دور أبي ذر الغفاري في تشيُّع جبل عامل

عبد المجيد زراقط*

تعدُّ قضيَّة نسبة تشيُّع جبل عامل الى دورٍ أدَّاه الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري (رض) من القضايا الخلافية بين المؤرِّخين، وتكاد تكون من المسلَّمات لدى كثير من عامة الناس، يتناقل التسليم بها الابن عن الأب، منذ قديم الزمان.

يمكن تصنيف الاَراء، في شأنها، في ثلاثة اتجاهات هي:

  1. القائل:  هذه النسبة صحيحة ، وأوَّل من دوَّن هذا الرأي الشيخ محمد بن الحسن، الحر العاملي (١٠٣٣ – ١١٠٤ هج/ ١٦٢٤- ١٦٩٣م.)، في كتابه: “أمل الاَمل…”، حيث كتب: “وفي زمن عثمان، لمَّا أخرج أبا ذر الى الشام، بقي أياماً، فتشيَّع جماعة كثيرة، ثم أخرجه معاوية الى القرى، فوقع في جبل عامل، فتشيَّعوا من ذلك اليوم”. وتبنَّى هذه المعلومة المؤرِّخ محمد جابر اَل صفا (ت. ١٩٤٥ م.)،  فكتب: “والتشيُّع، في جبل عامل قديم، من عهد الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري”، وأيَّده في هذا الرأي الشيخ أحمد رضا (ت. ١٩٥٤)، واَخرون.
  2. القائل: لا يوجد دليل تاريخي يؤيِّد صحة هذه النسبة، ومن القائلين بهذا الرأي  الشيخ جعفر المهاجر الذي عدَّها، في كتابه “التأسيس لتاريخ الشيعة في لبنان وسوريا”، “أسطورة”،  والشيخ علي حبَّ الله الذي ألَّف كتاباً في هذا الشأن سمَّاه ” أسطورة نسبة التشيُّع في جبل عامل الى أبي ذر الغفاري”.  والمقصود بالأسطورة، هنا، ليس معناها العلمي، وانما معناها المتداول شعبيا، أي أنها وليدة التخيُّل، وكثيرون غيرهما.

يعيد هؤلاء بداية تشيُّع جبل عامل الى “المدِّ الفاطمي”، الذي حدث سنة ٣٥٨ للهجرة.

3. الرأي القائل: لانقطع برأي نهائي، فيقول السيد محسن الأمين: “ان صحَّ أنَّ تشيُّع جبل عامل من زمن نفي أبي ذر الى الشام، لم يكن أسبق منهم الى التشيُّع سوى بعض أهل الحجاز”. ويقول نجله المؤرِّخ السيد حسن الأمين: “ليس لدينا مستند تاريخي، ليس لدينا الاَّ هذه الشهرة الموروثة عن أسلافنا”. وكان الشيخ محمد تقي الفقيه قد عدَّ هذه النسبة، في كتابه: “جبل عامل في التاريخ”، من المسلَّمات. ثم غيَّر رأيه بعد اطلاعه على كتاب نجله الشيخ محمد جواد الفقيه، الوارد في هامش الصفحة ٢٤، من طبعته الثانية.

يحتاج ترجيح رأي، من هذه الاَراء الثلاثة إلى أدلَّة يُعتدُّ بها.

في ما يأتي نحاول تقديم ما يتوافر لدينا من هذه الأدلَّة، ما يتيح لنا تقديم تصوُّر ينطلق منها، ويكون موضوعاً للتَّداول والنِّقاش.

وقبل ذلك، ينبغي أن نقرِّر أنَّ المقصود بالتشيُّع، اَنذاك، ليس التشيُّع المذهبي، وانما تأييد الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، والتشيُّع له ولنهجه ومعارضة السلطة الحاكمة في ذلك الزمن.

وهذه الأدلَّة هي:

  1. شيوع المعلومة وشهرتها وقِدَمها وتوارثها، لم يأتِ من فراغ، وان كان تخيُّلاً شعبيَّاً، فانَّه من البدهي أن يكون لهذا التخيَّل أصل واقعي صدر عنه.
  2. صحيح أنَّ رواية الحر العاملي، المذكورة اَنفاً، جاءت متأخِّرة، وصحيح أيضا أنَّه لم يؤيِّدها بسند تاريخي، لكنَّ الصحيح كذلك أنَّه أحد كبار العلماء المجتهدين،  و”شيخ المحدِّثين الثِّقة… الورع…” كما وُصف، و”قاضي قضاة خراسان”، و”شيخ الاسلام”، وصاحب أكبر موسوعة في الحديث الشريف: “وسائل الشيعة الى تحصيل مسائل الشريعة”، ورواياتها تُعتمد  مصدراً من مصادر التشريع.
  3. أبو ذر الغفاري (رض) صحابي جليل، عارض من منظور  اسلامي، نهج السلطة الحاكمة، وكان من شيعة الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام). السؤال الذي يُطرح هنا هو: هل كانت له علاقة بجبل عامل وسكانه تسوغ القول بأنهم تشيعوا، وبأنه أدَّى دوراً في تشيُّعهم، جعلهم ينسبون هذا التشيُّع اليه؟

للإجابة عن هذا السؤال، نقدِّم الوقائع الاَتية:

  • شارك أبو ذر (رض) في معركة اليرموك هو وعدد من الصحابة الذين كانوا من صحابة الامام علي (عليه السلام)، والمتشيِّعين له، ومنهم عمار بن ياسر والمقداد بن الأسود الكندي.
    • كان أبو ذر في عداد الجيش الذي فتح مدينة صور، وشارك في فتح بيت المقدس والجابية، وقبرص. هذه الحروب والفتوحات حدثت بين سنتي ١١ و٢٨ للهجرة. ألا يجعلنا هذا نفترض أن هذا الصحابي الثائر كان ينشط بين الجنود، وبين سكان تلك المناطق التي كان يمرُّ بها أو يقيم فيها، وخصوصاً أنَّ لدينا دليلاً يفيد أنَّه كان في الجيش ميل له. يقول علي أبو الحسن بن بطال (ت. ٤٤٩هج)، في “عمدة القارئ” للعيني: “انما كتب معاوية يشكو أبا ذر، لأنه كان كثير الاعتراض عليه والمنازعة له، وكان في جيشه ميل لأبي ذر” (الغدير، ٨/ ٤٥٦).  
    • نفى الخليفة عثمان بن عفان، في ما بعد، أبا ذر الى الشام، لأنه لم يعد يطيق نشاطه المعارض. وفي الشام واصل أبو ذر نشاطه، فضاق به معاوية ونفاه الى جبال عاملة (اعيان الشيعة، ٤/ ٢٣٨). ولما خشي معاوية نتائج نشاط الصحابي الثائر، المحبوب، في القرى، طلب من الخليفة أن يعيده الى المدينة كي لا يفسد عليه رعيته.
    • سأل أبو الأسود الدؤلي أبا ذر، عندما عاد هذا الى المدينة المنوَّرة: أين كنت؟ فأجابه: كنت في ثغر من ثغور المسلمين، وثغور المسلمين، اَنذاك هي: عكا وصور وعدلون والصرفند…
    • من البدهي أنَّ أبا ذر( رض) لم يكن ينشط وحيداً، ومن البدهي ايضاً أنه تمكن من أن يحظى بتأييد كثير من الناس، كان من بينهم أنصار ناشطون، وخصوصاً أنَّ جبل عامل كان، اَنذاك، مكاناً ملائماً لنجاح هذا النشاط..

تفيد هذه المعطيات أنَّ فرصاً أتيحت لأبي ذر (رض) أن يتصل بأبناء جبل عامل، وأن ينشط بينهم.

جبل عامل، في ذلك الزمن، كان منطقة جبلية حرجية، صعبة المسالك، بعيدة عن طرق المواصلات، ليس فيه أرض خصبة ولا ينابيع وأنهار، تثير الطمع به وتعل الناس يفضلون الاقامة فيه. وهذا يفيد أنه كان منطقة نائية يصعب العيش فيها، ولهذا كانت ملاذاً للخارجين على السلطان، ومنفى لمن يريد هذا السلطان أن يبعدهم عن الاتصال بالناس. منذ القديم جدا كان هذا. يقول د. يوسف الحوراني، في كتابه: “المجهول والمعلوم من تاريخ الجنوب اللبناني (جبل عامل) عن الخارجين على السلطان”، في زمن ما قبل الميلاد: “وهذه الملاجئ كانوا يجدونها بين اَكام لبنان الجنوبي وأوديته” (ص٣٣). ومن المعروف أنَّ الجليل كان ملجأ لتلامذة السيد المسيح، ومنهم وصيُّه شمعون الصفا. وفي التاريخ الاسلامي، يقول ياقوت الحموي: “كان من عادة معاوية أن يحبس في موضع من هذا الجبل مَن يظفر به ممَّن ينبز بقتل عثمان بن عفان”، ومن هؤلاء محمد بن أبي حذيفة وكريب بن أبرهة (راجع للتفصيل في هذا الشأن: معجم البلدان، ٢/ ١٥٨ وأسد الغابة، ٥/ ٨٧ ومراصد الاطلاع، ١/ ٣٤٤ و وتاج العروس، ٧/ ٣٦١). ويحدد ابن الأثير الجزري الموضع الذي لقي فيه محمد بن أبي حذيفة مصرعه بـ”جبل الجليل”، فيقول: “قال أبو نعيم: هو أحد من دخل على عثمان حين حوصر، وأُخذ بجبل الجليل، جبل لبنان”. وممن لجأ إلى جبل عامل من شيعة ذلك الزمن عبد الرحمن بن عديس البلوي، قتل في جبل عامل سنة ٣٦ للهجرة، في مكان ما زال يحمل اسمه الى اليوم، وهو قرية العديسة.

ولما كان جبل الجليل متصلا بجبل عامل، ويكوِّنان معاً منطقة واحدة، يمكن القول: إنَّ هذه المنطقة كانت، في اَونة مبكرة من التاريخ الاسلامي، مكاناً يقصده الشيعة، المطاردون من السلطة ليجدوا فيه ملاذاً لهم، كما أنَّ السلطة كانت تنفي الثائرين عليها اليها، ماجعلها ملاذاً معروفا ومقصوداً.

واستمر هذا طوال تاريخ هذا الجبل، ومن الأدلة على ذلك أن فرقة اسلامية شيعية  لجأت اليه، وأعطت المكان الذي لجأت اليه اسمها، ومازال يحمله الى اليوم، وهو قرية الزرارية التي تنسب الى فرقة زرارة بن أعين، صاحب الامام جعفر الصادق (ت. ١٤٨هج).

وفي زمن تال، يقول شيخ الربوة (وقد فرغ من تأليف كتابه سنة ٧٩٥للهجرة) : “وبه من حصون الدعوة التي يدعوها الملاحدة والباطنية والقرامطة…”. ومصطلحاته في وصف أصحاب الحصون تمثل رؤية أصحاب السلطان في ذلك الزمان. ويقول أبو الفداء، في تقويم البلدان: “وكان أهله عصاة، فبنى لهم أسامة حصن عجلون…”. ( راجع للتفصيل، في هذا الشأن: د. قيصر مصطفى، ص. ١٩ و٢٠ ).

وهذا يجيب عن السؤال الاَتي: لماذا انحسر التشيُّع، بعد زوال الدولة الفاطمية من معظم بلاد الشام، وبقي في جبل عامل؟

الجواب هو: بقي التشيُّع في جبل عامل، لأنَّ هذا الجبل كان الملاذ التاريخي الذي يصعب القضاء على ساكنيه لأسباب منها طبيعة المكان، ومنها طبيعة السكان، وممن لجأ اليه بعد زوال الدولة الفاطمية شيعة من سوريا ولبنان ومصر…، ومن كل مكان لم يعد العيش محتملاً فيه.

  1. كانت قبيلة عاملة تسكن هذا الجبل، ومنها اكتسب اسمه. يتحدث د. يوسف الحوراني عن هذه القبيلة فيقول، نقلا عن ابن الأثيروالطبري والمسعودي: اقترن ذكر قبيلة عاملة التي شغلت أرض الجنوب اللبناني بانتسابها للعماليق، وقد ورد اسمها في لوحة “نمرود”، باسم “عاملاتو” العائدة للقرن الثامن قبل الميلاد، ويقول: إنَّ “الزباء” من أهل بيت عاملة من العماليق… (راجع للمزيد: تاريخ الأمم والملوك للطبري، ١/ ٦١٧، والكامل لابن الأثير، ١/ ١٩٨، ومروج الذهب للمسعودي، ٢/ ٦٩). وهذا يؤيِّد ما ذهبنا اليه من مزايا سكان هذا الجبل. وفي الفتوح الاسلامية قاتلت بطون من عاملة مع الروم، وقاتلت بطون أخرى مع المسلمين، والبيِّن أنَّها لم تتخذ ابَّان الخلافة الأموية الموقع الذي اتخذته قبائل أخرى، مثل قبيلة كلب، مع أهميتها التي ذكرناها اَنفا، وهذا يفيد أن أبناءها أو بعضاً منهم كانوا مؤهلين لسماع الخطاب المعارض للسلطان وتأييد هذا الخطاب وأصحابه.
  2. مايؤيد نفي المعارضين  الذي تحدثنا عنه اَنفا، المعلومة الاَتية: أجلى معاوية  الزط والسيابجة الى بلاد الشام، وكان هؤلاء موالين للإمام علي (عليه السلام) (مجمع البحرين، ٢/ ٢٧٦).
  3. مايفيد بوجود شيعة في منطقة الجليل – جبل عامل رواية وردت في كتاب الفضائل لشاذان بن جوائيل القمي، مسندة الى عمار بن ياسر وزيد بن الأرقم مفادها: كان، في زمن خلافة الامام علي (عليه السلام) قرية في الشام، عند جبل الثلج، تسمى أسعار، موالية للإمام علي (عليه السلام)، وقد أتى وفد منها قوامه ألف فارس الى الكوفة (أحسن التقاسيم، ص. ١٤٠). ٧
  4. يوجد، في جبل عامل، مقامان ينسبان الى أبي ذر: أولهما في ساحله، في الصرفند، وثانيهما في جبله، في ميس الجبل. وهذان دليلان ماديّان يفيدان أنَّ تسمية كلٍّ منهما باسم أبي ذر دليل على وجود دور له في تشيُّع جبل عامل، والاَّ لمَ تمَّ اختيار هذا الصحابي، ولم يتم اختيار أحد الأئمة، أو أي صحابي اَخر، أو الخليفة المعزّ مثلا من الخلفاء الفاطميين، ان صدق القول بأنَّ تشيُّع جبل عامل فاطمي. ولمن يرى أنَّ طراز البناء مملوكي أو عثماني، فهذا يدلُّ على اهتمام الناس بالمقامين ومواصلة ترميمهما.

في ضوء ما سبق ، يمكن صوغ تصوُّر مفاده أنَّ الصحابي الجليل أبا ذر الغفاري (رض)، الثائر على السلطة الحاكمة، والمتشيِّع للإمام علي، والناشط في بث دعوته، أتيح له أن يتصل بنخبة من أبناء جبل عامل، وأن يعمل على نشر دعوته بينهم ومعهم، وقيِّض له نجاح في ذلك، فأقيم مقامان باسمه، أو مقامات بقي منها هذان المقامان، ونُسب تشيُّع أبناء هذه المنطقة اليه، وعُرف ذلك منذ ذلك الزمان وشُهر، وتناقله الناس جيلاً بعد جيل، وكان هذا معروفاً ومشهوراً في زمن الحر العاملي، فدوَّنه بوصفه حقيقة متداولة.    

*باحث وأديب وروائي            

18