رحيل “أميرال” الشعر محمد علي شمس الدين

كامل جابر

هاتفته منذ مدة بغية ترتيب موعد أمسية في النبطية “لقد اشتقنا إليك”، فاعتذر بلباقة معهودة وقال: “لقد خرجت لتوي من المستشفى، ولم أتعافَ بعد، فأخاف أن يخذلني جسدي فأخذل أحبابي، دعها للصيف…”.

فجر اليوم بتاريخ 11 أيلول/سبتمبر 2022 أسلم الروح لبارئها ومضى…

الشاعر الكبير الدكتور محمد علي شمس الدين، لن تفي مفردات الحزن وألم الفراق والنعي قامتك الشعرية الماردة، لذا استعيض عنها بنشر حوار حول تجربتك الإنسانية والأدبية والشعرية…

محمد علي شمس الدين السيد «ميم» يحفر غيمَ الضواحي

الجنوب العظيم أعطانا النار التي أججت الشعر

بين عربصاليم في إقليم التفاح، حيث بنى بيتاً عوضاً عن ذلك الذي نسفته إسرائيل، وبين بيروت حيث أكثر الإقامة والإطلالة نحو الثقافة والأدب والشعر، يبقى حنين دائم يلازم صاحبه محمد علي شمس الدين، نحو بيت ياحون، قريته التي سلخته عنها الجغرافيا وشواغر الحياة لكن “الذاكرة والإحساس مشدودان دائماً نحو القرية”.

في قرية بيت ياحون، بين بلدة تبنين ومدينة بنت جبيل، ولد محمد علي شمس الدين عام 1942. ليتفتح على صوت جده الشيخ محمد وهو يقرأ “كربلائياته” والأوراد القرآنية بصوت عذب “الأمر الذي ترك عليّ بصمة صوت من ذاك الزمن الجميل”.

وثمة بصمة أخرى، من “مشاهد” الطبيعة “الأولية”، تركها العيش في تلك القرية “البدائية إلى حدّ كبير، لم يكن ثمة، ولمدة كبيرة، كهرباء ولا ماء؛ كنا ننقل الماء على الأتان من عين تقع أسفل القرية. وكم من مرة أوقعتني الحمارة، لكنها لم تكسر ضلوعي. كانت متعتي أن أمشي بالبراري قريباً جداً من الهواء والسماء، والشمس والرياح، وتحت المطر وفي العاصفة؛ وأن أعاين تقلب الفصول وأثرها على جسدي ونفسي. وكنت أرقب مفاصل الأيام مفتوناً بحركة الغيوم على الأفق”.

بعد دراسته الأولى في القرية، ينقل الوالد عمله وعائلته إلى بيروت مطلع الخمسينيات. إلى الجغرافيا الجديدة يحمل الصبي الذاكرة والإحساس اللذين ظلا مشدودين نحو القرية، ليدخلا لاحقاً في تشكيله النفسي، وتشكيل فكرته، وتصنع له العصب، الذي فيه شيء من الحزن الكربلائي والفرح بالطبيعة القابل للسحر والدهشة.

 بعد الدراسة التكميلية في ثانوية فرن الشباك، التي يذهب إليها مشياً على الأقدام من الشياح، وقال عنها لاحقاً، في معرض توصيفه لتلك المرحلة: “أنا الرجل المشّاء”؛ وكان قد وضع لنفسه برنامجاً في أن يحفظ مقاطع من الشعر الفرنسي خلال الذهاب والإياب، ما أفاده لاحقاً في دراسته، “بحيث كنت الوحيد الذي نجح بالبروفيه الفرنسية من صفي بكامله سنة 1958”.  وبعد سنتين يتخرج من دار المعلمين التكميلية؛ ولأنه كان أصغر من سنه المؤهل للتعيين، بقي عاماً في البيت من دون دراسة. بعدها أكمل دراسته ليحصد إجازة في الحقوق عام 1964 ثم إجازة في الأدب العربي، فماجستير في التاريخ، التي حقق فيها، لاحقاً دكتوراه دولة من الجامعة اللبنانية عام 1997. وقد ساهمت دراساته بين الحقوق والأدب العربي والتاريخ “أضف إليها مطالعاتي العامة وقراءتي للفلسفة والعلوم، وعشقي للسِّيَر والتواريخ، في تشكيل المخزون الضروري لكتابة، ربما كلمة واحدة في الشعر”.

درّس بين 1960 و1966 في ثانوية بنت جبيل، ثم عاد إلى بيروت ليدرس سنتين، ثم ينتقل إلى الضمان الاجتماعي كمفتش عملٍ سنة 1968، واستمر فيه حتى غادره عام 2006 برتبة مدير. وخلال هذه الفترة علّم تاريخ الفنّ في الجامعة اللبنانية.

كل هذ السيرة العملية يعتبرها محمد علي شمس الدين، حفريات في الخارج، أما حياته فهي حفريات في الداخل التي يطلق عليها اسم “حفريات ميم” نسبة إلى الحرف الأول من اسمه هي الكتابة المبكرة جداً التي بقيت طي التجارب الذاتية “ولكن لم يظهر من الجليد سوى ذؤابته عام 1975″، حينما أصدر ديوانه الأول “قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا” عن دار الآداب.

هذا الديوان كتبت قبله عشرات القصائد، بل المئات، “كنت أكتب وأتلف أو أضعها في مكان ما، إذ كنت رهين النوعية منذ الصغر، وقلقاً جداً وشكاكاً. بدأت في كتابة النصوص العامة، وشيئاً من الأشعار والحكم والأمثال، حيث لعبت قراءاتي للمعري دوراً في تقمص أسلوبه، من خلال قراءتي المبكرة لمكتبة الجدّ التراثية، ما لمس نفسي الشعرية والعقلية. أنا ابن 14 عاماً كتبت أولى نصوصي الشعرية التي لم أنشرها. وفيها:

بح غيثاري، فلا لوم عليّ أن يموت الوجد في الدنيا وفيّ

فجري المشحون سحراً أسودا لم يلد بعد ولم يشرق عليّ

فالرمال الحمر صلت في دمي  والحراب السود عشت ناظريّ

أستدر اللعنة حتى أنني   بت أخشى رحمة الله عليّ

أنا مجهول وحسبي أنني عشت في هذا العمر في اللا زمن

أقطع الأيام وحدي كي أرى نفسي الولهى وألقى بدني

ذرة الرمل التي لم أرها في جبال الأرض في صحاري الأرض كانت وطني

تشرب الماء مزيجاً عكراً من وحول الشمس فوق القنن

(وهناك بيت لم يسجله لأسباب خاصة)

هذه كانت نوعاً من التجربة بيني وبين نفسي، ولم أسمح لأية قصيدة بأن تبصر نور النشر إلا حين اعتقدت أنها باتت تستطيع أن تقاوم الزمن ولا يطويها اليوم التالي؛ ومن هنا جاءت مجموعة “قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا” التجربة الأولى في النشر ولم تزل حتى الآن تستعاد وتقرأ، وأعيدت طباعتها 4 مرات”.

بعد عامين يصدر شمس الدين ديوانه الثاني “غيم لأحلام الملك المخلوع” ويعيد طباعته عام 1983. وراح كل عامين تقريباً يصدر ديواناً أو كتاباً نثرياً أو أشعاراً وقصصاً للصغار. وفي عام 1979 صدر ديوان “أناديك يا ملكي وحبيبي”؛ ثم “الشوكة البنفسجية” (1981)؛ وديوان أشعار للصغار تحت عنوان “غنّوا غنّوا” عام 1983؛ فـ”طيور الشمس المرّة” (1988)؛ و”أما آن للرقص أن ينتهي؟” و”أميرال الطيور” (1992)؛ و”يحرث في الآبار” (1997)؛ و”منازل النّرد” (1999)، و”ممالك عالية” (2002) و”شيرازيات” (2005) وآخرها “الغيوم التي في الضواحي” (2007).

أما في النثر فصدر له رياح حجرية (1981) و”كنز في الصحراء” وهي حكاية للصغار (1983) و”كتاب الطواف” (1987) و”حلقات العزلة” (1993). وكذلك “الإصلاح الهادئ” و”الألوان تغني”.

بين الوظيفة والشعر “لا بد من عمل للإنسان حتى يعيش، بمعنى أن الشعر ليس مهنة؛ ونادرون، باستثناء نزار قباني مع أن أسباب رواجه ليست شعرية، من هم في العالم العربي، من يعيش من الأدب والشعر؛ من هنا كان لا بد من مهنة وأخترتها بين التدريس والعمل الاجتماعي في الضمان الاجتماعي؛ ولقد افادتني التجربة، بمعنى أنها قدمت لي مادة بشرية حية للاحتكاك والمعرفة. لم يكن ثمة إزدواجية بل كان ثمة وقت مستقطع للعمل، ولم أكن لأندم عليه، لقد أغنى لي تجربتي، والدليل أنني أكثر شعراء جيلي إنتاجاً وحضوراً، ليس من حيث الكمّ، بل من حيث النوع”.

وعن علاقة شعره بالجنوب، يرى أن هناك مستويين من المقاربة، المستوى السياسي والإعلامي، والمستوى العميق، الشعر. ويقول: “إن الجنوب حملني، لكنني أحمله الآن؛ الجنوب العظيم أعطانا النار التي أججت الشعر، وبما أنها موجودة، فلماذا لم تؤجج آخرين؟ المسألة فيها شيء من الذاتية وشيء من الموضوعية. ليس المهم المعنى، بل المهم ما يقدمه نصك الإبداعي الشعري! أنا أقول أنني قبل الاجتياح الإسرائيلي (1978) رسمت في قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا مقاطع عن اجتياح وتحرير، حتى في بعضه إشارات لبعض الأسماء، قبل أن يحصل الاجتياح”.

 كان شمس الدين يكتب “الحرب في منتهى لحظات الهدوء؛ وأكتب الحبّ في عنفوان الحروب؛ ولو كان الشعر ابن لحظته وابن بيئته فقط، لما اخترق شاعر الأزمنة، ووصل إلينا شاعر كالمتنبي أو أبي نؤاس أو امرئ القيس؛ الشعر يبدأ من حيث ينتهي التاريخ؛ الشعر يبدأ من حيث تنتهي المقاومة؛ الشعر هو يبدأ من حيث ينتهي الواقع، لأنه قرين المخيلة ولأنه لا يحاكي الواقع، ولكنه يبتكر واقعاً شعرياً آخر، فقصيدة الحب ليست مثل الحبّ! وقصيدة المقاومة ليست مثل المقاومة، وقصيدة الموت ليست مثل الموت؛ الشعر هو الكيان الإبداعي الجميل العظيم المفارق للواقع؛ وهو في النتيجة لغة وأقنعة وغموض ووضوح وحيل شعرية وتقنيات، لذا علينا أن ندقق حين نقول مثلاً: هذا الشعر هو شعر مقاوم؛ نعني بذلك مقاومة ماذا؟ ومن؟ وقبل كل شيء يجب أن نسأل: هل هو شعر؟ وإذا كان ثمة شعر فما هي عناصره، في التقنية، وفي اللغة، وفي الأسلوب، وفي قدرة الباحث؟ ثم نسأل: ما صلته بالحياة؟ بالواقع؟ هل هو يعكس شرطاً من شروطها؟ هل هو يبتكر؟ هل هو يحوّر؟ هل هو ينشد؟ طبعاً أنا في شعري إنشاد ملحمي طويل وعريض عن الجنوب وعن العالم وعن الإنسان وعن الملحمة”.

لم يحب محمد علي شمس الدين تعبير “شعراء الجنوب” ولم يكرهه “أنا شاعر عندي قلق فلسفي وقلق وجودي”. ويعتبر أن التسمية كانت يومها تسمية سياسية وكانت غطاء لعدد من الشعراء الذين ينتمون إلى الجنوب اللبناني، في ما هو قضية وأرض ونضال شعب، “لكن لو دققت في النصوص لوجدت أن الجسد يفيض عن الثوب. راحت الأزمنة والأمكنة وبقي المتنبي بشعره؛ شكسبير أكبر من أنكلترا؛ الشاعر المبدع هو ذاته كون ينتمي إلى اللغة، هذا أبعد من الجنوب وأبعد من لبنان وأبعد من العالم العربي”.

يوم تصارع “الأخوة” على أرض الجنوب كتب محمد علي شمس الدين “ورشة القتلة”؛ لكن الجنوب بنظره هو عالم الإنسان المتحول، الإنسان المقاوم والمتناقض ايضاً، من حيث القوى الموجودة فيه، من حيث الأفراد والتيارات والاتجاهات “هذا الجنوب عايشته أنا، كان باختياراتي دائماً، وكنت دائماً في هذه البانوراما من الصراع، وأحافظ باستمرار على أن أكون على مسافة تسمح لي بأن أكون حراً، هذه الحرية سببها تكويني النفسي والفكري من جهة، وأنا قبل عنايتي بالحياة معني بالقصيدة من جهة ثانية؛ قصيدتي كانت عطية ولذلك كان ضرورياً أن أكون حرّاً، أن تكون لي عين نقدية، لكل التحولات في الجنوب، صحيح أنني كنت في هذه الكتلة من الحركة الوطنية، وبعد ذلك في كتلة المقاومة والآن مع المقاومة، لكنني لا أنتمي عضوياً لأي حزب من الأحزاب ولأي تنظيم من التنظيمات؛ هذا المزاج، وهذا التركيب للقصيدة بالذات، منعني من أن أكون مرتبطاً عضوياً بأي تنظيم من التنظيمات؛ لكن كانت لي خياراتي العامة التي أعتقد أنها كالقصيدة لا يمكن قبولها إلا اختيارات أخلاقية”.

تواريخ

  • 1942 15 تشرين الأول الولادة في بيت ياحون شمالي بنت جبيل (جنوب لبنان).
  • 1958 البروفيه الفرنسية والناجح الوحيد من صفه.
  • 1960 تخرج من دار المعلمين التكميلية. ثم يدرس في بنت جبيل حتى 1966.
  • 1963 إجازة في الحقوق.
  • 1968 إجازة في الأدب العربي.
  • 1968 مفتش عمل في الضمان الاجتماعي، ويتقاعد في 2006 برتبة مدير.
  • 1972 إجازة في التاريخ.
  • 1975 صدور ديوانه الأول “قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا” عن دار الآداب. ثم عن المؤسسة العربية 1983.
  • 1977 صدور ديوان “غيم لأحلام الملك المخلوع” عن دار إبن خلدون، ثم عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1983.
  • 1979 صدور ديوان “أناديك يا ملكي وحبيبي” عن دار ألآداب ثم 1984.
  • 1979 عضو اتحاد الكتاب العرب بدمشق.
  • 1980 ماجستير في التاريخ.
  • 1981 صدور ديوان “الشوكة البنفسجية” عد دار ألآداب.
  • 1981 صدور الكتاب النثري الأول “رياح حجرية” عن الدار العلمية.
  • 1982 أمين الشؤون الإدارية في اتحاد الكتاب اللبنانيين.
  • 1983 ديوان أشعار للصغار “غنوا غنوا”.
  • 1983 “كنز في الصحراء” حكاية للصغار.
  • 1986 عضو شرف رابطة الكتاب الأردنيين.
  • 1987 كتاب “الطواف” نثر، عن دار الحداثة، بيروت.
  • 1988 صدور ديوان “طيور إلى الشمس المرّة” عن دار الآداب.
  • 1992 صدور ديوان “أما آن للرقص أن ينتهي؟” عن دار الآداب.
  • 1992 صدور ديوان “أميرال الطيور” عن دار الآداب.
  • 1993 صدور كتاب “حلقات العزلة” عن دار الجديد، بيروت.
  • 1994 صدور المجموعة الشعرية الكاملة حتى 1994، عن دار سعاد الصباح، القاهرة.
  • 1994 ترجمة شعره إلى الإسبانية. في جامعة “أوتونو” في مدريد.
  • 1997 دكتوراه دولة في التاريخ من الجامعة اللبنانية.
  • 1997 صدور ديوان “يحرث في الآبار” عن دار الجديد.
  • 1999 صدور ديوان “منازل النرد” عن دار الانتشار العربي، بيروت.
  • 2002 صدور ديوان “ممالك عالية” عن دار ألآداب، بيروت.
  • 2005 صدور ديون “شيرازيات” عن اتحاد الكتاب اللبنانيين، بيروت.
  • 2007 صدور ديوان “الغيوم التي في الضواحي” عن دار النهضة العربية.
  • 2009 الإعداد لصدور ديوان “اليأس من الوردة” والمجموعة الشعرية الكاملة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر من جزئين (2200 صفحة).
  • 2011 “نجوم في المجرة” عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.
  • 2012 “ويكون سيفك للبنفسج مائلاً”.
  • 2019 ثلاثة أعمال مختارة “الشوكة البنفسجية- أميرال الطيور- منازل النرد” عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.
  • 2021 “للصبابة للبلبل وللملكوت” عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع.
  • الإصلاح الهادئ.
  • الألوان تغني.
  • ترجمت بعض أعماله إلى أكثر من لغة.
  • كانت أشعاره محل دراسات أكاديمية متعددة.