صديق العمر برهان علوية

كريم مروة

هكذا غادرنا بشكل مفاجىء إثر نوبة قلبية برهان علوية أحد أعمدة السينما اللبنانية والعربية. وقد ترك لنا بعد رحيله تراثاً غنياً في السينما وفيما ارتبط بأفلامه من مواقف فكرية وسياسية وإنسانية تعبّر عن شخصيته، تراثاً سيجعله ثابتاً في وجداني ووجدان اللبنانيين العرب. إلا أنني، أسوة بمن عرفوه وقدّروه، أشعر بخسارتين، خسارة فنان كبير وخسارة صديق أعتز بالصداقة التي ربطتني به. وبرحيله ينضم إلى مجموعة من المفكّرين والمثقفين والفنانيين العرب الذين خسرناهم واحداً تلو الآخر في هذه الحقبة المليئة بالصعوبات والكوارث التي يعيش فيها لبنان والبلدان العربية.

تعرفت الى اسم برهان علوية كمخرج سينمائي في أول فيلم أنتجه في سبعينات القرن الماضي حول بلدة كفر قاسم الفلسطينية. وهو من روائع الأفلام التي تناولت تلك المرحلة لا سيما فيما يتصل بالشعب الفلسطيني ومعاناته من قبل الحركة الصهيونية. فقد حرص برهان في ذلك الفيلم على أمرين أساسيين. الأمر الأول يتمثل في معاناة الشعب الفلسطيني من قبل العصابات الصهيونية وكفاحه البطولي من أجل حقّه في إقامة دولته الفلسطينية المستقلة على أرض الوطن التاريخي. ويتمثل الأمر الثاني في إظهار بشاعة العنصرية الصهيونية وجرائمها التي ما تزال تواجه الشعب الفلسطيني حتى هذه اللحظة من قبل دولة إسرائيل.

لقد تابعت منذ ذلك التاريخ أعمال برهان السينمائية وشاهدت كل أفلامه اللبنانية والفلسطينية والعربية ومن ضمنها أفلامه التي عرض فيها وقائع الحرب الأهلية اللبنانية والجرائم التي ارتكبت باسمها ضد الشعب اللبناني. وكان همّه في تلك الأفلام أن يعرض الوقائع التي أراد التوقف عندها وأن يقدم في الآن ذاته همّه الأساسي في أفلامه وفي مسيرته، الهمّ الذي يتمثل في الدفاع عن الإنسان وعن حقّه المقدّس في الحرية والعيش الكريم.

في السنوات الأخيرة من الحرب الأهلية بدأت علاقتي الشخصية معه. التقينا في حفل عرض فيه أحد أفلامه عن الحرب الأهلية بحضور عدد من المثقفين اللبنانيين من أصدقائي وأصدقائه. وكان برهان في ذلك الحين على خلاف مع الحزب الشيوعي لم أعد أذكر أسبابه. وحين توجهت إليه بالتحية وعانقته مهنّئاً إياه بإنجازاته السينمائية دُهش وبدت عليه الحيرة. فقلت له يومها أنك يا برهان بالنسبة إليّ قبل أي شيء آخر فنان كبير أعتز بإنجازاته. وبدأت منذ ذلك التاريخ علاقة صداقة حميمة بيننا وصرنا نلتقي في لبنان وخارج لبنان. وأذكر في هذا السياق أنني التقيت به في أوخر التسعينات مقدّماً له اقتراحاً بإعداد لفيلم عن الحرب الأهلية يختلف عن كل ما صدر من أفلام تناولت تلك الحرب. وكنت قد التقيت بصديقي رجل الأعمال مصطفى شباني وعرضت عليه المشروع لكي يتبناه ويؤمّن شروط إنتاجه فرحّب بالاقتراح. أخبرت برهان بذلك ففرح وأيّدني على الفور في الاقتراح المشار إليه. وأضفت قائلاً له: أظن أننا بحاجة يا برهان الى شخص آخر يكون شريكاً لنا في الإعداد لهذا الفيلم، وأن تكون أنت الأساسي فيه استناداً الى تجربتك الفذة في السينما. واقترحت اسم الشاعر محمد العبدالله وهو صديق لكلينا فرحّب بالفكرة واتصلنا على الفور بمحمد ودعوناه الى لقاء مشترك بيننا. في ذلك اللقاء تبلورت فكرة الإعداد للفيلم عن الحرب الأهلية. وكلفت من قبل الصديقَين بإعداد ورقة أحدّد فيها بأسمائنا الثلاثة الأسباب الموجبة لإنتاج هذا الفيلم من نواحٍ عديدة نقداً للحرب الأهلية ذاتها والقوى التي شاركت فيها وتأكيداً على القيم الإنسانية وعن حق الشعب اللبناني بالحرية والعيش الكريم وبمستقبل آخر للبنان مختلف مما كان سائداً في ذلك الحين في ظل الوصاية السورية وتشتت القوى الديمقراطية وضياع البوصلة. وعندما أنجزت كتابة النص المشار إليه التقينا من جديد وناقشناه وعدّلنا فيه وعرضناه على عدد من المثقفين الديمقراطيين كان في مقدّمتهم المفكّر العقلاني والأديب والمؤرّخ أحمد بيضون. وجدنا حماساً عنده وعندهم للفكرة. وجلسنا نحن الثلاثة وناقشنا كيفية العمل الجديّ من أجل إنجاز الفيلم وفي المقدمة وضع سيناريو يعبّر عن الفكرة الجوهرية فيه. واتفقنا بعد نقاش في عدة جلسات على تكليف الشاعر محمد العبدالله بوضع سيناريو للفيلم. وبعد إنجاز السيناريو جلسنا نحن الثلاثة وناقشناه. وأجرينا بعض التعديلات عليه. وكلفنا العبدالله بوضع الصيغة النهائية للفيلم. وبعد فترة جاءنا محمد وعرض علينا النص النهائي للسيناريو، فوافقنا عليه. وتركنا مهمة الإخراج إلى برهان. ثم ذهبت إلى صديقي رجل الأعمال مصطفى شباني لأخبره أن كلّ شيء جاهز لإنتاج الفيلم. فوجئت باعتذاره وبالأسباب التي عرضها لي. ولم يكن لدينا حل آخر غير القبول بما حصل. اتفقنا نحن الثلاثة على أن يصدر محمد العبدالله السيناريو في كتاب، وقد صدر تحت عنوان ألف ومئة وأحد عشر، وأن نتابع البحث عن مموّل آخر لإنتاج الفيلم. لكن للأسف فشلنا.

قد يبدو غريباً أن أتطوّع أنا شخصياً بالعمل من أجل إنتاج فيلم، أنا الذي لا علاقة لي في هذا الميدان. إلا أنني أتذكر هنا القرار الذي اتخذناه جورج حاوي وأنا في العام 1987 بتكليف صديقي السينمائي العراقي قيس الزبيدي لإعداد فيلم عن المقاومة كنت إلى جانبه خلال فترة الإعداد للفيلم أعطيناه اسم “واهب الحرية”. وكان أول فيلم عن المقاومة نجحنا في إعداده وعرضنا فيه بكل ما يتصل بمقاومة الشعب اللبناني للغزو الإسرائيلي للبنان في العام 1982 وعرضناه ولاقى استقبالاً باهراً لأننا عرضنا فيه ما قام به كل الوطنيين اللبنانيين في المقاومة من دون استثناء. واستناداً إلى هذه التجربة بالذات جاءتني فكرة الفيلم عن الحرب الأهلية الذي فشلنا في إعداده كما ذكرت.

وأود هنا أن أشير إلى أن التجربة في إعداد الفيلم عن الحرب الأهلية اللبنانية وفشلنا في إنتاجه قد عمّقا الصداقة بيني وبين برهان. وتعمّقت معرفتي بمزاياه الإنسانية والخلقية. وتابعت علاقتي الشخصية معه وتابعت مشاهداتي لأفلامه.

غير أنّ برهان في الآونة الأخيرة من حياته هاجر إلى بلجيكا واستقر فيها. وصارت العلاقة بيننا تتم بواسطة الهاتف.

عندما بلغني نبأ وفاته وهو في الثمانين من عمره حزنت كثيراً مثلما حصل بالنسبة لي مع آخرين من أصدقائي المثقفين في لبنان والعالم العربي الذين خسرناهم واحداً تلو الآخر. وهكذا هي الحال بالنسبة إليّ وإلى الشعب اللبناني والشعوب العربية في هذه المرحلة العصيبة من تاريخنا التي تنهار فيها بلداننا وتنهار فيها القيم الإنسانية التي هي الأساس في الحياة.