الفنان إبراهيم مرزوق يستشهد مرّتين؟

كتب المايسترو نبيه الخطيب

إبراهيم مرزوق، الفنان التشكيليّ اللبنانيّ البيروتيّ الأصيل، المبدع رسماً وغناءً وعزفاً وثقافة وأخلاقاً وطيبة، كافَأه أبناء وطنه بقذيفةٍ مدفعية على باب فرنٍ في تلّة المقاصد ببيروت حيث كان ينتظر دوره ليبتاع ماتيسّر من الخبز لأهله ولأولاده الخمسة الصغار، نثرت جسده الطاهر، فالتحم بأشلاء أجساد العشرات من الشهداء الأبرياء والجرحى؛ كان ذلك في أوخر صيف 1975.

عرفت إبراهيم مرزوق في أوائل السبعينات وأصبحنا صديقين لا يفترقان. في النهار، إبراهيم يرسم ويغنّي الطرب الأصيل في مرسمه (atelier)، وأنا أعزف على عودي، وأغنّي معه وفي السهرات مع الأصدقاء، كنّا ثلاثيّ الطرب أنا وإبراهيم وأخي أبو علي حسين الخطيب (توفي 10/10/2020).

حينما استشهد إبراهيم، كان أباً لخمسة أولاد، كبيرهم من الصبيان هو أحمد، وكان عمره في حينه ثلاث سنوات. منذ حوالي عشرين سنة اتصل بي أحمد كي يدعوني لحضور أوّل معرض استعادة لوالده، ففرحت كثيراً وأحسست بأنّ أحمد شاب وفيّ بارّ بوالده. وبعد انتهاء المعرض غاب أحمد وغبت أنا في مشاغل الحياة.

منذ حوالي الشهر أو أكثر قليلاً، زارنا أحمد وزوجته مروى في منزلنا كي يعرض على سميّة بعلبكي أنْ تشارك غناءً في حفل تكريم والده إبراهيم مرزوق، بأغنية كلماتها قصيدة كتبها الشاعر الكبير محمود درويش بإبراهيم مرزوق بعد استشهاده، ويقوم بتلحينها الفنان الكبير المرهف الصديق أحمد قعبور. وافقت سميّة من دون تردّد في أن تقوم بهذا العمل وأن تسهم في تكريم الفنان إبراهيم مرزوق الذي لا تعرفه شخصياً، لأنّها كانت صغيرة حينما استشهد، ولكنها تعرفت إليه كفنان وكأنسان من خلال والدها الفنان التشكيلي الكبير عبد الحميد بعلبكي رحمه الله، وكذلك من خلال ما كنت أخبرها أنا عنه في خلال أحاديثنا، عن فنّه وغنائه وعزفه.

وكم كنت فرحاً عندما وعدني أحمد بأنّه منذ الآن وصاعداً سوف يقوم بتكريم سنويّ لإبراهيم من خلال معرض استعادي لأعماله وندوات وغيره، والبداية سوف تكون من خلال حفل التكريم الذي هو بصدد التحضير له لهذه السنة، فأحسست بأنّ إبراهيم سوف يُبعث بيننا من خلال أحمد.

ولكن………… للأسف عندما قرأت خبر وفاة أحمد مرزوق بسبب جائحة الكورونا أحسست بأنّ إبراهيم مرزوق أستشهد مرّتين في وطنٍ كلّنا فيه شهداء مع تأجيل الدفن..


عن المبدع إبراهيم مرزوق.. وحسين ماضي وموسى طيبا وأبو علي الخطيب

طلال سلمان: كان يا ما كان    06/10/2018

سيمرّ حين من الوقت قبل أن اكتشف أن عندي لوثة الاهتمام بالفنون عموماً، لا سيما منها الرسم والنحت والتصوير، وصولاً إلى “الكاريكاتور”.

وتصادف أن كان والدي الرقيب في الدرك رئيساً للدركي والد الفتى الذي سيغدو من كبار الرسامين في لبنان حسين ماضي.. ولقد جاء به إليّ، ذات يوم، وانا مدير للتحرير في مجلة “الاحد” لصاحبها المرحوم رياض طه، الذي أصدر معها جريدة “الكفاح العربي” اليومية، إضافة إلى امتلاكه “وكالة انباء الشرق” المحلية.

كان حسين ماضي، بعد، طالباً في معهد الفنون الجميلة القيّم عليه الكسي بطرس، وكان يقع بالقرب من مبنى اللعازارية في وسط بيروت، أي على مبعدة خطوات من مكاتب دار الكفاح في شارع منصور القريب..

بعد ايام جاء مع حسين ماضي بعض رفاق الدراسة، ومنهم مصطفى حيدر وحسين بدر الدين… ثم توسعت الدائرة فانضم إليهم بعض الخريجين ممن أتيحت لهم فرصة اكمال الدراسة العليا في بعض عواصم بلاد الغرب الجميلة، باريس ومدريد وروما الخ ومنهم ابراهيم مرزوق وحسن جوني ومنيرعيدو ومحمد الرواس وموسى طيبا.

كان الفنانون موهوبين ولكنهم بلا عمل وبلا دخل..

أما أنا فكنت “صاحب منصب رفيع” وصاحب راتب يصلني، نقداً كل شهر.. ومع أنّه كان متواضعاً قياساً إلى زملائي المتقدمين في المهنة، فانه كان يوفر لي الكفاية، والقدرة على استضافة بعض “الرفاق” من فناني المستقبل.

في بداية الشهر، وحين يأتيني واحد منهم، كنا نذهب إلى مطعم شهرزاد في شارع بشاره الخوري، فنطلب صحنين من الطبخ الشهي.. فاذا جاء بعضهم بعد العاشر من الشهر فكان واحدنا يكتفي بنصف صحن.. اما في العشرة الاواخر من الشهر فكنت أقدم لهم وجبة شهية من الكعك بالسمسم.

بعد حين سيتفرق الاحبة: سيسافر ابراهيم مرزوق إلى باريس وسيلحق به بعد حين موسى طيبا وحسن جوني إلى مدريد، وبعد فترة سيسافر حسين ماضي إلى روما، لإكمال الدراسة في اكاديميات الفنون الجميلة في البلاد السابقة إلى الاهتمام بالفنون عموماً، لا سيما الرسم والنحت وصولاً إلى التجريد..

ولسوف يتلاقى بعض هؤلاء الفنانين المفلسين في “منافيهم” المرفهة، ولسوف يتدبرون امورهم “بالتي هي أحسن” حتى يتخرجوا ويعودوا رسامين متميزين بالجدية وحب الناس وعشق الجمال.

*****

قبل السفر، ثم بعده، كنا قد اكتشفنا لدى ابراهيم مرزوق موهبة الذوق الفني الرفيع، وقدرته على غناء بعض روائع الطرب الأصيل..

وكان حسين ماضي قد عرفنا على ابن خاله حسين الخطيب، صاحب الصوت المطرب حقاً، وشقيقه عازف العود الممتاز نبيه الخطيب.

هكذا انتظم مجلس الانس والطرب الاصيل الذي سرعان ما انضم اليه “الزعيم” الفضل شلق.. ولسوف ينتظم الموهوبون في فرقة غنائية موسيقية ينضم اليها بعد حين صبحي توفيق وعلي ناصر.. ثم سمية بعلبكي، تمهيداً لاندماجهم معاً في فرقة طرب اصيل، سرعان ما تباشر حفلاتها في بيروت وبعض انحاء لبنان ثم في دار الاوبرا في القاهرة.

*****

على أن الكوارث كان تتربص بنا في الطريق،

وهكذا قضى المبدع ابراهيم مرزوق بصورة مفجعة.. وهو الذي علمنا الطرب الاصيل اضافة إلى فن الرسم بالفحم (وبالألوان) وكله جميل إلى حد الروعة.

كان ابراهيم قد استيقظ صباحاً، وقصد إلى الفرن القريب ليشتري خبزاً لأسرته..

كانت البلاد في حالة حرب بين الميليشيات الطائفية، بذريعة اخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان…وصارت بيروت، بضواحيها شرقاً وجنوباً، ساحة حرب، والقذائف تتساقط عشوائياً بقصد القتل، فلا توفر مستشفى او مستوصفاً او مدرسة او فرناً يوفر للناس قوت يومهم الا وقصفته.

كان طابور من المواطنين، رجالاً ونساء وفتية، يقفون امام باب “فرن الوفاء” في محلة ابي شاكر حين تساقطت قذائف المدفعية التابعة للجبهة اللبنانية على الجمهور، فانتثر الناس بين قتيل وجريح، وعز تدخل الاسعاف حتى قضى اغلب المصابين بعنوان الفنان المبدع رسماً ونحتاً ولحناً وغناء ورقة وانسانية، ابراهيم مرزوق؟

ولم يعرف معظمنا بالخبر المفجع الا بعد حين، ولا نحن استطعنا الذهاب لتقديم واجب العزاء لزوجته الجزائرية التي باتت ارملة، وبات اولادها ايتاماً، مع انهم ولدوا وتربوا على حب الناس والفن الجميل!

فليرحمنا الله!