أميمة الخليل وبيار جعجع و”خرخار” عربصاليم

بيار جعجع منطلقاً في “خرخار” عربصاليم

كامل جابر

أغوت صورة  شلال نهري في عربصاليم، في إقليم التفاح (جنوب لبنان)، الشاب “الموهوب” بيار جعجع، فأحبّ أن يغطس في مياهه ليستوحي من انطلاق جسده في داخل الماء إيماءات محتملة لمشروعه المشترك الجديد مع أميمة الخليل، الفنانة الملتزمة صاحبة الحنجرة الذهبية والصوت الرخم.. أخبرها بذلك، وسعت بجهدها وعلاقاتها لتحقيق حلمه..

الوصول إلى شلال عربصاليم المعروف بـ”الخرخار” لم يكن صعباً بوجود ابنة عربصاليم المربية سمر شمس الدين وزوجها المصرفي أحمد ضيا. وكان لا بدّ من مسير بضعة مئات من الأمتار في طريق ترابية متعرجة، ليست مستحيلة. تعدّد الرفاق في المسير، لونا، منال، وطارق، الموسيقي الذي سرعان ما انسجم مع بيار، إذ بينهما لغة موسيقية ومتخيلات مسرحية وفنية. لكن قبل الوصول إلى “الخرخار” لا بدّ من الاعتراف بروعة وعظمة جبل الرفيع المطلّ كالمارد على عربصاليم، على طول ناحيتها الشرقية، بانحدار صلب من علّ وصولاً إلى مجرى نهر الزهراني، الذي يشكل “الخرخار” أحد محطاته المقصودة من أبناء عربصاليم والجوار للسباحة والتمتّع بمحيطه الخلاّب، بالرغم من تراجع ثروته المائية مطلع كلّ صيف، بسبب مصادرة مصلحة مياه لبنان الجنوبي لمعظم مياه “نبع الطاسة”، فتحرم نهر الزهراني من طاقته المائية، لكن الخرخار لا تموت كل طاقته بسبب ينابيع رافدة من أسفل جرجوع.

تسحر غابة السنديان المتسلقة على جبل الرفيع أميمة وبيار، ويعترفان بذلك بكثير من الشغف. ثمّة “عجقة” في بحيرة الخرخار المتواضع، لكن ثمة مكاناً لبيار وطارق وبترحيب من الشبان الغاطسين، القافزين “الشّاكّين” من ارتفاع ثمانية أمتار أو أكثر. تتسللّ برودة المياه الشديدة لشلال الخرخار إلى جسد بيار، يعبّر عن ذلك أكثر من مرة بالحركة والصوت، وفي الماء يمارس مجموعة من الحركات الإيمائية، وكأنه يحاكي الماء والنهر والشلال. يشعر بأنّ روحه اشتدت صلابة في مياه النبع، يبوح بذلك مع حركات تواكب نطقه الذي تعلّمه في مدارس خاصة، لمعالجة آثار الصمم الذي رافقه منذ سنواته الأولى.

قبل الغوص بتجربة بيار مع الصمم والرقص الإيمائي، تشير أميمة إلى مشروع فني مشترك يوفّق بين الصوت والإحساس، بدأ بينها وبين بيار الذي سيرقص على صوتها وغنائها مع مجموعة من الموهوبين الصمّان، ساعية إلى أن يصل صوتها من خلال بيار إلى هذه المجموعة المتميزة التي حرمتها الحياة من نعمة السمع لكنها لم تحرمها من الموهبة الفذّة. الفكرة تبلورت، التدريبات بدأت، يبقى أن العرض سيحتاج إلى وقت وكذلك إلى تمويل..

بيار الأصم وموهبة الرقص والتعليم

تكمن موهبة الشاب اللبناني الأصم بيار جعجع ليس في كونه راقصًا ماهرًا فحسب، وإنما بقدرته على التفاعل مع الموسيقى والسيطرة على حركات جسده. فنسبة السمع لديه كانت لا تتخطى الخمسة بالمائة، بعدما عانى من حالة صمم كاملة حتى سن الـخامسة عشرة، حينما خضع لعلاجات وتدريبات مكثّفة لدى اختصاصيين، ليستعيد حيزاً بسيطًا من السمع.

يقول: “أحبّ الرقص، ولدي موهبة على الرغم من أنّني أصم. لا أستطيع السّمع ولكن لدي إرادة قوية ستساعدني على الاستمرار”. تخرّج من معهد متخصّص للصّم في لبنان، حاصداً إجازة في التدريب على السمع والنطق. بعدها ولج عالم الرّقص ليتدرب على الّرقص الكلاسيكي بتمارين الباليه التّقليدي، و”الباليه جاز”. وشارك في العديد من المسرحيات مع المؤلف الموسيقي أسامة الرّحباني وكذلك مع فرقة كركلا للرقص الشعبي.

منذ سنوات سافر بيار جعجع إلى فرنسا، وبقي نحو 4 سنوات في مدينة مرسيليا متخصّصاً في الرقص والباليه، متدرباً على لغة الإشارة والسمع بواسطة النبرة. ويشير إلى أنه استطاع التوفيق بين الرقص المعاصر ولغة الإشارة الخاصة بالصم، “فأنا أرقص للجميع، إنما كل فرد قد يفهم رسالتي على طريقته.”

ينطلق بيار في الفضاء الذي يحيطه بكلّ رحابة من دون أدنى عقد، فحالته الخاصة جعلت منه فناناً متفاعلاً مع الطبيعة الحرّة غير المقيدة، مع السماء والماء، حفيف الشجر أو تراقص الزهر، في الانسجام إلى ابتسامة أو مشهدية معينة، فيطلق العنان لجسده، ولا يتورع عن الرقص المباشر أمام الجميع إذا ما أحسّ أنه يريد أن يفعل ذلك.

يستطيع أن يقرأ جيداً حركة الشفاه، متفاعلاً مع نبرة الصوت حينما يستخدم جهاز السمع، فيتحول إلى متلقٍ بنسبة 70 بالمئة، ويزيد ذلك إذا ما قرأ كلمات معينة لحدث يدور حوله، كالاستماع مثلاً إلى أغنية.

يعيش بيار اليوم، من خلال إعطاء دروس في الرقص التعبيري والباليه جاز وغيرها، في  صالة معهد متخصص في بيروت (مركز إيراب في عين عار). حلمه الأول أن يكوّن فرقة متخصصة من ذوي الصمم، تجوب المسارح لتقدم عروضها ورسالتها، ومنها المسارح العالمية، مدركاً أن ذلك يحتاج إلى قدرات مالية.

شارك بيار في أهم برنامج عربي للمواهب الشابّة “آراب غوت تالانت”، واستطاع أن يلفت اهتمام لجنة الحكم والجمهور العربي، ممّن صوتوا له لكي يصل إلى مرحلة التصفيات النهائية، وكان هذا إنجازاً مهمًّا بالنسبة له.

كذلك حقق هذا الراقص الأصم حلمًا كبيرًا بوقوفه منفردًا أمام جمهور كبير في العاصمة اللبنانية بيروت ليقدم عرضًا راقصًا من فكرته وتصميمه في العام 2017، مزج في خلاله بين الرقص المعاصر ولغة الإشارة بمشاركة موسيقية حيّة. وفي خلال نحو ساعة من الزمن جسّد بيار جعجع في عرض تحت مسمّى “اللغة الأم” كلّ هواجسه وأحلامه ومخاوفه، وسلط الضوء على علاقته الفريدة مع الصوت والإيقاع على خشبة “مسرح المدينة”.