حول كتاب كامل مهنّا “مواجهة الاستثمار المفرط لمفهوم المجتمع المدني”

عماد الدين رائف*

تمكّن الدكتور كامل مهنّا في كتابه الجديد “مواجهة الاستثمار المفرط لمفهوم المجتمع المدني – عامل تجربة ديمقراطية لبناء مواطن ووطن” من تقديم نموذج عمل اجتماعي إنساني من دول الجنوب إلى دول الشمال، أو من الشرق إلى الغرب، وفق التعبير السياسي. هذا النموذج الذي اكتملت معالمه بناء على تجربة مؤسسة عامل، منذ انطلاقتها إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1978، ونشاطها الكبير مع الاجتياح الثاني عام 1982، ثم عملها اليومي في أقسى مراحل الحرب الأهلية اللبنانية (1983-1990)، وصولًا إلى مرحلة ما بعد اتفاق الطائف، إلى أيامنا الحالية، وانقضاء المدة الأولى من المحاولات العالمية لتطبيق الأهداف التنموية للألفية الجديدة. من الطبيعي أن يتجسد النموذج بعد اكتماله في نصّ، وهذا ما درجت على توريده دول الشمال إلى بلداننا، عبر نصوص تتضمن شتى أنواع المصطلحات التي تختبئ خلفها مفاهيم تنظر إلينا كقاصرين علينا أن نحذو حذوها وأن نلبس لباسها كي نتطور؛ لكننا أمام كتاب كامل مهنا نرى الحركة معكوسة، إذ إن النموذج عربي محليّ ينطلق نحو العالمية، ولا يبين معالم الطريق من الخدمة إلى التنمية والحقوق فحسب، بل يظهر بوضوح المهاوي والحفر على هذا الطريق، إذ يمكن الاسترشاد به للتفريق بين مفهومي الأهلي والمدني من ناحية، والتمييز بين “المدني” المستخدم بكثافة للارتزاق لدى عدد هائل من الجمعيات وبين المنظمات المطلبية الحقوقية التنموية المستجيبة للقضايا الاجتماعية الملحة والدؤوبة على العمل الإنساني بدون أي نوع من أنواع التمييز، من ناحية أخرى. ومن هنا، نفهم أن خريطة الطريق متى ما رسمت يمكن الدعوة إلى النهوض بالعمل التنموي بناء على النموذج المقدم. بعد سلسلة من الكتب التي عالج فيها مهنّا موضوعات المجتمع المدني برؤية عالمية، وعند الانتهاء من قراءة كتاب “مواجهة الاستثمار المفرط لمفهوم المجتمع المدني”، نلمس أن ما يحكم النص ككل قاعان سرديان، يُكسبانه الأصالة والحقيقة. في “الأصالة”، ينتج الكتاب عن تجربة طويلة تستمر منذ أكثر من نصف قرن لمناضل خاض النضال المدني الإنساني في ميادين شتى، ومناطق مختلفة من العالم، وكانت مسيرته مليئة بالمصاعب منذ كان تلميذًا في جبل عامل على الحدود مع فلسطين، إلى أن انتقل إلى صيدا فبيروت ثم باريس، وفي حياته العملية مع الفئات المهمشة طبيبًا في أقسى ظروف الحرب الأهلية وفي مواجهة تداعيات العدوانات الصهيونية المتكررة، حيث كان قرب الناس في المناطق الشعبية. والأهم من المصاعب كان في ابتكار الحلول لتخطيها، وتطويع الظروف كي يصل إلى الهدف، وهو خدمة الناس بكرامة. لعل هذه الحركة في مواجهة الظروف وتطويعها تشبه “الركمجة” في مواجهة الأمواج العاتية. وهنا يتجلى معنى الأصالة، أي أن تأخذ التجربة من صاحبها مباشرة، لا من طرف وسيط. في “الحقيقة”، لا ينتج الكتاب عن منظّر ما استقرأ مرحلة من مراحل العملين الأهلي والمدني، وصاغ أفكاره وفق بعض النظريات السائدة… بل عن مناضل خاض غمار العمل اليومي في شتى ظروف الحرب والسلم، والحرب المغلفة بالسلم، من تجربة “النجدة الاجتماعية” إلى مؤسسة عامل، وصولا إلى “عامل الدولية” اتخذ خياراته وحدد أهدافه. فإذا ما تحدث عن إمكانية تعميم فكرة تحرير الخدمة الإنسانية والتنموية من الارتهان والمذلة لطرف سياسي ما، وتقديم الخدمة الأمثل للمواطن بدون منّة؛ فهذا أمر عادي ويومي في مراكز المؤسسة الـ26 وفي العيادات النقالة والجولات الميدانية التي استهدفت اللبنانيين وغير اللبنانيين، من دون أي تمييز، حيث قدمت المؤسسة ملايين الخدمات عبر برامجها ومتفرغيها الـ 1200، وكانت حيث تطلبها تجدها، في مختلف الظروف الأمنية والصحية على مدى العقود الأربعة الماضية. فما تصل إليه التجربة يُصنّف في خانة “الحقيقي”، أي الذي خضع للتجربة. وما وصلت إليه عامل في هذا المجال كان “نتيجة خياراتها الكفاحية، فأصبحت تشكل رأس حربة في مواجهة سياسة الغرب الاستعمارية، وثقافة منظمات المجتمع المدني الغربي التي تعودت نهج الإملاءات”. إن ما وصلت إليه مؤسسة عامل، برئاسة مهنّا، كان “نتيجة الالتزام بقضايا الشعوب العادلة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، كذلك العمل مع الفئات الشعبية، لا الاكتفاء بالحديث، في الفنادق، عن بؤسها ومعاناتها، وكذلك الالتزام بالنضال من أجل توزيع عادل للثروات، داخل كل بلد وعلى مستوى العالم”. وهنا، عندما يصل الكاتب إلى أن الإصلاح يكون “من تحت” ويرسم طريق الوصول إليه، حيث تتوزع الأدوار على الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني… لا يمكن إلا أن يكون منطويًا على معنى الأصالة، نتيجة التدرج في تخطي الصعاب وصولًا إلى الهدف، ومعنى الحقيقة إذ إنه صادر عن الالتزام بخيارات يبدو أنه يصعب على كثيرين الالتزام بها، خاصة في المرحلة الراهنة”.

مؤلف وكاتب صحافي