جمال حجازي، في “صهوة التعب”: بالحبِّ نخرج من الزمن اليابس الى زمن الماء

 

 عبد المجيد زراقط

“صهوة التعب” لـ” جمال حجازي مجموعة نصوص صدرت، مؤخَّراً عن دار “البيان العربي”، في بيروت، وهي المجموعة الثانية له، بعد مجموعة “غصون الأيام”، التي صدرت في العام الماضي، عن دار النشر نفسها.

نصوص هذه المجموعة غير موزونة وغير مقفَّاة، وفي حالات كثيرة تأتي القافية تلقائياً كأنَّها تمثِّل ايقاع الحالة التي يعيشها الكاتب. واللافت، في هذه النصوص، غزارة الصور الشعرية المبتكرة، وهذا ماكتب عنه عباس فتوني في مقدمته للمجموعة: “يكتب [ جمال حجازي ] النثر شعراً، مفعماً بخياله المبدع، مرصَّعاً بالصور الساحرة” (ص. ٩).

العنوان: “صهوة التعب” تركيب مجازي دالٌّ على أنَّ نصوص هذه المجموعة تصدر عن تجربة حياتية أدبية يكوِّنها التعب، يتمثَّلها الكاتب، ويمثِّلها نصوصاً تعادلها أدبيَّاً، وتنطق برؤيتها، فالتعب، في هذا التركيب المجازي، حصانٌ/ جوادٌ يعتلي الشاعر صهوته، فيجري به في دروب الحياة، فيرى، ويكشف، أو أنَّ الحياة نفسها جواد، يمتطي الشاعر صهوتها، أي ذروة التعب منها، فيرى ويكشف، أو أنَّ التعب نفسه جواد، جرى ورأى، ويؤتي صهوته فضاءَ تلقٍّ للقارئ، فيكون المتلقِّي شريك الأديب في الابداع. مدلولات هذا الدالِّ المجازي كثيرة كما يبدو، وهذا هو شأن اللغة الشعرية.

لغة هذه المجموعة تنتمي الى هذه اللغة، ومن النماذج الدالَّة على ذلك، على سبيل المثال فحسب، نذكر: ثدي الغيم، جرح الغيب، غيم الكلام، كفُّ الورق، حبر الفصول، حبر الليل، خليج المرايا، شهقة الورد، رماد التعب، صهوة الشوق…، فهذه اللغة الشعرية تتراسل فيها الحواس وتتناغم، فتشكل صوراً شعرية مبتكرة تشعُّ بالدلالات التي يُترك للقارئ تبيُّنها. واذ يفعل ذلك، يكون شريك الأديب في انتاج النص، ولعلَّه ينتج نصاً اَخر هو نصُّه.

تذكِّر تجربة التعب هذه بقصيدة أبي العلاء المعري: “غير مجدٍ في ملَّتي واعتقادي / نوحُ باكٍ وترنُّم شادي…”، وقوله فيها: “تعبٌ كلُّها الحياة فما أعج / ب الا من راغبٍّ في ازدياد”. رؤية أبي العلاء فكرية/ شعرية، تكشف حال الوجود الانساني على هذه الأرض، المتمثِّلة في قوله: “خفِّف الوطء ماأظنُّ أديم ال/ أرض الا من هذه الأجساد / رُبَّ لحدٍ قد صار لحداً مراراً / ضاحكاً من تزاحم الأضداد”، واذ نقرأ نصوص جمال حجازي، في هذه المجموعة، نجد اشارات سريعة بسيطة الى حال الوجود الانساني على هذه الأرض، مثل قوله: “العمر أقصر من الكلمات…، وبعد قليلٍ سنمضي…”، “والسؤال: ماالذي يلتهم العمر الاَن ؟” ص. ١٣٢). ان يكن الحال هكذا، فـ “ماذا اذا كنا أبهى من الشمس / في طلَّة الصباح” (ص. ١٩ ). انه يريد للإنسان، في عمره القصير، أن يكون أبهى من الشمس…، وأن يغتنم هذا العمر ليتفوَّق على الطبيعة في بهائها.

كما تذكِّر تجربة التعب هذه بتجربة مشابهة، سبق أن عاشها، وعبَّر عنها الشاعر محمد العبدالله، ومن نماذج قوله، في هذا الشأن، نصٌّ غنَّاه مرسيل خليفة جاء فيه: “بعد اللي كان، كلُّ اللي كان، أن لا لا لا، أنا مش قبلان، مدري كيف حاسس أنِّي زعلان، أنا مدري مش، أنا مدري شو ماحداعاجبني، ماحدا عاجبني، زهاَن وتعبان”.

لمحمد العبد الله لغته الشعرية الفريدة، اذ انه يتحوَّل بالكلمات العادية الى لغة شعرية، فكأنه، كما قيل عن بودلير، يصنع من الطين الذهب، وهو يصنع ذلك، سواء كتب بالفصحى أم بالعامية. وللغياب حضور في نصِّه يترك للقارئ أن يستحضره. وهو، في مااقتبسنا من نصِّه، لايقبل، ولايعجبه أحد، وزهاَن وتعبان.

جمال حجازي تعبان وزهاَن / ضَجِر، وغير “قبلان”، فيسأل: “متى يُعلَن الرفض والطوفان؟ في أيِّ سفر تكوينٍ نحن؟”، يحيل هذان السؤالان الى تاريخ الأنبياء، فيستدعي عقاب الله، سبحانه وتعالى، ويدعو الناس الى النهوض، فيسألهم: لماذا أنتم نائمون؟ ويقرر: السكوت جريمة، أنتم يا أبناء الشعب اللبناني، مجرمون مجرمون (ص. ٥٩و٦٠ ). ويلجأ الى القراَن الكريم، فيفيد من رؤاه، ومن أسلوبه، فيسمِّي النص الذي يدعو فيه الى الثورة “سورة التحرير”، ويقول فيه، في تناصٍّ مع سورة: “اذا زُلزلت الأرض زلزالها…”. ” البلاد التي اشتعلت، ذات ليلٍ، ستُعلن زلزالها، ستُخرج أثقالها…” (ص. ١٦٥ ).

يرفض ويثور، واذ يُمنى السعي الى التغيير بالخيبات، لا ييأس، فيكتب عن “الليل المضيء”، ويهتف: “سنحيا رغم هذا الداء، والأعداء كالنسور، على القمم الشماء، ننظر الى هذا الليل المضيء هازئين…” (ص. ٨٤ ). هو ساخر، هازئ، وليس “زهاَن”، يخرج من الحياة الى الحياة، مما لا يرتضيه فيها الى مايعجبه فيها، وهو مايجعل طلَّة الانسان فيها أبهى من طلَّة الشمس في الصباح، كما مرَّ بنا قبل قليل، فكيف يحدث ذلك؟

يكوِّن التعب تجربة جمال حجازي، كما قلنا اَنفاً، ويكون هذا التعب، في حالاتٍ رماداً، لكنه، في الغالب، ليلٌ مضيء، وهو تعبٌّ مركَّبٌ من مصادر كثير ة ومتنوِّعة.

من النماذج الدالَّة عليه: “والمدى يفتح فمه للغبار، ويمطر ضجراً” (٣٤ )، “فقد أتعبتنا الحروب…” (ص. ٣٥ ). “الطيبون، يتركون القرى خلفهم، مثل نهر الرماد” (ص. ٦٥ ). “لتلك الوحوش التي سمُّوها واقعاً”. “منك، يادهر، انكساري يعلو” (ص. ١٢٥). “القاتلون استيقظوا، فهل سيبقى لبنان والشام”. ويسأل، اذ يعاني هذا كله: “هل من غيمة تغسل، طين الأقنعة المستعارة” (١٣٥ ). ويخرج، بعد أن وجد خيطاً من أحلامه، من هذا الزمن اليابس الى زمن بديل هو زمن الماء (ص. ٥٣ ).

زمن الماء الذي يهرب اليه هو زمن الحبّ، يعتلي صهوة العشق /الشوق، فيجري به اليه. يقول: “لكي ترسم صورةً، لشخص سعيد، ضع يدك على صدره، ثم قسِ الأميال التي مشاها، حول الكرة الأرضية، بحثاً عن حبّ…” (ص. ٢٢ )؛ واذ يجد الحبيبة، ينشد لها: “خذي يدي…، خذيها لنعبر هذا الجدار، ونفتح للحبِّ كلَّ نوافذنا…” (ص. ٢٦ )، فيكون الحبُّ الكبير، والحبُّ الكبير هو “أن نستمرَّ في الحبِّ دون أن ننظرا” (ص. ٩٢ ). وللحبِّ الكبير أسراره، تنطق بها العيون، فيسأل الحبيبة: “ترى، ماسرُّ عينيك؟ أهي من أسرار حالي؟” (ص. ٢٢ ). وما هي أسرار حاله؟ هي مايومض به القلب: “يومض كالبرق، يشعل الحروف، لأرض هي الأغنيات” (ص. ٣٢ ). ويكرِّر أنَّه يخطو على خطى القلب، فيتساءل، طوال الوقت، عن “هذه العتمة، متى تنتهي؟ والقلب مترعٌ بأغنية الشجن” (ص. ٧٢ ).

الأرض/ الأغنيات التي ينبض بها القلب هي فضاء الحبِّ، يغنِّي أغنياتها، فيترنَّم: للأقحوان لعبة الجمال، وللزعتر البري، ولأشجار البطم والسنديان والزيتون، وبيادر التين، وسيقان القمح، وللحقول التي ترتجل الثمار كما يرتجل الشعراء الشعر، طريقها بين الأرض والسماء شجر مثل الأمَّهات، فيحييها: “سلامٌ لأمِّي، أمِّي الحقول التي أينع زهرها والتراب، أمِّي الطيور والزهور…، حين تزهو الفصول بروضة الروح، ويُفتح للحبِّ باب…” (ص. ١٦٣).

يحبُّ فضاء الحبِّ هذا، فيهتف: “أهواك، يا جنوب”، ولا نغفل عنك ياجبل، عامل، ويحبُّ المقاوم الذي يحمي هذا الفضاء، يحبُّ المقاوم الذي يتوضأ بماء الليل، ويسير قمراً، هو قمر الجنوب، مايذكِّر بالقمر الذي استدار جنوباً، وتغنَّى به الشاعر الكبير محمد علي شمس الدين.

هذه الأرض حماها أبناؤها، وخطابهم دوماً: “فالأرض من ألمٍ سيَّجت عزتها / كي يستطيب لنا عيش المنى الرَّغِد”. تتسع هذه الأرض لتشمل أرض الوطن العربي الكبير، وخصوصاً فلسطين والقدس عاصمتها، فهي “قبَّة السماء” المنتظرة الاَتين اليها بالتحرير.

وهكذا، كما يبدو، أملت التجربة الحياتية الأدبية، وهي تجربة تعب وصل الى صهوته / ذروته، نصوصَ هذه المجموعة التي كشفت الواقع، ورأت اليه، ورأت في الأفق جواداً اَخر هو جواد الحبِّ الذي امتطى جمال حجازي صهوته، وانتقل به من الزمن اليابس الى زمن الأرض / الأغنيات وحماتها الأباة.