المربية الرائدة سلمى علي أحمد: كنتِ كتابًا نابضًا بالحياة

 

ستبقينَ منارةً للأجيال القادمة في هذا الليل الحالك…

بقلم الأستاذة الدكتورة دلال عباس

بسم الله الرحمن الرحيم

 أمّ أكرم، آلمني رحيلُك، والمفترضُ أنّ كأسي قد فاضتْ، ومشاعري قد تبلّدت، منذ إحدى عشرةَ سنة.

 معلمتي أنت وأمي وصديقتي، ومشكى ضيمي. إنْ كانتِ الكتبُ هي التي صنعتْني، فأنتِ أحدُها: لقد كنتِ بالنسبة إليّ كتابًا نابضًا بالحياة، متحرّكا، منه تعلّمتُ ما لم تعلّمْنِيه الكتبُ الصامتةَ، منكِ تعلّمت كيف يمكن للمرأة أن تقومَ بأكثر من عمل في الوقت نفسه، من دون أن تُخلّ بأحدها، أو يجورَ أحدُها على الآخر، ومنك تعلّمتُ كيف تكون المرأةُ امرأةً وإنسانًا عاملًا كاملَ العقلِ والدين.

لقد خبِرتُ في حياتي العمليّةِ والاجتماعيّةِ نساءً كُثُر عاملاتٍ؛ لكنّك أنتِ كنتِ مختلفةً عنهنّ في تعدّدِ المهام التي تقومين بها، وفي حسبانِك العملَ الاجتماعيَّ واجبًا وجزءًا من حياتك، لا وسيلةً لتزجية الوقت أو للتمظهر.. لقد طبّقتِ عمليّا ما نظّر له الآخرون والأخريات، من دون الكثير من الكلام؛ وجسّدتِ على أرض ِالواقع: “أنّ أحبَّ الخلقِ إلى الله أنفعُهم لعياله”.

 لم أكن قد بلغتُ الثامنة من عمري حين رأيتك لأوّل مرّة في حياتي، حين انتقلوا بي من قريتنا إلى النبطية، زارت أمي ابنَ خالها الأستاذ جعفر إبراهيم، زوجك، لتستشيرَه في أي مدرسة تُدخلني، فأشار عليها بالمدرسة الرسمية حيث تُعلّمين، لكنها استبعدت المسافة بينها وبين بيتنا، وعادت وأخذت برأيه وأنا في الحادية عشرة، كنتُ وأنا القروية الصغيرة أشعر بالطمأنينة في مدرسة إحدى معلماتِها من قراباتي. بعد ذلك تزاملنا في المدرسة النموذجية، وتجاورنا في حيّ البياض، وتشاركنا همَّ جمعية تقدم المرأة الوليدة منذ لحظة تأسيسها، وإلى حين حسباني ثانويةَ النبطيّة الرسميّة للبنات جمعيّةً نسويّةً؛ اصطحبتُك معي إليها لتكوني مرشدةً اجتماعيّة للشابات فيها.. كلّ ذلك كان كفيلا أن أعرفَك من قرب، وأنْ أتعلمَ منك الكثيرَ سيّدتي.

خبرتُ من زمالتك ومن جيرتي لكِ، كيف كنتِ تستغلّين كلّ دقيقةٍ من دقائقِ يقظتِك في العمل، عامًّا كان أم خاصًّا: العملُ المنزليّ والحياكةُ والقراءةُ والتدريسُ والأنشطةُ اللاصفيّة والعملُ الاجتماعي. لقد مارستِ العمل الاجتماعي وخدمة جمعية تقدم المرأة بالذات لا ترفًا أو حبًّا بالظهور، وإنما لتلبية حاجةٍ لديكِ، لملءِ هذا القسم الغيريّ من شخصيتِك، حتى حين أُتيح لك أن تعيشي بعيدًا من أهوال القصف الاسرائيليّ على النبطيّة، كنتِ تأتين إليها تحت القصف، لتفقّد الجمعية، تدفعك غَيْرِيّتُكِ التي تتميّزين بها، والرغبةُ في مشاركةِ الناس أفراحَهم وأتراحهم.

سيدتي؛ لولاكِ لم يكن لجمعيّة تقدّم المرأة، ولا لهذا الصرح الذي اجترحتِه من ضعف وجود. روحُك القياديّةُ وقدرتُك على الابتكار، وعلى تحويل الضعفِ قوّة. عشرةُ مراكزَ تُجهّز وتُتلف محتوياتُها وتجهيزاتُها أو تُسرق، قبل وضع حجر الأساس لهذا الصرح.

منكِ أيتها الحنون تعلّمت كيف يمكن أنْ تفيضَ الأمومة على التلاميذ وعلى أطفالِ العالم، وعلى الكونِ بأكمله… منكِ تعلّمتُ الصبرَ على المكاره، وإن لم أتمكن من بلوغ ما وصلت أنتِ إليه من صبرٍ على أذى الناس، ومسامحةٍ للمسيئين. إنّ قدرتَك هذه على التحمل مما كنتِ تُغبطين عليه. أجزم صادقة إنني لم أسمعْك كلّ هذا العمر تسيئين لأحدٍ بكلمة واحدة.

أخيرا أقول لكِ: لقد أدّيتِ الكثير، ونفعت عيال الله، واللهُ عزّ وجلّ لا يُضيّع أجر عامل من ذكر أو أُنثى، نتمنى أن يظلّ الصرحُ الذي بنيتِه عامرًا موقوفًا للخدمة العامّة الثقافيّة والاجتماعيّة الهادفة.  

ستبقينَ منارةً للأجيال القادمة في هذا الليل الحالك… سأشتاقك، وسأفتقدك في كلّ وقتٍ وحين. حتمًا المكانُ الذي وَصَلتِ إليه الليلَةَ أجملُ وأرحبُ وآنسُ من هذه الخرابةِ التي تركتِنا فيها… سلّمي على الأحبّة…

دلال عباس

 في ٢٢ـ١ـ٢٠٢٣