رضا غنيمة، احمد فتح الله، فوزي ناجي، نجيب رزق الله، “أحبوني كثيراً. قمت بتجربة وغنيت موالاً بغدادياً، المصريون لا يعرفون الموال البغدادي، كان هناك موسيقيون عراقيون، أعجبوا كثيراً بالطريقة التي غنيت فيها لإيليا بيضا والياس ربيز، موال: لي خلة خلخلوا عظمي وخلوني/شروى العنب بالقدر بالخلة خلوني/لا هم خذوني ولا في الدار خلوني/ ظليت من بعدهم أجمع مرار وصبر. تعجبوا من أدائي وقبلني مدير الاذاعة عبد العزيز جعفر”.

في الكويت صار ينام  في الاستديو، بين الآلات الموسيقية، وشجعه االمطرب الراحل عوض الدوخي، إلى جانب الملحن المصري مرسي الحريري على تعلم العزف على العود. تشاء الصدفة أن تصل إلى الكويت فرقة “الأنوار” لمروان وبديعة جرار ومعهما، توفيق الباشا وزكي ناصيف والمخرج نزار ميقاتي، إلى جانب سعاد هاشم ووديع الصافي؛ فتقدم حفلات بصالة “الأندلس” ثم تأتي إلى الاذاعة الكويتية لتسجيل الأغاني، “عندما رأيت ما رأيت وأن لبنان وصل إلى هذه المرحلة من الفن، صرت أبكي، ومن يومها قررت الرجوع”. عاد إلى لبنان سنة 1962 مستفيداً من تجارب غنائية في حفلات لبنانية في الكويت، ويحمل رسالة توصية من موسيقي مصري هناك لموسيقي مصري في لبنان اسمه جوزف الشمعة، الذي قدمه إلى روميو لحود، وكان يهمّ بعرض مسرحية “الشلال” في بعلبك.

من خلال دور بسيط لشاب يجلس على الدرج ولا ينطق بغير جملة قصيرة في المسرحية، رآه الرحبانيان للمرة الأول. في هذا الوقت انتسب إلى كورس إذاعة الشرق الأدنى والاذاعة اللبنانية وتعرف إلى الياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، والذي سرعان ما أخبره برغبة أخويه في الاستماع إليه.

يقول: “الدخول لعند عاصي ومنصور الرحباني ليس كالدخول إلى إذاعة الكويت، دخلت، جلس منصور خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ؟ غنيت موالاً بيزنطياً هذه المرة، أعجب جداً، نظر إلى عاصي، وقال لي: منذ اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا”.

في “الليل والقنديل” التي عرضت عام 1963 في كازينو لبنان أدى دوراً صغيراً مع عصام رجي. وفي العام التالي أسند إليه دور المشاغب “عيد” في “بياع الخواتم” التي تحولت فيلماً سينمائياً عام 1965. ومنذ ذاك الحين وحتى العام 1975، لم تخل مسرحية للرحابنة من دور بارز لإيلي شويري من “دواليب الهوا” (1965) إلى “ايام فخر الدين” (1966)، “هالة والملك” (1967)، “الشخص” (1968)، “جبال الصوان” (1969- 1972)، “صح النوم” و”يعيش يعيش” (1970)، “ناطورة المفاتيح” (1972)، “المحطة” و”ميس الريم” (1973).

يقول: “الرحابنة من حينها، سنة يضعوني فوق الدرج وسنة تحته، أنا لم أكن ممثلاً، لا أعرف التمثيل بل أعيش في لعبة الشخصية، والمسرح أجمل من السينما، فيه قداسة. صرت أتنقل، بينهم وبين روميو لحود وأنطوان غندور ووسيم طبارة وغيرهم. لكن كنت أشعر دائماً أنني ذاهب بفرصة وعائد لعند الرحابنة. الرحابنة ذكروني بطفولتي، ببيتنا العتيق، ومعهم كنت أشعر ومع احترامي للجميع، بأنهم مرآتي؛ لم تكن من مرآة أو إطار يمكن أن يرى الانسان نفسه فيهما، في كل هذا الشرق، ومن بعد قناعة، إلا مرآة الأخوين رحباني”.

سنة 1973، اختلف شويري مع الرحابنة، ترك المسرح اثناء عرض مسرحية “ميس الريم” وعاد بعد تمنيات منهم، حتى أتى عام 1975 ليغادر المسرح الرحباني إلى غير رجعة هذه المرة. تزامن ذلك مع انطلاقة شرارة الحرب اللبنانية “كان يوماً أسود على لبنان، وكان يوما أسود علي، تركت الأخوين رحباني والحرب عطلت كل شيء، مزقت كل شيء، مزقت أحلامنا وأول ظهور لنا كشباب، كفن وكموسيقى وكمسرح، مزقت الناس الذين تعرفت إليهم، مزقت الفرح كله”.

يقول: “مع الرحابنة، كنت انا أفتح المسرح، كالموظف الداخلي عندهم، نتأخر في المسرحية ننام بالبوريفاج، لا أعتقد أن أحداً من أولادهما عاش معهما على القدر الذي عشته مع عاصي ومنصور. عشت بمكتبهما ليل نهار. ولا مسرحية تنطلق إلا وأنا معهما، من أول كلمة حتى آخر كلمة، وكانا عندما يختلفان على لحن مع فليمون وهبي، يقولان اسألوا إيلي شويري، أو إذا اختلفا على لحن مع فيروز يقولون لنحتكم إلى إيلي. لم أرهما مرة غنيين حتى أشعر يوماً أنني سوف أصبح غنياً، مارسا طقوس الطفر وكانا “مهضومين” فيها وعلماني ممارستها”.

في المسرح مع الرحابنة كتب ولحن أغنية “بكتب اسمك يا بلادي” سنة 1973، التي غناها جوزيف عازار. وبعد عام مثّل إلى جانب صباح في مسرحية “ست الكل” ولحن لها أول أغنية “تعلا وتتعمر يا دار” من كلماته والتي اشتهرت جداً؛ وأتبع الأغنيتين بـ”سامع صوتك يا بلادي”، ثم “صف العسكر”، فيما اشتهرت أعماله في الأغاني الوطنية، بعدما قدّم لسوريا الكثير من الأعمال وكذلك للأردن والجزائر وتونس.

بعد عودته من الكويت وانتسابه إلى الاذاعة اللبنانية، سرعان ما صنّف إيلي شويري مطرباً، وصار له ركن خاص فيها. ثم صنف ملحناً عام 1966 وبعدها صنف شاعراً إذ كتب أغاني وديع الصافي: “بلدي” و”انت وأنا يا ليل” “وبعدن ببالي” و”زرعنا تلالك يا بلادي” و”من يوم من يومين كنا زغار”. وصار عضواً في جمعية المؤلفين الموسيقيين.

في السنة الأولى للحرب قدم “أبو الأغنية الوطنية” برنامج “يا الله” في “صوت لبنان” وانتقل مع عائلته إلى بزمار. وانتقل للغناء في حلب، “رحت اشتغلت هناك. سوريا بالنسبة إلي كفنان، وحتى فيروز والجميع، لها فضل على حضارة الغناء في هذا المشرق العربي. مكتبة سوريا فيها آلاف الأغاني التي أنتجتها هي، وكان لها فضل على الأغنية العربية”.

على أبواب السبعين، يراجع مؤلف وملحن “عزك يا دار انكتب” بصوت معين شريف، أعماله المنتجة، وسيعيد بالاتفاق مع إحدى الشركات أنتاج نحو مئة عمل؛ منها أغان مسجلة بصوته، ومنها أعمال جديدة. تعجبه أغنية “كتبتها منذ زمن، تقول اسرج بالليل حصانك وأكتب بالسما عنوانك، يا حبيبي ناداك الواجب لبي واجب أوطانك، قدمت في “قاووش الأفراح”. وأغنية ثانية لم أكتبها ولم ألحنها، إنما غنيتها عنوانها صبي والا بنت؟ لحنها رفيق حبيقة وكتبها نقولا كيوان، من السلك العسكري”.

أكثر ما يحز بنفس إيلي شويري هو عدم امتلاكه مجموعته الغنائية التي تبلغ نحو 1500 أغنية، معظمها من كتابته. “سبعين سنة عمري ولا يوجد عندي بيت أملكه، أنا لست أفضل من الرحبانيين، ماتا ولا يملكان قرشاً، وبيوتهما بالأجرة، هناك عذاب بالفن الراقي وهو لا يطعم خبزاً”.

أما في هدوء الليل، فلا يخفف عنه إلا الاستماع إلى القرآن الكريم بصوت المقريء مصطفى محمود.

تواريخ

  • 1939 الولادة في الأشرفية – بيروت.
  • 1962 عمل في الإذاعة اللبنانية وعاد إلى لبنان ليشارك في مسرحية “الشلال” لروميو لحود.
  • 1964 أول دور بارز له مع الرحابنة في مسرحية “بياع الخواتم” وجسد شخصية “عيد” التي تحولت فيلماً سينمائياً عام 1965.
  • 1973 كتب ولحن “بكتب اسمك يا بلادي” بصوت جوزف عازار، ثم “تعلا وتتعمر يا دار” بصوت صباح.
  • 1975 ترك المسرح الرحباني.
  • 2008 شارك فيروز في إعادة عرض مسرحية “صح النوم”. وفي العام التالي شارك في فيلم “سيلينا” المقتبس عن مسرحية “هالة والملك” للأخوين رحباني.
  • 2010 أجرى عملية قلب مفتوح ويعمل على مراجعة مئة عمل لطبعها من جديد.
  • 07/02/2017، منح رئيس الجمهورية ميشال عون الفنانايلي شويري وسام الأرز الوطني من رتبة كومندور تقديراً لعطاءاته الفنية والاجتماعية والوطنية.
  • توفي مساء 04 أيار 2023 عن عمر 84 سنة..