صبرا وشاتيلا.. أربعون الذكرى

عماد الدين رائف

“يبقى المرء حيًا ما دام الناس يذكرونه”، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بمجزرة صبرا وشاتيلا، بهذه الجريمة الموصوفة، التي حاول كثيرون من مناصري الصهيونية حول العالم طمس معالمها منذ لحظة وقوعها قبل أربعين عامًا. لكن، في المقابل، قدّر لهذه الذكرى أن تبقى حيّة بفضل جهود مستمرة لإعادة إحيائها كل سنة، ليبقى إصبع الاتهام موجهًا نحو الجزار الذي لم يحاسب يومًا على جريمته. وعلى رأس تلك الجهود في لبنان المبادرات المستمرة التي تجمع بين “مؤسسة عامل الدولية”، و”لجنة كي لا ننسى صبرا وشاتيلا”، و”بيت أطفال الصمود”.

وها هي مبادرة جديدة، تطلقها الجهات الثلاث الأمينة على الذاكرة، وهي “مركز توثيقي تضامني” هدفه الرئيس تأكيد أن الحق لا يموت مهما طال الزمن. أتوقف عند كلمات الدكتور كامل مهنّا، خلال إطلاق هذا المركز: “عند كل جريمة تاريخية، يراهن السفاحون على وهن الذاكرة، ومرتكبي مذبحة العصر في صبرا وشاتيلا ظنوا كغيرهم، أننا سننسى من هول الصدمة، وحجم الرعب الذي شهدناه بأم العين، مجزرة صبرا وشاتيلا، وسنسقط حقنا وحق الإنسانية كله بتحقيق العدالة، ولكننا هنا اليوم على بعد أربعين عام من 16 أيلول 1982، نجتمع سويًا من كل أنحاء العالم في جنوب لبنان المحرر من الصهاينة، نتذكر سوياً صبرا وشاتيلا، نناضل من أجل الحق، ونعلن أن مركزًا توثيقيًا تضامنيًا سينطلق مع حلول الذكرى ليكون شاهداً على الجريمة وكلمة حق في وجه عالم جائر”. فلهذه الكلمات وقع خاص يخاطبني، ويخاطب كل شخص اختزنت ذاكرته تلك المشاهد المرعبة. يعيدني أربعين عامًا إلى الوراء، ففي ذلك الأيلول رأيت للمرة الأولى متطوعي مؤسسة عامل ومسعفيها والسيارات التي حملت شعارها. تلك المؤسسة التي ولدت من رحم المعاناة والتزمت القضايا العادلة للشعوب وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

 

أيلول الجرح

في ذلك الأيلول، كانت الأخبار قد بدأت تتسرب عبر أشخاص هربوا من المذبحة، ولجأوا إلى جوار مخيم برج البراجنة. كنا صغارًا، وكان الكبار الذين تخلفوا عن اللحاق بالباخرة، يجلسون بصمت على كراسي القش، حول طاولة صغيرة. يشربون القهوة ويدخنون. وتتوالد الهواجس بشأن الموت الآتي إلينا. صبرا وشاتيلا، مخيمان مطوّقان من “الآلة الحربية الصهيونية”، و”ذئاب الانعزالية” تنهش لحم النسوة والأطفال والعجز من الفلسطينيين واللبنانيين، في زواريب بالكاد كان يصلها نور الشمس. آلاف الأشخاص قضوا ذبحًا وتعذيبًا على أيدي المجرمين. خصّص المجرم لبعضهم وقتاً، كي يقطعهم “بالسلاح الأبيض”. أطفال عرفتُ بعضهم، كانوا في مثل سنّي، لم تذكر التقارير الكثيرة التي تلت المجزرة شيئاً عنهم. لم تلحظ بريق أعينهم، وسمرة بشرتهم، ورقة ابتساماتهم. آنذاك تسللت إلى آذاننا عبارات لم نأبه لمعناها.. “بدم بارد”، “عمليات تصفية”، “إبادة جماعية”… بعدما كنا تعرفنا إلى “لقنابل المضيئة”، التي سهّلت الطريق أمام الجزارين. انشغلت التقارير بعدد الشهداء. ليغدو الشهداء عددًا. من رسالة “الصليب الأحمر”، إلى منظمات دولية أخرى، إلى تقرير “لجنة كاهان”… إلى تقارير إخبارية وصحافية من روبرت فيسك وأمنون كابيلوك وآخرين، حاولت مقاربة الواقع. وعمل البعض على مقارنة قوائم كثيرة تفصل أسماء الشهداء. ما حدث مجزرة، وإن صمّ العالم آذانه، ولا يزال.. وضمن مهزلة “العدالة الدولية” المجرمون لا يزالون طلقاء. اليوم، وبعد أربعة عقود على المذبحة، ومهما تغيرت المعالم، يحق لنا، أن نكرس وقتًا لبريق عيون أطفال مخيمي صبرا وشاتيلا، ولرقة ابتساماتهم المحفورة في الذاكرة. تلك الذاكرة التي وجدت مناضلين عنيدين مثل كامل مهنا وقاسم عينا ورفاقهم من حول العالم، يجتمعون بإصرار ليضيئوا شعلتها عامًا بعد عام.

 

“أطفال الصمود”

يوم كانت جريدة “السفير” وكنّا فيها، عرّفني الأستاذ طلال سلمان إلى قاسم عينا منسق نشاطات “لجنة “كي لا ننسى صبرا وشاتيلا وحق العودة” في لبنان ورئيس جمعية أطفال الصمود. كان ذلك في أحد الأيلولات على عتبة إحياء ذكرى المجزرة، وكان عليّ وعلى الزميلات والزملاء مواكبة محطات النشاطات المواكبة لإحياء الذكرى من بيروت إلى مخيمات الجنوب وصولًا إلى الخيام المحررة. تكرر المشهد نفسه كل أيلول وتكررت اللقاءات بالمناضل الصلب قاسم عينا وإن لحقت بجدول النشاطات تعديلات طفيفة. وكأن هذه الإحياءات التي احتلت مساحة متميزة لها في الأجندة السنوية تحولت مع الوقت إلى “ضابط” و”مؤشر”. مثل دائرة تُرسم بخط اليد على روزنامة ورقية معلقة على الجدار، تحيط هذه الأيام كل عام وتدور إبرة بوصلتها دائمًا نحو الجنوب، نحو فلسطين. لعله إحساس يُضاف إلى تلك الأحاسيس التي انتابتني طفلًا على ضفة المجزرة.

في أيلول الحالي، أطلق المركز في الذكرى الأربعين للمجزرة، بالتعاون مع “بيت أطفال الصمود” و”لجنة كي لا ننسى صبرا وشاتيلا وحق العودة”. ودوره، كما أوضح الدكتور مهنّا، هو جمع وتوثيق شهادات وذكريات الناجين وأبنائهم وحماية آثار الضحايا وبقايا أشيائهم التي أصبحت موجودة داخل مركز عامل الصحي – التنموي في حارة حريك، حيث نُظّم المعرض الدائم لمجزرة صبرا وشاتيلا، والتعاون مع الجهات الحقوقية المحلية والعالمية، إضافة إلى تدريب الشباب على مختلف وسائل مناصرة القضايا الإنسانية والنضال الحقوقي وتدريب النساء على انتاج الحرف اليدوية الفلسطينية وخصوصاً التطريز الفلسطيني، صونًا للتراث الذي يتعرض للسرقة الممنهجة من قبل الاحتلال، لتكون قضية العدالة لضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا في مقدمة القضايا التي تنتصر فيها الإنسانية على الظلم وعلى التعتيم الذي يمارس بحق الكثير من الجرائم والارتكابات التي ترتكب بشكل يومي في بلادنا تحت غطاء دولي.

وقد اختزنت عبارة واحدة من عبارات مهنّا الهدف من النشاطات المقبلة والمنتظرة: “من خلال إقامة المعارض والمراكز التضامنية، ننتصر على وهن الذاكرة والزمن، ونقض مضاجع الظلام عبر تعريف الجيل الجديد بالحقائق والوقائع وحشد التأييد للنضال الفلسطيني في كل المستويات”. هو إحساس إضافي في الذكرى الأربعين للمجزرة، حيث تسهم النضالات المتراكمة في حفظ بريق عيون أطفال مخيمي صبرا وشاتيلا وابتساماتهم، فقد جمد العمر بهم في أيلول 1982. ظلّوا أطفالًا في أزقة المخيم، أما الذين كبروا، مثلنا، فيحملون ذكراهم.