سعدى تركت مولودتها لتُرْضِع بالأجرة في مصر.. هل قرأتم “مأساة الفلاحة المرضعة”؟

كتب شربل فارس*:

جدتي بألوان الباستيل (شربل فارس 1994)

جدتي: تحيتي  في عيد الأم

مأساة الفلاحة المُرضِعَة

“الدَقَّاقيَّة”، لُقِّبَ زوجها بالدقّاق وانسحب اللقب عليها لتصبح الدَقَّاقيَّة. هي جدتي لوالدي، وتدعى سعدى _أم أسعد_. وُلدت في مطلع القرن العشرين، ورحلت في نهاياته. من أصول فلاّحية، إذ كان والدها يعمل فلاّحًا في مزرعة “حمَيْلا” قرب بلدتها صربا لإقطاعيّ من آل الزين في جنوب لبنان.

نشأت سعدى وثلّة من أشقائها في المزرعة، حيث وزعهم صاحبها حسن أفندي على حقوله و”طرشياته”… منذ صغرها، كانت سعدى مشاغبة ومتمردة. لقّبوها بـ” سعدى السعدانة”. وعندما أصبحت “خَرج الزواج” ارتأوا تزويجها بإبن عمّها قزحيّا لِلَجمها وتدجينها…

مرضعات إلى مصر

جدتي على البيدر بالألوان الزيتية (شربل فارس 1987)

في عشرينيّات القرن الماضي، في موسم الهجرة من لبنان، كانت وِجهة سعدى الدَقَّاقيَّة وزميلاتها في القرية الى مصر، وتحديدًا مدينة الإسكندرية للعمل برتبة خادمات منزل. ولأنّ جدّتي كانت تتمتّع ببنية قويّة وبذكاء وحِنكة، وحسنة التدبير وسليطة اللسان والحيلة و… و لأنها، وهنا بيت القصيد، التحقت بالخدمة بصفة أمٍّ مرضعة تركت طفلتها “مريم” لحماتها أم قزحيا التي، بدورها، استبدلت كنّتها ببقرة حلوب لإرضاع الطفلة. وقد تمَّ اختيار جدّتي لتكون مرضعة لطفلة مولودة حديثًا للخواجا الإسكندراني “نادر”.

وهكذا تحوَّل ثدي الأم من ثغر طفلتها الى ثغر طفلة مدام “نادر”. مع مفارقة دراميّة تكمن في فصل ثدي المرضعة عن ثغر الرضيعة بما يشبه الإنبوب الزجاجيّ، إذ لا يجوز أن يلامس ثغرُ رضيعة من “علياء القوم” ثديَ فلاحة! ولأنّها مصدر الحليب للرضيعة كان لا بدّ من إيلاء اهتمام خاص بالمرضعة، لجهة مراقبة صحتها وطعامها و”نفسيتها” وراحتها البدنية، بالإضافة إلى زيادة راتبها والبخشيش…وخلال عام إزداد وزن سعدى الدَقَّاقيَّة، وبحليبها المدرار يزداد حجم ووزن الرضيعة وتبريكات الخواجا والسّت وكرمهما…

تركت سعدى الدَقَّاقيَّة طفلتها “حنّة” مع حماتها والتحقت بمنزل “آل نادر” تُرضع الطفلة “بولا”

وعند الفطام تمّ الإتفاق، مع جدّتي المرضعة، على أن تعود إلى وطنها، وسوف يعلمونها لاحقًا بتاريخ عودتها الى الإسكندرية، والتاريخ مرهون بِحَمَلِ الست ووضعها لمولود جديد. مع هذه السيرة تقتضي أن تحبل سعدى أيضًا، وتلد مع سيدتها في أوقات متقاربة، عندها تترك جدتي مولودها وتلتحق بمولود السّت في الإسكندرية. وهكذا كان، تركت سعدى الدَقَّاقيَّة طفلتها “حنّة” مع حماتها والتحقت بمنزل “آل نادر” تُرضع الطفلة “بولا”

مضى ثلاثة أشهر وسعدى تُرضع “بولا” وترسل الأموال لزوجها ليستكمل بناء البيت الحجريّ بسطح من الباطون، ويشتري أسهماً إضافية من مزرعة “حمَيْلا” لصاحبها حسن أفندي الزين. وحماتها أم قزحيّا تؤدي مهمّتها على أكمل وجه فتجعل من “حنّة” فلوًا يرضع من” بُزْ البقرة حنجولة” ولكن…

وعلى هذا المنوال حصل ما لم يكن في الحسبان: مرضت الرضيعة “حنّة” وقيل بسبب حليب البقرة، ضمر جسمها من إسهال واستفراغ شديدين، وأخذت تذوب مثل الشمعة لتموت جوعًا… وبالمقابل،إزدادت “بولا” صحةً ووزنًا بفضل حليب سعدى والدة “الرضيعة المظلومة حنة”

هي الكارثة التي قلبت حياة الدَقَّاقيَّة رأسًا على عقب. تركت آثارها النفسية المفجعة على حياتها… وعشيّة عودتها الى الوطن والبيت الجديد حلمت أنها تحاول نبش قبر طفلتها بأظافرها و هي تصرخ وتولول مكشوفة ومدرارة الثديين..

*فنّان رسّام ونحّات وكاتب

#وجوه_من_الذاكرة