صيدا تكرّم الأديب الفنان غسان كنفاني في خمسينيّة استشهاده

 

كرم المجلس الثقافي للبنان الجنوبي ومركز معروف سعد الثقافي، وجمعية التنمية للإنسان والبيئة، وجمعية بيت المصور في لبنان، ومجموعة فلسطين في عيون العالم للطوابع البريدية، ونادي لكل الناس، وبمشاركة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الروائي الأديب والفنان التشكيلي الشهيد غسان كنفاني (1936- 1972) في مناسبة مرور خمسين عاماً على استشهاده بمتفجرة وضعها الموساد الإسرائيلي وعملاؤه في سيارته أمام منزله في الحازمية (شرق بيروت) ما أدى إلى مقتله على الفور مع ابنة شقيقته لميس نجم.

وأقيم في المناسبة مهرجان في مركز معروف سعد الثقافي شارك فيه نائب صيدا، أمين العام للتنظيم الشعبي الناصري الدكتور أسامة سعد، آني زوجة غسان كنفاني وابنته ليلى، الكاتب الدكتور محمود شريح، عضو قيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين هيثم عبدو ممثلاً الكاتب الفنان مروان عبد العال، رئيس جمعية التنمية للإنسان والبيئة الدكتور عبد الواحد شهاب، رئيس فرع المجلس الثقافي للبنان الجنوبي في الجنوب ورئيس جمعية بيت المصور في لبنان الزميل كامل جابر، مدير مركز معروف سعد الثقافي بدوي جردلي، الإعلامي هيثم زعيتر وحشد من القيادات الفلسطينية والفاعليات الثقافية والاجتماعية والسياسية.

 تخلل المهرجان إقامة معرض طوابع عن غسان كنفاني والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من مجموعة الطوابعي الفلسطيني أحمد الخطاب “فلسطين في عيون العالم”. وإطلاق طابع تذكاري (بلوك سندريلا) يمزج بين الفنون التشكيلية للشهيد الفنان وبين عمل التشكيلية اللبنانية الدكتورة خولة الطفيلي من تصميم الزميل كامل جابر وخطوط الفنان علي عاصي وُزّع على الحاضرين، وإطلاق 100 ميدالية مذهبة تحمل صورة كنفاني وتوقيعه تحت عنوان “خمسون عاماً على استشهاد غسان كنفاني” (تصميم كامل جابر)، وعرض فيلم “لماذا المقاومة” للمخرج الراحل كريستيان غازي.

جابر

وألقى الزميل جابر كلمة باسم الجمعيات المنظمة للمهرجان، فقال: ” نجتمع مجدّداً حول شخصية غسان كنفاني المثيرة للتساؤلات حول الإمكانات العجائبية لابن الشمس الفلسطينية، وأحد خيوطها الذهبية الأصيلة، نعاين اليوبيل الخمسين لهذا الغياب الاغتيال، لنطلق أمام هذا الكون تحيتنا للشخصية الفذة التي تستحق كلَّ تقديرٍ، وكلَّ ذكرٍ حميدٍ، ومعها نطلق طابعاً تذكارياً يمزج بين الفنون التشكيلية الرائعة للشهيد الفنان وبين عمل المبدعة الدكتورة خولة الطفيلي التي رسمته بوجهين معروفين، في العام 2018 وفي مناسبة الغياب الخمسين 2022. ونطلق كذلك مئة ميدالية مذهبة قياس سبعة سنتيمترات وسماكة أربعة مليمترات بعلبة خشبية فاخرة”.

واضاف جابر: “كان قمر فلسطين غسان كنفاني يُكمِلُ دورته في صياغة الأدب الفلسطيني، واحتواء الذاكرة الشعبية التي انتشرت انتشار الفلسطينيين في أصقاع الأرض، حينها استشعر العدو الإسرائيلي أنّ أدبَ هذا الرجل ورواياتِهِ وقصَصَهُ للعامة والأطفال، وتنامي أفكاره واتساع مداها، هي أشدُّ وطأةً من السلاح، على استنهاض المقاومة الفلسطينية الشعبية والعسكرية، إلى حدّ تمكين ناسها بالمفاهيم المطلوبة، من خلال شحن الروح والفكر وشحذ العقل بموجبات المواجهة، دفاعاً عن الحق وعن الأرض، دفاعاً عن الجوهر الأساس الذي اسمه فلسطين. لذا قرّر العدو اغتيالَه، اعتقاداً منه أنّ اغتيالَ الفكرِ والأدب اقتطاعٌ لهما، وبالرغمِ من الخسارة التي مني بها كلُّ متتبعٍ لفكر غسان كنفاني وأدبه وثقافته وهو في هذا العمرِ الفتي، وكانت صاعقةً بمفهوم الخِسران الثقافي والفكريّ والجسديّ للرجل المبدعِ المعطاءِ، لكنها في الوقت عينه تحوّلت إلى قوةِ صمودٍ ومواجهةٍ جعلتا من أدب صاحب “عائد إلى حيفا” وأقاصيصه المبنية من جدران اللغة الفلسطينية المفهومة السهلة، من المعاناة والقهر والفكر، قوة فعالة تنامت وتعاظمت طوال خمسة عقود من الزمن، وها نحن اليوم، نحتفي بالذكرى الخمسين لرحيل روائي “أم سعد” وهو لمّا يزل بيننا فكراً وأدباً وسياسة وروحاً لم يقوضها لحظة هذا الكمّ الهائل من البارود القاتل”.

وألقى الشاعر الزجلي عمر زيدان كلمة من وحي المناسبة، ثم أهدت الفنانة التشكيلية خولة الطفيلي نسخة موقعة من لوحتها غسان كنفاني (أكواريل 2022) إلى عائلته التي تلقت كذلك ميدالية غسان كنفاني التي تحمل الرقم 72، تاريخ اغتيال كنفاني من سعد وشهاب وجابر الذين كرموا بدورهم الفنانة الطفيلي بمنحها ميدالية غسان كنفاني “تقديراً لعطاءاتها وإبداعها، لا سيما في تكريم الشهيد غسان كنفاني”.

النائب سعد

وألقى سعد كلمة قال فيها: “بعد خمسين عاماً نقف اليوم لنستحضر ونستذكر ونكرّم مناضلاً آمن بالعمل الثوري المقاوم، وقامة من قامات الأدب، شهر قلمه الفذّ والقاسي في وجه الاحتلال الصهيوني مكافحاً من أجل إعادة فلسطين حرة مستقلة لأهلها وناسها، كما آمن بالعروبة الحضارية وبالتقدّم والتغيير، وناضل من أجل وحدة الأمة العربية وتحررها ونهضتها. خمسون عاماً على رحيل المبدع والمثقّف وأحد القادة الكبار في ميادين الإعلام والسياسة والفكر. خمسون عاماً على رحيل من أبهرنا حضوره بالإبداعات التي تركها لنا، وأصبحت مخزون ثقافتنا. خمسون عاماً على رحيل العقل السياسي المميز والأديب الرائع والشاعر والرسّام الثائر”…

واضاف سعد: “غسان كنفاني كان مؤمناً إيماناً صادقاً عميقاً بالقضية الفلسطينية، وبشعب فلسطين، هذا الشعب الصامد الشجاع الذي لا يزال منذ مائة عام يقدّم قوافل الشهداء على طريق إنجاز أهدافه الوطنية، يدافع عن أرض فلسطين وعن القدس والمقدّسات دون أن ييأس أو يكلّ أو يملّ مواجهاً الاستعمار الاستيطاني العنصري الصهيوني. في ذكرى الشهيد الفلسطيني الكبير غسان كنفاني نوجّه ألف تحية إلى كلّ شهداء فلسطين وإلى المصابين والأسرى وألف تحية إلى المقاومين والمنتفضين والمناضلين الصامدين على أرض فلسطين. وإذ نخوض اليوم في لبنان معركة الانقاذ من الانهيار ومعركة الدفاع عن حقوق الناس في مواجهة نظام الاحتكار والفساد والطائفية والتبعية فإننا في الوقت نفسه نخوض معركة التحرير والهيمنة الخارجية ومن التبعية للمحاور الإقليمية والدولية، وندعو لاعتماد سياسسة دفاعية تحصّن لبنان في مواجهة العدو الصهيوني وأطماعه في الأرض والمياه والثروات الطبيعية، لا سيما ثروة النفط والغاز في البحر”.

الكاتب شريح

ثم تحدث الكاتب الدكتور محمود شريح فأشار إلى أن “اغتيال غسان كنفاني كان عمداً متعمّداً ومخططاً، مع أنه لم يكن يحمل بارودة، ولم يحارب على الجبهات القتالية، إنما كان في يده ما هو أخطر وأفعل من ذلك، كان في يده قلم حاد يطعن بكلماته العدو ويضيء للناس طريق النضال والثورة والحرية. والدليل على ذلك رواياته ومقالاته الأدبية والسياسية التي كانت تحمل صدق القضية التي ناضل من أجلها وقدم حياته ثمناً لها، حتى أصبح أيقونة ورمزاً يحتذى بفكره وأقواله”.

وأضاف شريح: “رغم حياته القصيرة تمكن غسان كنفاني وعلى مدى عشر سنوات من توثيق مراحل المسألة الفلسطينية، قصة ورواية وتحليلاً، وحتى رسماً وملصقاً، كما خبرها وعاشها، من نزوحه عن يافا مسقطه، إلى عكّا وصولاً إلى صيدا ومنها إلى دمشق فالكويت ثم العودة إلى بيروت بتفويض من جورج حبش مؤسس حركة القوميين العرب. إثر التحاق غسان بالحركة، فانضم إلى الصحافة اللبناني مع سعيد فريحة، ثم حرر الهدف ناطقة باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إثر نكسة 1967، منارة فكرية باتباعها الماركسية اللينينية”. 1*

كلمة عبد العال

وألقى الرفيق هيثم عبدو كلمة الكاتب مروان عبد العال فلفت إلى أن “كلّ من يقدّر الإبداع لا بدّ أن يكون هو الإبداع نفسه، كما هذه الباقة الجميلة الحاضرة باللوحة والكلمة والأيقونة والصورة من أهل الفكر والفن والثقافة، كلّ من خطط ونفّذ وبادر وساهم وشارك وحضر وكل من كان سبباً في إتمام هذا الحفل. ولأنه غسان القضية يريده تكريماً إلى من يستحقه، إلى صيدا التي لم تخذلنا يوماً، صيدا معروف سعد، كيف لا؟ منذ النكبة وهي على وعد أرض البرتقال الحزين يوم كتب غسان كنفاني: “عندما وصلنا إلى صيدا في العصر صرنا لاجئين”، وعين الحلوة، بداية إبداع وريشة ولون وذكريات، وصاغ معنى المخيم في حكاية ام سعد “خيمة عن خيمة تفرق” حينها تعرّف على شاب يرسم، انتقى منه أربع لوحات ونشرها في الحرية ضمن مقال عنوانه “ينتظر أن يأتي” ويقصد “حنظلة” الذي يدير لنا ظهره منتظراً حتى نعود. هكذا أطلق غسان المبدع ناجي العلي المبدع. اللذان أصبحا معاً أيقونة عالمية وإنسانية، فبدل أن يتعامل مع القضية كمسألة إنسانية قام بتحويل الإنسان إلى قضية”.

وقال: “لأنّه أنت العمر الذي توقّف عند سن اليفاع، وبعد خمسين عاماً من الموت، لم يدخل النسيان ولا العدم، فما زال غسان شاباً حياً متوقداً يافعاً أنيقاً ومتمرداً ومتجدداً مشرئباً كالسنابل، ينبت قمحاً وحبّاً وفكراً، غسان الكتيبة الثقافية المجوقلة، التي لا تعرف الهزيمة، هل تعرفون لماذا؟ لأن الأصل لا يمكن أن يُهزم، اللغة أصل والأرض أصل والهوية أصل والحلم كذلك، وقد كتب نصّاً بعنوان “المقاومة هي الأصل”. وغسان مقاوم لا يشيخ كما “الرجال والبنادق” لا يتقادم ولا يغيب، فهو الذي يبشّر بجيل الانقلاب الثوري، الذي سيحمل “القنديل الصغير” قنديل الشمس والحرية إلى قصور الظلام والظلم والظلامية… لأنك أنت، غسان الأديب والخلوق واللبق والجميل، مثل فلسطين التي تشبهك، فما أن تغيب حتى تنبعث حيّة متمردة واضحة. يا أبا فائز، لم نفترق أبداً مع أننا لم نلتقِ أبداً، لأنّ حنظلة يقف على يسار اللوحة ينتظر أن نأتي، أن نعود إليها. وحقاً يا رفيق غسان أنت شروق الرجال الحقيقيين، لذلك ستظلّ أروع وأفضل وأجمل الرجال في العالم، بل أنت أجمل ما تبقى لنا”.*2

 

1*: النص الكامل لكلمة الكاتب الدكتور محمود شريح

جاءت رواية غسان كنفاني (1936-1972) الأولى رجال في الشمس (1963) تصوّر مشاق الرحلة الفلسطينية هرباً من العذاب وبحثاً عن الخلاص، وهي في هذا تجسّد خصوصية فلسطينيي الشتات بعد النكبة وعلى امتداد الخمسينات. وأبطال الرحلة ينتمون إلى ثلاثة أجيال: أبو القيس، وهو مزارع فلسطيني خسر أرضه، يترك المخيم وزوجته وطفليه بحثاً عن الرزق، وأسعد، وهو شاب فلسطيني مطارَد بسبب نشاطه السياسي، ومروان، وهو صبي لم يبلغ السادسة عشرة، تزوج أبوه ثانية وأورثه إعالة أمّه وإخوته الصغار في المخيم. إنهم ثلاثة فلسطينيين لا يعرف أحدهم الآخر وفدوا إلى البصرة في وقت واحد ليعبروا الحدود إلى الكويت بطريقة غير شرعية. والمهرّب هو “أبو الخيزران” سائق شاحنة مياه كبيرة، وخطة التهريب بسيطة، فهو “أبو الخيزران” يعود إلى الكويت وخزّان الشاحنة فارغ. وأما الرجال الثلاثة فيركبون إلى جانب “أبو الخيزران”، وقبل الوصول إلى نقطة التفتيش عند الحدود يختبئون داخل الخزّان. ولكن يحدث ما لم يكن في الحسبان: يختنقون داخل الخزّان و”أبو الخيزران” منهمك في إطلاع حرّاس الحدود على علاقات غرامية مختلفة. إن الأجيال الثلاثة تعبر الموت (الصحراء) بحثاً عن الحياة  والاستقرار فتكون نهايتها البائسة، فالهرب من المخيم موت آخر. ومع أن “أبو الخيزران” يلقي بالجثث الثلاث على أكوام القمامة على مشارف المدينة “الموعودة” ويخرج النقود من جيوب أصحابها فإن الشعور بالذنب يلاحقه ويلاحق الوجود:

“انزلقت الفكرة من رأسه ثم تدحرجت على لسانه:

  • ولماذا لم يدقوا جدران الخزان؟…”.

دار حول نفسه دورة ولكنه خشي أن يقع فصعد الدرجة إلى مقعده وأسند رأسه فوق المقود:

  • لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقولوا؟ لماذا؟

وفجأة بدأت الصحراء كلها تردد الصدى:

  • لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزّان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟.

إن هذا الخيار، الهرب – الموت، رَسَم للشخصيات الثلاث نهايتها المنطقية، ولا سيّما أن الشخصيات الرمزية الراغبة في الخلاص سلّمت أمرها لواقع العجز الفلسطيني – العربي الذي يرمز إليه “أبو الخيزران”.

 لقد أعلنت رجال في الشمس أن الموت السلبي في انتظار الذين يفرون بعيداً عن الوطن.

قد تكون رواية رجال في الشمس من أقوى الروايات المعاصرة وأكثرها شفافية. ففي إطار البعد الرمزي يتّخذ طلب الحياة خارج الأرض معنى السعي إلى الموت. وفي رجال في الشمس يبدو الوعي عند الإنسان الفلسطيني في حالة ركود ونوم إطارها الجهل والتخلف والأنظمة المتاجرة والقيادات العاجزة.

 ورواية كنفاني الثانية ما تبقّى لكم (1966) تكملة لروايته الأولى رجال في الشمس. ففي ما تبقى لكم تعود الصحراء لتأخذ دورها، ولكن عوض أن تكون ساحة للموت المجاني تصبح واقع مواجهة ينعدم فيه الحوار بين مناضل فلسطيني (حامد) وجندي إسرائيلي. وتمثّل ما تبقى لكم بداية اليقظة الأولى كعملية استفاقة ذاتية. وقد أطلق كنفاني على “أبو الخيزران” في رجال الشمس تساؤله النقدي الاحتجاجي: “لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟” وأما ما تبقى لكم فقد جاءت، على نقيض رجال في الشمس تمثّل ما يدور في ذهن الشعب الفلسطيني عشية انطلاق ثورته. ففي رجال في الشمس كان القرار نحو الغربة يعني الموت، وأما ما تبقى لكم تصحّح الاتجاه: فرار نحو الأم – الأرض، ومن هنا المواجهة الحقيقية مع العدو.

            وتشكّل رجال في الشمس وما تبقى لكم قفزة هامة في تاريخ الرواية العربية. فالمحاولتان خلخلتا البناء الروائي التقليدي. وقد اتضح أُسلوب تيار الوعي بشكل بارز في ما تبقّى لكم وأدخل كنفاني الزمان والصحراء شخصيتين أساسيتين في روايته، بالإضافة إلى حامد ومريم وزكريا. ولكي يسهُل على القارىء استيعاب هذا العمل الجديد في أُسلوبه، يلجأ كنفاني إلى توضيح مهمته. فهو يعيّن لحظات التقاطع والتمازج التي تحدث عادة دون تمهيد، وذلك عن طريق تغيير الحروف الطباعية عند النقطة المناسبة. ويبدو واضحاً في ما تبقى لكم تأثّر كنفاني بالكاتب الأمريكي وليم فوكنر William Faulkner (1897-1962) في روايته الصخب والعنف (1929) التي ترجمها إلى العربية جبرا ابراهيم جبرا عام 1963. وقد اعترف كنفاني بهذا التأثر إذ قال:

            “بالنسبة لفوكنر فأنا معجب بروايته الصخب والعنف وكثير من النقاد يقولون إن روايتي ما تبقى لكم هي امتداد لهذا الإعجاب بـ الصخب والعنف، وأنا أعتقد أن هذا صحيح أنا متأثر جداً بفوكنر، ولكن ما تبقى لكم ليست تأثراً ميكانيكياً بفوكنر بل هي محاولة للاستفادة من الأدوات الجمالية والإنجازات التي حققها فوكنر لتطوير الأدب الغربي.

            ومجموعة أرض البرتقال الحزين لغسّان كنفاني صدرت في بيروت عام 1963 وتدور قصصها حول شعور المنفي المعذّب، ولكنه أصبح هنا متسائلاً. وفي المجموعة إحدى عشرة قصة، ثلاث منها بعنوان “ثلاث أوراق من فلسطين” هي “ورقة من الرملة” و”ورقة من الطيرة” و”ورقة من غزة”.   

            وفي القصة القصيرة التي تحمل المجموعةُ اسمَها يحكي كنفاني رحلة أسرة فلسطينية نزحت عام النكبة من يافا إلى عكّا إلى لبنان عبر رأس الناقورة. وعند رأس الناقورة تشتري النسوة سلّة برتقال وهنّ بعيدات يتحسّرن على أرض البرتقال “اليافاوي”. ثم تُكمل الأسرة الطريق:

            “وعندما وصلنا صيدا، في العصر، صرنا لاجئين”.

            وفي مجموعة غسّان كنفاني عالم ليس لنا (1965) تطغى موضوعة المنفى بشكل بارز. فقصة “جدران من الحديد” صورة شعرية لطائر ينتفض في قفصه دون انقطاع إلى أن يحتضر. والمنفى سجن، ولكن النهاية غامضة: هل يموت الطائر لأنه استنفد قواه، أم هل يموت لأنه توقّف عن الانتفاض؟

            وعام 1968 أصدر غسّان كنفاني في بيروت مجموعته القصصية الرابعة عن الرجال والبنادق. والمدخل إلى المجموعة قصة تعود بنا إلى عام 1949 وحياة البؤس في المخيم الفلسطيني. وتنقسم هذه المجموعة إلى قسمين، القسم الأول في أربع قصص قصيرة تشكّل رواية غير طويلة. والقسم الثاني أربع قصص أخرى تقدم كلّ منها معادلة فنية لنضال الفلسطيني ضد الجوع من أجل البقاء، ونضاله المسلّح ضد الغزاة. ويرقّم كنفاني القصص من (1) إلى (9) معتبراً إياها أجزاء مُتتابعة من عمل واحد يقدم صورة للنضال الشعبي الفلسطيني منذ ثورة 1936 إلى المقاومة المسلّحة التي انطلقت مرّة ثانية في منتصف الستّينات.

            وعلى هذا، فإن القسم الأول من عن الرجال والبنادق رواية تاريخية تحكي الواقع الفلسطيني قبل نزوح عام 1948، وتقدم صورة تحليلية للقوى الفاعلة فيه وهي: الفلاحون والمثقّفون واليهود والإنكليز والقيادات الفلسطينية. وكذلك الوطن في تضاريسه.

            على هذا النحو تمكّنت الرواية الفلسطينية عبر ثلاثة من مُجلّيها في هذه الحلبة، جبرا وكنفاني وحبيبي، من تبوّؤ مكانة مرموقة، عربياً وعالمياً، فقد دفع هؤلاء بالرواية إلى آفاق جديدة، عبر مناهج حديثة واضحة المعالم، متناولين أغراضاً رصينة، مستفيدين من تجارب توفّرت لهم فسبروا أغوارها وحوّلوا الخاص إلى العام والعيني إلى المجرّد مستنيرين بالتراث، وبالتقنيات الواردة إليهم من الغرب، فجاءت رواياتهم، رغم تنوّع منازع أصحابها، تعبيراً عن الهمّ الإنساني الأوسع، ومسخّرين لذلك الشكل الأنسب الآخذ بجزئيات المضمون بحيث يصعب فصل المعنى عن مبناه فالتحمت أواصر الشاغل الفلسطيني بالقالب الموصل، وتحقيق غرض التجربة في مستواها الفني اللائق بها. ولقد ترك كنفاني رغم عمره القصير ظلّاً مديداً في حياة الأدب الفلسطيني  وظلّ يتجلّى ويتجلّى في ديالكتيك الفنّي والسياسي، وفي ذلك البحث الدؤوب عن أدب وظيفي – نضالي دون أن يتنزّل هذا الأدب عن مقامه الإبداعي. وحقّق جبرا، على مدى أربعين عاماً، بنياناً شامخاً وعامراً بالرؤية والواقع، ومسكوناً بالوطن والقربة، ومنظماً بالموسيقى والشعر والاجتماعي. وأما حبيبي فقد حوّل المأساة ملهاة والملهاة جرحاً لا يلتئم ما دام الوطن باقياً تحت الاحتلال، متخذاً من تفاصيل الحياة اليومية في الوطن والمنفى قماشة نضال، ومشيّداً من ثنايا الذاكرة صرح حنين. وإذا كانت الرواية الفلسطينية قد توخّت أساساً التأثير والإحساس فإنها عمدت، في تحقيق مهمتها تلك، إلى التداعي واسترجاع الماضي والمونولوغ الداخلي (المناجاة الداخلية)، مبتعدة عن التأريخ قدر الإمكان. وفي رجال في الشمس قدّم كنفاني رواية واقعية بأبعاد رمزية. فالصورة مكثّفة عن الوضع العام الفلسطيني (والعربي) المرحلي. وفي البحث عن وليد مسعود حقّق جبرا إمكانية الحلم بتوحّده في الرجوع إلى المنزل الأوّل وأشيائه. وأما في إخطيّة فقد اختزن حبيبي تراث الوطن وحاضره في ذاكرة الحنين. ورواية كنفاني تسودها مشاعر التمزّق، ولكنها تدعو إلى التأهب عبر دقات خافتة تنذر بالهزيمة المحتومة. فـ رجال في الشمس تعبير عن عجز الفلسطينيين في الخمسينات عن إيجاد مكان أو دور لهم، وسط وهج الواقع القاسي. ورواية جبرا تحريك لطاقة الشتات في المنفى وتوحيدها باتجاه الوطن والأرض حيث التاريخ والمسؤولية والمطمح والمستقبل. وإخطية حبيبي تتصف بأُسلوب الهذيان النوسطالجي، هذيان معقول وعاقل ولكنه يسعى إلى تناسي الصدمة الكبرى وتحويل ذكرى ضياع الوطن إلى خزّان حنين ينهض على التوثيق والتاريخ والسيرة والرواية والتسجيل فيحيي الماضي ويبعث الوطن حيثما حلّ حاملاً همّه فتبقى الأرض ويتلاشى الاحتلال.

(*) أُلقيت هذه الكلمة مساء 23 تمّوز في مهرجان تكريم الأديب الفنان الشهيد غسان كنفاني (1936-1972) بدعوة من المجلس الثقافي للبنان الجنوبي المنعقد في قاعة معروف سعد في صيدا.

 

*2: النص الكامل لكلمة الكاتب مروان عبد العال:

أيها الحفل الكريم
اسعدتم مساءًا
لم اتعوّد ان أخلّ بموعد ثقافي مُميّز ، فكيف أن كان بتوقيت خمسينية غسان كنفاني؟ فعذراً للغياب القسري، وشكراً للرفيق الذي تلى على مسامعكم كلمتي . وربما إذا استشير غسان قبول تكريمه، اخاله سيقول : لا أريد هذا التكريم لي وحدي، بل أريده لغيري أيضا، الى من يستحق ويقدّر الابداع.
فكل من يقدر الابداع، لابد ان يكون..هو الإبداع نفسه!! كما هذه الباقة الجميلة الحاضرة باللوحة والكلمة والايقونة والصورة. من اهل الفكر والفن والثقافة، كل من خطط ونفذ ، وبادر وساهم وشارك وحضر. وكان سبباً في هذا الحفل.
لأنه غسان القضية: يريده تكريماً الى من يستحقه .. الى صيدا التي لم تخذلنا يوماً.. صيدا معروف سعد. كيف لا؟ منذ النكبة وهي على وعد ارض البر تقال الحزين يوم كتب غسان : “عندما وصلنا صيدا في العصر صرنا لاجئين.”، وعين الحلوة، بداية ابداع، وريشة، ولون، وذكريات، وصاغ معنى المخيم في حكاية ام سعد ” خيمة عن خيمة تفرق” حينها تعرّف على شاب يرسم، انتقى منها اربع لوحات ونشرها في الحرية ضمن مقال عنوانه “ينتظر أن نأتي” ويقصد “حنظلة” الذي يدير لنا ظهره منتظراً حتى نعود ، هكذا اطلق غسان المبدع ناجي العلي المبدع . الذي اصبحا معاً ايقونة عالمية وإنسانية، فبدل ان يتعامل مع القضية كمسألة إنسانية ، قام بتحويل الانسان الى قضية، وهو القائل “إن الإنسان هو في نهاية الأمر قضية.. ولكن أية قضية؟ هذا هو السؤال! فكّر جيدًا”.
غسان المفكر: نحن جيل تثقف حزبياً على مادة فكرية مقررة عن دراسة غسان العميقة لثورة 1936 “خلفيات وتفاصيل وتحليل” هي مراجعة تاريخية نقدية، فكانت حصيلتها ثقيلة على عقولنا الصغيرة، كيف مهدت الهزيمة الاولى عام 1939 – 1936 للهزيمة الثانية في حرب 1947 – 1948، وحدد فيها الثورة المضادة للحركة الوطنية الفلسطينية انذاك..: 1) القيادات الفلسطينية المتخاذلة والرجعية، 2 ) الانظمة العربية الرجعية المحيطة بفلسطين، 3) الحلف الامبريالي / الصهيوني. أليس هذا الحلف ذاته الذي أضاع فلسطين ؟! والحلف المعادي اليوم لحريتها؟ والعابر للازمنة من “محور تحالفٍ إقليميٍّ” او السلام الابراهيم او الشرق الأوسط الجديد المرتبطٍ عضوياً والمندمج بالمصالح الاستعمارية.
غسان ثقافة المقاومة: في دراسته للأدب المقاوم تحت الاحتلال كتب غسان «أن الشكل الثقافي في المقاومة يطرح أهمية قصوى ليست أبداً أقل قيمة من المقاومة المسلحة ذاتها» ثم اعرف عدوك، وكيف ينظر لنا، فكتب ” ما هي معركة فلسطين بالنسبة للعرب في الروايات الصهيونية؟ إنها بلا تردد، ترف لا ضرورة له!”.
غسان الادب المقاوم: عندما جاء دور «رجال في الشمس» لم نكن ندري صدى السؤال: لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ سيظل يتردد حتى الآن. وانه سيصبح تعبيراً عالمياً.
الرواية جعلتنا ان نذهب وراء السطور واثارت نقاشاً بين فريقين :
الفريق الاول: يقول انهم داخل الخزان قتلهم العجز واليأس والهزيمة وفقدوا الارادة حتى على قرع جدران الخزان . والفريق الثاني : انهم قرعوا جدران الخزّان؛ فلا يمكنهم ان يختنقوا بصمت! حتماً قبضاتهم المتعبة دقت بقوة على جدران الخزّان ،لكن دقاتهم ذهبت سدى! (ابو الخيزران وموظف الحاجز) مستغرق بالحديث عن الراقصة «كوكب»، هذه رمزية مقصودة للتجاهل واللامبالاة.
كنت مع الفريق الثاني، لاننا منذ النكبة وشعبنا لم يتوقف عن دق جدران الخزان، في كل حصار وحرب وانتفاضة وخلف كل متراس وفي كل نفق ، في كا بلد وقرية من غزة وساحة باب العامود والشيخ جراح وسلوان ومخيم جنين، في اللد والناصرة ورام الله والخليل والدهيشة ونابلس وفي كل سجن وزنزانة ومخيم في الشتات القريب والبعيد يدق الخزان ويدق اجراس العودة! مع ذلك مازال الجدل مستمراً من يطالب ان ندق الخزان أكثر ! واخر يطالبنا ان الا نزعجه بمزيدٍ من الدق. الشعب النّد، العاشق للحرية والحق والحقيقة، يزداد تمرداً وتمرساً كلما زاد تهريب الانسان والاوطان وضاق خزان العنصرية والفاشية وتضاعف الاستيطان والجدار العازل والطرق الالتفافيّة، وكنتوناتٍ وغيتوات عنصرية ، عصابات الاستيطان تتسلح ، وامامها سيادةٍ منزوعة السلاح، لكن معادلة الشعب مختلفة فالوحدة “وطن معنوي” والمقاومة هي اليد العليا، حتى لا تسقط قامة “رجال في الشمس” ليس في الصحراء القاحلة او في موج البحر العاتية ، انما امام الوهم والعجز والتيه والانقسام، ونتعلم ثقافة النقد البناء، ونلوم انفسنا قبل غيرنا ان أصبحت القضية الفلسطينيّةُ خارجَ الحسابات السياسيّةِ الدولية والعربية.
لأنك أنت العمر الذي توقف عند سن اليفاع، وبعد خمسين عاماً من الموت ، لم تدخل النسيان ولا العدم، فمازال شاباً حيّاً متوقداً يافعاً انيقاً ومتمرداً ومتجدداً مشرئبا، كالسنابل، ينبت قمحاً وحباً وفكراً، غسان الكتيبة الثقافية المجوقلة ، التي لا تعرف الهزيمة ، هل تعرفوا لماذا ؟ لأن الأصل لا يمكن ان يهزم ، اللغة أصل والأرض أصل، الهوية اصل،والحُلم كذلك، وكتب نصاً بعنوان “المقاومة هي الاصل” وغسان مقاوم لا يشيخ كما “الرجال والبنادق” لا يتقادم ولا يغيب، فهو الذي يبشّر بجيل الانقلاب الثوري، الذي سيحمل “القنديل الصغير” قنديل الشمس والحرية إلى قصور الظلام والظلم والظلامية.
لأنك انت نموذج “لم يكتمل”؛ سر الفكرة انها لم تكتمل، لانها ليست مقولة جاهزة وتحت الطلب قوالب جامدة، من يعرف كيف كان يكتب ويناضل ويرسم ويحرر مجلة وهو في حالة جريان، سيعرف انه فلسطيني مطارد بالأمكنة والأزمنة، حتى أن هناك روايات كتبها غسان ولم تكتمل! وأفكار بدأها ولم تكتمل، وظلت في حالة جدل، وعبارات صاغها كأنها تنتهي بفاصلة وليس بنقطة حتى لا تنهي الجملة! وأكثر من ذلك عمر غسان لم يكتمل! لم يرد الأعداء أن يكتمل فقتلوه في عمر ال 36 سنة، مع ذلك أسس للتجربة ولم يُكملها ومنذ المراحل الأولى لبلورة استراتيجية موحدة، ومأسسة الوحدة مع الاعلام الفلسطيني الموحد، مع بدايات الحركة الوطنية الفلسطينية حتى انه ردد اكثر من مرة الثورة لم تكتمل، نحن لسنا الثورة، نحن في مرحلة التأسيس للثورة.
ولأنك انت من وضع فلسطين في رأس الصفحة الأولى، وكان صوت “الحقيقة كل الحقيقة للجماهير”، والعقل المدبّر للتقارير والوثائق و المفاهيم الثورية والتنظيمية والسياسية، وكذلك الوطنية التي صاغها حول الوحدة الوطنية “الأفقية” كما وصفها، أي بين الفصائل والتنظيمات، ومكونات الشعب الفلسطيني داخل وداخل الداخل والشتات بكل أبعاده، والوحدة “العامودية “، أي بين التنظيم السياسي والجماهير؛ وأن الوحدة لا تعني التماثل، إنما صلابة وطنيتها ووحدتها و تكون في التنوع وتعدد الآراء وتنظيم الاختلاف.
لانك انت ننتمي إليك الى مشروعك الشامل ، كي يكتمل ، الى حزب غسان كنفاني، الذي اعتبر الوطن ليس مجرد ذكرى وماضي إنما مستقبل، وأن معنى فلسطين وحقيقة فلسطين تنتصر على فلسطين ناقصة. الذي علمنا أن الحس السياسي هو عاطفة المقاومة التي تؤسس من خلال الوعي الى ثقافة المقاومة المنضبطة لقاعدة التناقض الرئيسي مع الكيان الصهيوني.
لأنك أنت .. غسان الاديب والخلوق واللبق والجميل مثل فلسطين التي تشبهك، فما ان تغيب حتى تنبعث حيّة متمردة واضحة. يا ابا فائز لم نفترق أَبداً مع اننا لم نلتق أَبداً، لأن حنظلة ينتظر أن نأتي..ان نعود إليها.
“لن أرتد حتى أزرع في الأرض جنتي أو أقتلع من السماء جنة أو أموت أو نموت معًا”.
وحقاً يا رفيق غسان انت شروق الرجال الحقيقين لذلك ستظل أروع وافضل واجمل الرجال في العالم، بل انت اجمل ما تبقى لنا.

 

كاميرا: علي مزرعاني