جوزف شمعة عازف الصمت الرقيق

كتب مرسيل خليفة*

مرسيل خليفة والموسيقي عازف الكمان الراحل جوزف الشمعة

“كمان” جوزف شمعة

في أوائل الستينيات من القرن الماضي، انتقل الاستاذ “جوزف شمعة” من مصر إلى لبنان ودرّس في المعهد الموسيقي الوطني لمدة ٢٣ عاماً.

وأتذكّر كم سَهرَ أخي “أنطوان خليفة” على وقع حبر ملاحظاته، بعد ان انتقل من صف الاستاذ “يعقوب طاطيوس” وانفعاله وصراخه، إلى انحناءة وطيبة وهدوء الأستاذ الجديد .

في سنة ١٩٧٦ كتب “جوزف شمعة” متواليةً من عشرين لحناً لسلام الإنسان الداخلي، ووزعّت الكاسيتات في الصيدليات لراحة الأرواح من حروب طاحنة .

وبعد حين، حمل الأستاذ آلته وعائلته وهاجر إلى كاليفورنيا ليروّض نفسه على التحليق بعيداً، فأسّس في لوس أنجلس مجموعة موسيقى الحجرة، ولم يَخفْ من ضرورة الجنون الكامن في دواخله .

لم يكن لديه معجزات، لديه مخيلّة وأحلام. يعزف في البعيد لينطلق المستحيل ولئلاّ تضيع الشمعة وتنطفىء .

إنّي لأذكر يوماً عاصفاً في أيام الشتاء، وهطول مطر كثيف، التقينا فرقة كورال جامعة الروح القدس في الكسليك بمعيّة الأب “لويس الحاج” مع جمهور حاشد لا تسعه القاعة الصغيرة، ومن ثمّ سافرنا الى إيطاليا وبلجيكا والولايات المتحدة والمكسيك لإحياء ليالي موسيقيّة عامرة بالحب .

لم يكن يتقشّف في الحديث. كان يسترسل في الشرح والساعات تمضي وهو لا يشي بسرّه الخفيّ.

كان يشعرنا بالوّدْ، يردِّد قصصاً حقيقيّة ووهميّة ليكون العالم أجمل .

يحلم، يفكّر بصوت عالٍ وبلا سأم بمشاريع مستحيلة. يضع أمام تلاميذه كلّ قطوف كرومه العذبة وكلّ حصاد حياته وحناياه العاصفة .

هزمته الوحدة في أميركا وأمطرته بمائها ورمادها وأخرسته في آخر الأيام .

كتب فصول الإقامة والرحيل، وأفلت الموت من تأمّلاته ومضى بيدين عاريتين إلاّ من قوس الكمان .

يا عازف الصمت الرقيق، أعرف بأن الأيام عرقلت خُطاك بغبارها الخامل، ولكنّ نَفَسها المتقطّع نزل عليك لتنشر أشرعتك، متحدّياً العباب الهائج .

شكراً لبهجتك التي تسكن خلف حجاب الروح، وسوف أظلّ أسمعك في “قوس” أخي انطوان الفيّاض .

جوزف شمعة شكراً لك .

*الموسيقار مرسيل خليفة: مطرب وملحن ومؤلف موسيقي