ميخائيل نعيمة: أنطولوجيا الشعر اللبناني

 

ميخائيل نعيمة

1889-1988

شاعر وكاتب محاولات

كتابة وإعداد وتوثيق : أسعد الجبوري

من مواليد لبنان /في منطقة جبل صنين

ميخائيل نعيمة ولد في جبل صنين في لبنان عام 1889 وانهى دراسته المدرسية في مدرسة الجمعية الفلسطينية في بسكنتا وتبعها بخمس سنوات جامعية في بولتافيا الأوكرانية بين عامي 1905 و 1911 ، ثم اكمل دراسته في الولايات الامريكية المتحدة(منذ ديسمبر 1911) وحصل على الجنسية الامريكية . انضم إلى الرابطة القلمية وكان نائبا لجبران خليل جبران في الرابطة القلمية ،التي أسسها أدباء عرب في المهجر ، عاد إلى بسكنتا عام 1932 واتسع نشاطه الأدبي . لقّب ب”ناسك الشخروب” ، توفي عام 1988.

سنة 1914، نشر نعيمة مجموعته القصصية الأولى: “سنتها الجديدة، وهو في أمريكا، وفي العام التالي 1915، نشر قصة “العاقر” وانقطع على ما يبدو عن الكتابة القصصية حتى العام 1946 إلى أن صدرت قمة قصصه الموسومة بعنوان “مرداد” سنة 1952، وفيها الكثير من شخصه وفكره الفلسفي. وبعد ستة أعوام نشر سنة 1958 “أبو بطة”، التي صارت مرجعاً مدرسياً وجامعياً للأدب القصصي اللبناني/العربي النازع إلى العالمية، وكان في العام 1956 قد نشر مجموعة “أكابر” “التي يقال أنه وضعها مقابل كتاب النبي لجبران”.

سنة 1949 وضع نعيمة رواية وحيدة بعنوان “مذكرات الأرقش” بعد سلسلة من القصص والمقالات والأِشعار التي لا تبدو كافية للتعبير عن ذائقة نعيمة المتوسع في النقد الأدبي وفي أنواع الأدب الأخرى، والسؤال لماذا اكتفى الكاتب بهذا النموذج الروائي اليتيم، ربما وجد في القصصي والروائي نموذجا سردياً مشتركا، وسيكون الحال كذلك مع الأنواع الأدبية كالمسرح والشعر والسيرة .. فيما كانت المقالات والدراسات هي الطاغية، “22 عملاً من أصل 37”. “مسرحية الآباء والبنون” وضعها نعيمة سنة 1917، وهي عمله الثالث، بعد مجموعتين قصصيتين فلم يكتب ثانية في هذا الباب سوى مسرحية “أيوب” صادر/بيروت 1967. “مجموعته الشعرية الوحيدة همس الجفون” وضعها بالإنكليزية، وعربها محمد الصابغ سنة 1945، إلا أن الطبعة الخامسة من هذا الكتاب (نوفل/بيروت 1988) خلت من أية إشارة إلى المعرب.

سيرة ذاتية: بعنوان “سبعون” وضع قصة حياته في ثلاثة أجزاء ما بين عامي 1959 و 1960، ظنا منه أن السبعين هي آخر مطافه، ولكنه عاش حتى التاسعة والتسعين، وبذلك بقي عقدان من عمره خارج سيرته هذه.

تعريب: قام ميخائيل نعيمة بتعريب كتاب “النبي” لجبران، كما قام آخرون من بعده بتعريبه (مثل يوسف الخال، نشرة النهار)، فكانت نشرة نعيمة متأخرة جداً (سنة 1981)، وكانت شهرة (النبي) عربياً قد تجاوزت آفاق لبنان.

مختارات من ميخائيل نعيمة “جزء واحد” وأحاديث مع الصحافة “جزء واحد عام 1974”. في الدراسات والمقالات والنقد والرسائل وضع ميخائيل نعيمة ثقله التأليفي (22 كتاباً)، نوردها بتسلسلها الزمني:

“الغربال 1927، كان يا ماكان 1932، المراحل، دروب 1934، جبران خليل جبران 1936، زاد المعاد 1945، البيادر 1946، كرم على درب الأوثان 1948، صوت العالم 1949، النور والديجور 1953، في مهب الريح 1957، أبعد من موسكو ومن واشنطن 1963، اليوم الأخير 1965، هوامش 1972، في الغربال الجديد 1973، مقالات متفرقة، يابن آدم، نجوى الغروب 1974، رسائل، من وحي المسيح 1977، ومضات، شذور وأمثال، الجندي المجهول

سبع رسائل لأبن آدم … بقلم ميخائيل نعيمة

 

يا ابن آدم! تاريخك لم يُكتَب بعد. وهو لن يُكتَب حتى تكون لك المعرفةُ الكاملة. والمعرفة الكاملة هي معرفة ما كان، وما هو كائن، وما سيكون من أمرك مع الحياة، أُمِّك، ومع نفسك، ومع كلِّ منظور وغير منظور في الفضاء. فكلُّ ما كان يرتبط أوثق الارتباط بكلِّ ما هو كائن؛ وكلُّ ما هو كائن لا ينفصل أبدًا عن كلِّ ما سيكون. فلا أزلٌ من دون أبد؛ ولا أبدٌ من دون أزل. على ذاتها تدور قافلةُ الزمان؛ وأوَّلُها مقطورٌ أبدًا بآخِرها. كلُّ رفَّة جفن هي حلقة موصولة الأسباب والنتائج بما قبلها وبعدها من الحلقات في سلسلة الزمان اللامتناهية؛ ومعرفة السلسلة الكاملة هي المعرفة الكاملة. وقبل أن تكون لك تلك المعرفة فتاريخك حكاياتُ عجائز، وثرثراتُ أطفال، ودبيبُ نمل في الرمال.

يا ابن آدم! مغبوط أنت، وأي مغبوط! لقد أحبَّتْك الحياةُ – أمُّك – إلى حدِّ أنْ جهَّزتْك بكلِّ ما تحتاجه لبلوغ المعرفة. فهي ما ولدتْك لتتسلَّى بك، بل لتتجلَّى فيك. وهي تريدك أن تصبح مثلها: واعيًا كلَّ ما كان، وما هو كائن، وما سيكون؛ طليقًا من أحابيل الزمان وقيود المكان؛ مالكًا كلَّ شيء، وغير مملوك لشيء؛ شاملاً لا مشمولاً؛ خالقًا لا مخلوقًا؛ وفوق الخير والشرِّ. ولأنَّ طريق المعرفة طويل، طويل، وعسير، عسير، فقد أفسحتْ لك الحياةُ أقصى ما تحتاجه من الزمان لاجتيازه – حتى ملايين السنين – وجعلت اجتيازَه على مراحل. لكنَّك لَجوج، يا ابن آدم، وأي لَجوج! – وذلك هو شأن الأطفال والجهَّال في كلِّ زمان ومكان. فأنت تريد أن تختصر المراحلَ كلَّها في مرحلة واحدة، وأن تقفز إلى المعرفة الكاملة في خلال سنوات معدودات؛ وإذ لا تُدرِكها – وتدرك الموتَ الزؤام – تعود فتثور على الحياة، أمِّك، وتكفر بالنِّعَم التي أسبغتْها عليك، وتنسى أنها أحبَّتْك محبَّتَها لذاتها، وأنها جعَلتْ لك من الموت نهايةَ مرحلةٍ وبدايةَ مرحلةٍ في طريقك الطويل، العسير – وثورتك على أمِّك هي العقوق بعينه.

يا ابن آدم! حذارِ من الأُلفة – كأنْ تألف الأشياءَ، فلا تَدهَش لشيءٍ. كلُّ ما في الأرض وفوقها مدهش وعجيب – عجيب منتهى العجب! وقد تكون أنت – بجسدك وروحك – من أعجب ما في الكون. فحريٌّ بك أن تعيش في دهشة دائمة؛ وحريٌّ بدهشتك أن تفتح لك البابَ إلى قلب الحياة الفسيح. أمَّا متى فارقتْك الدهشةُ فقد فارقَك الأملُ بولوج قلب الحياة – وهكذا حكمتَ على نفسك بأن تبقى خارجًا، وتبقى غريبًا.

يا ابن آدم! لقد صرفَتْك الدهشةُ بأعمالك عن الدهشة بأعمال الحياة، أمِّك. وأعمالك – لو تدري – زبَدٌ متطايرٌ على وجه بحر حياتك، وأكبرها أصغر من أصغر أعمال الحياة. أفلا خفَّفتَ من خيلائك، ومن ادِّعائك، ومن كبريائك؟! أفلا تواضعتَ قليلاً، وطأطأتَ رأسك، وتخشَّعتَ، وتورَّعت؟!

يا ابن آدم! إن دنيا أوَّلُها مَهدٌ وآخِرُها لحد لدنيا تهزأ بمُلك الملوك، وقوَّة الأقوياءِ، وعظمة العظماءِ، وثروة الأثرياءِ، وعِلم العلماءِ، ولا تميِّز بين الخاصَّة والدهماءِ. وإنها لتسخر من خصومات الناس – لا فرق بين كبيرها وصغيرها. وهل أدعى إلى الشفقة من جماعة محكوم عليهم بالإعدام يتشاجرون ويتناحرون في سبيل النَّطع الذي عليه سيُعدَمون، أو الحبل الذي به سيُشنَقون، أو اللَّحد الذي فيه سيُلحَدون؟! – وكان حريًّا بهم أن يتصافحوا، ويتعانقوا، ويتعاونوا، لعلَّهم إلى النجاة يهتدون.

يا ابن آدم! لَئن سلكتَ مسالكَ النجوم في أبراجها، والرياحَ في أجوائها، والحيتانَ في بحارها؛ لَئن ملأتَ أهراءَك بالخيرات، ودماغَك بالأرقام والمعادلات، وأترعتَ عينيك وأذنيك بمختلف المغريات، وأطلتَ عمركَ حتى الألف والألفين، لن تزيد مثقال ذرَّة في هنائك، ولن تخفِّف مثقال ذرَّة من شقائك، مادُمتَ عرضةً للخوف من أيِّ شيء، ومادُمتَ تفرح وتحزن، وتغضب وترضى، وتحبُّ وتكره، وتنخدع وتَخدع، وتجوع وتشبع، وتَحسُد وتُحسَد، وتقنع وتطمع، ثم تنتهي بأن تردَّ النفَسَ في صدرك إلى الفضاء الذي منه جاءَ. وستبقى حالُك كذلك مع الحياة، أمِّك، إلى أن تعود فتعترف في قرارة نفسك بأنها الأمُّ المُحِبَّة، وأنك الطفل الحبيب، وأنها المسؤولة عنك، لا أنت عنها – لعلَّك إذ ذاك تكفُّ عن رعونتك، فلا تحاول تسييرها حسب إرادتك، بل تسايرها حسب إرادتها. فإرادتها إرادة العارف كلَّ شيء، وإرادتك إرادة الجاهل كلَّ شيء. وإرادة العارف هي وحدها الإرادة المبصرة؛ أمَّا إرادة الجاهل فإرادة عمياءُ، وهي وبالٌ على صاحبها، وأي وبال! ولأنك جاهل، يا ابن آدم، فإرادتك وبالٌ عليك، ولا خلاص لك منها إلا بالتنازل عنها ريثما تبلغ سنَّ الرشد – رشد الحياة الواعية، الشاملة، الكاملة، لا رشد الإنسان المصفَّد بأصفاد اللحم والدم، والزمان والمكان، والخير والشرِّ. وعندئذٍ تصبح إرادةُ أمِّك إرادتَك.

يا ابن آدم! حيث الموت بالمرصاد لكلِّ ما يولد وينمو، ولكلِّ ما تصنعه يداك، ويعتزُّ به عقلك، وتضحك أو تدمع له عيناك، جدير بك أن تفتِّش عمَّا لا يموت – حتى إذا اهتديتَ إليه تمسَّكتَ به تمسُّك الغريق بخشبة النجاة، وتمسُّك الأعمى بذيل دليله. الحياة لا تموت، المحبة لا تموت، الضمير لا يموت، الإيمان لا يموت، والذات التي هي أنت لا تموت – حتى وإنْ ذابت في النهاية في ذات أمِّك الحياة… ففي ذوبانها حياتُها.

 

ميخائيل نعيمة بشخصه جمع بين الشعر والنقد والرواية والمسرح ، إلا انه تميز في مجالي الشعر والنقد ، وكان فنه ولا سيما شعره صدى مخلصا لتصوراته النقدية ،ونقده دفاعا متواصلا عن المثال الأدبي الذي ارتأى فيه التحقق الجمالي . وكان يمتلك روحا تأمليَّة ظهرت بدرجات متفاوتة في شعره ومقالاته وفي رؤيته النقدية. ومن سمات شعره التجديد، وتنوع القوافي، وعدم التعويل على العروض الشعري – بالشكل المألوف – ومن خلال طرح المعاني الانسانية، والمشاعر المتصلة “بالانسان”. .. ان من يقرأ شعر نعيمة مثل قوله: يخاطب”اوراق الخريف”:

عودي إلى حضن الثرى…. وجددي العهود وانسي جمالاً قد ذوى… ما كان لن يعود كم ازهرت من قبلك.. وكم ذوت ورود.. .. فلا تخافي ما جرى… .. من قد اضاع الجوهرا .. يلقاه في اللحود. .. عودي إلى حضن الثرى….

… هذا المقطع بما يتضمنه من لغة شعرية منسابة وتجديد في النمط او التشكيل الشعري يحمل فكرة فلسفية تتصل بالحياة والموت او الوجود والعدم…. ومن يقرأ قوله في قصيدته الشهيرة “لست اخشى”:

– سقف بيتي حديد – ركن بيتي حجر – فاعصفي يارياح – وانتحب يا شجر – واسبحي يا غيوم — واهطلي بالمطر – واقصفي يا رعود – لست اخشى الخطر – فاختفي يا نجوم – وانطفىء يا قمر – من سراجي الضئيل – استمد البصر…

الى اخر القصيدة التي تعكس روح التجديد الشعري، وملمح ميخائيل نعيمة التشكيلي الذي يتميز “بقصر المقطع” وسرعة الايقاع، وتدفق الشعور فضلاً عن صلابة الموقف الحياتي بازاء صروف الحياة… هذه الصلابة التي ميزت قلم ميخائيل نعيمة بعد ذلك في النقد وفن الكتابة بعامة.. وفي قصيدته “يابحر” التي يخاطب فيها البحر:

– اما تعبت؟ عجيج – كرٌّ، ففرٌّ، فكرُّ.؟ – ماذا تروم وأنى – تسير لا تستقر..؟ – كأنما فيك مثلي – قلبان: عبد وحر – هذا يروم فراراً – من ذا وليس مفر. – يا بحر يا بحر قل لي – هل فيك خير وشر؟ – هل في سكونك أمن – وفي هياجك ذعر.؟ – ام في امتدادك يسر – وفي انقباضك عسر.؟ – وفي انخفاضك ذل – وفي ارتفاعك فخر.؟ – وفي سكونك حزن – وفي هديرك بشر. – وقفت والليل داج – والبحر كر وفر. – فلم يجبني بحر – ولم يجبني بر. – وعندما شاب ليلي – وكحل الافق فجر – سمعت نهراً يغني: “في الكون طى ونشر. – في الناس خير وشر – في البحر مد وجزر…

وتبدو القصيدة السابقة حاملة لنهج ميخائيل نعيمة الشعري: قصر المقاطع، الاتكاء علي السؤال.. الثنائية… تلقائية السياق الشعري وانسيابيته.. كل ذلك مع الانطلاق- اصلاً – من المفهوم الفلسفي التأملي، وجعل البحر طرفاً آخر في الخطاب الشعري او الحوارية الشعرية..!

http://ar.wikipedia.org/wiki/

ببلوغرافيا:

  • همس الجفون .
  • البيادر .
  • كان ما كان .
  • الأوثان .
  • سبعون .
  • المراحل.
  • كرم على درب.
  • مذكرات الأرقش.
  • مسرحية الآباء والبنون.
  • مرداد.
  • أيوب.
  • جبران خليل جبران.
  • اليوم الأخير.
  • في مهب الريح.
  • هوامش.
  • دروب.
  • أكابر.
  • أبو بطة.
  • أبعد من موسكو ومن واشنطن.
  • صوت العالم.
  • النور والديجور.

ماكتب عنه:

هل اقتصر نتاج ميخائيل نعيمة على النقد الأدبي والشعر والرواية وغيرها من الألوان الأدبية ؟ أم أنه كتب أدبا سياسيا كما فعل أمين الريحاني؟

وهل اقتصر نشاط ميخائيل نعيمة على “الرابطة القلمية” التي تأسست في نيويورك إبان الحرب العالمية الأولى وكانت جمعية أدبية لا علاقة مباشرة لها بالسياسة أم أنه اشترك في تأسيس جمعيات وأحزاب سياسية أو انخرط في بعض ما هو مؤسس منها، كما فعل جبران خليل جبران؟

 

وإذا كان نعيمة قد مارس الحياة السياسية والحزبية وكتب وخطب في السياسة، فما هي مبادئ الايديولوجيا التي اعتنقها وحاول بالقلم والجهاد تحقيقها؟

لو ارتكز الباحث على ما أورده نعيمة في كتبه المنشورة وبخاصة مذكراته التي يحتضنها كتابه “سبعون” وعلى ما كتبه عنه الآخرون من كتب وأطروحات ودراسات.. لجاء الجواب ان جهاد نعيمة عبر المؤسسات تمحور على الرابطة القلمية وبقي في إطار النقد والابداع الأدبيين، وان نتاجه اقتصر على بعض الألوان الأدبية وبخاصة النقد، وإذا تخطى الأدب، أحيانا، كما في “مرداد” فليقوم برحلة فلسفية ميتافيزيقية. وبالطبع، يجد الباحث في مذكرات نعيمة وبعض كتاباته الاجتماعية ملامح سياسية. ولكن ذلك لا يصنف صاحبه سياسيا، إذ لابد من أن تنطوي معظم الكتابات الأدبية لكل الكتاب على بعض الآراء السياسية، نظرا لتداخل السياسة في كل الألوان الأدبية، وبذلك لا يشذ نعيمة عن القاعدة، باعتباره أن الأدباء يلونون، مداورة، نتاجهم بخطوط سياسية عريضة.

أما إذا لم يكتف الباحث بما كتبه نعيمة عن نفسه وما كتبه الآخرون عنه، فإنه يفاجأ بنتاج سياسي لناسك الشخروب ينطلق من ايديولوجية محددة هي لسان حال جمعيتين سياسيتين احداهما سرية والأخرى علنية.

لم تكن كتابات نعيمة ونضاله من أجل وحدة سورية (1) واستقلالها مسألة عابرة. فقد استمر نعيمة في التنظير لسورية والعمل من أجلها، طوال سبع سنوات (2)، إلا أن تعديلا طرأ على فكره السياسي من غير أن ينال مباديء عقيدته الأساسية. فبعد أن كان يرفض الحماية أو الوصاية على سورية، ويرد بعنف على الذين كانوا مؤمنين بها أمثال أمين مشرف (3).. صار هو أيضا يقول بها ولو بحماس أقل من الآخرين، وربما يعود ذلك الى عضويته ومسؤوليته فى لجنة تحرير سورية وجبل لبنان (4) التي وافقت على وصاية دولة أجنبية على سورية، وهي فرنسا بالتحديد.

خلال الحرب، تنبه بعض القادة السوريين في أوروبا وأمريكا الشمالية الى أهمية اشتراك مواطنيهم في القتال، عبر جيش أو فيلق مستقل، حتى إذا حل السلام، وكان النصر لصالحهم، توافرت لهم حصة من قسمة المغانم، وهي الحصة المشروعة المتمثلة بوطن موحد ولو تحت الوصاية الأجنبية المؤقتة والمحدودة. لعل أكثر المتنبهين لذلك هم أركان “لجنة تحرير سورية وجبل لبنان” في نيويورك و”الجمعية السورية المركزية” بزعامة شكري غانم في باريس. ويعود الفضل في تنبه لجنة التحرير النيويوركية الى الأديب المجاهد أمين الريحاني.

أفسحت قيادة الجيشين الأمريكي والفرنسي في المجال للمغتربين السوريين للتطوح عبر فيلق خاص بهم وتابع للجيش الفرنسي أو الأمريكي. سارع أعضاء اللجنة الى حث أبناء الجاليات السورية في القارة الأمريكية للقيام بواجب تحرير الوطن من الأتراك الذين احتلوه طيلة أربعمائة سنة، كانت التلبية متواضعة جدا. ولكن لجنة التحرير كانت قدوة في التطوع، ليس فقط بالنسبة للموا طنين، بل أيضا وأولا، للجمعيات والأحزاب المماثلة لها في أوروبا وأمريكا ومصر. ذلك ان أحد مؤسسيها شكري البخاش (5) قد سارح الى الالتحاق بفيلق الشرق.

أما نعيمة، فقد التحق بالجيش الأمريكي رغم أن العديد من أمثاله قد أحجموا عن الالتحاق على حد تأكيده. وهو فعل ذلك لأنه يرغب في المساهمة في تحرير وطنه. وفور تجنيده، انتقل الى أحد مواقع القتال في فرنسا حيث بقي هناك حتى نهاية الحرب.

كان نعيمة في المتراس حين كتب الى إدارة تحرير الفتاة مقالا بعنوان “تأملات متطوع” (7). فلنعد قراءة هذا المقال لأنه ينطوي على مبادي0كاتبه السياسية في:لك الوقت. يستهل نعيمة المقال بالقول: “انا مجنون لأني لم انكر سوريتي.. ولآني وجدت نفسي شريدا غريبا مهابا وأدركت أنني فقدت وطني فقمت أبحث عنه لاسترده”. يضيف: “يقولون لي من هي سوريا لنحارب من أجلها؟ وما هو الشعب السوري ؟” وبالطبع لم يجب نعيمة على سؤالهم بالشكل الذي ضمنه الحاشية في كتابه “سبعون”: “ان سوريا هي القطر الأكبر من الأقطار الثلاثة: لبنان وسوريا وفلسطين”. بل هو رد على الذين اتهموه بالجنون من السوريين باتهامه اياهم بالجبن لأنهم يخافون أن يحاربوا من أجل سورية كما يفعل هو، رغم انهم “سيكونون من أول من يعودون الى سوريا إذا تحررت ولو بدم غيرهم”. ويقول: “لكن ما لي ولهم ! أنا فقدت وطني – وأدركت أني فقدته فجئت أسترده. وهم فقدوا وطنهم ولا يدركون انهم فقدوه. لذلك يتفلسفون. يقولون أني أنشد حلما. وهذا الحلم لو دروا، هو كل حياتي” ويعتبر نعيمة ان ما يقوم به هو بمثابة “ولادة ثانية”، لماذا؟ “لأني أدركت لأول مرة في حياتي اني من أمة”.

ويرفض نعيمة رأي اليائسين الذين يعتبرون ان سورية “جسم مركب من علل وعاهات لا أمل بشفائها”. صحيح ان الأمراض الاجتماعية متفشية في جزء من السوريين، ولكنه “السوري الذي أؤمن به انما هو غير السوري الذي يتبجح بمعارفه الأدبية وحنكته السياسية وفلسفته الاجتماعية. هو السوري الذي حرث أرض سوريا أجيالا ليغذيهم ويغذيني ويأكل خبزه بعرق جبينه،ولم يقف مرة على المنابر ليقول لاخوانه السوريين: كلكم فاسدون إلا أنا”. والسوري الذي يؤمن به نعيمة هو الذي “استعبد أجيالا ولم يفقد عزة النفس ولا أصبح عبدا مملوكا. هو السوري الذي لو حل بالجبال ما حل به لدكت الجبال” بل إن ايمانه بمواطنه الوطني الشريف لا يحد: “أنا أرضى بهذا السوري أخا وأبا ورفيقا وجارا. بل لا أرضى بسواه من كل شعوب الأرض، لأني أعرفه وهم لا يعرفونه”. ونعيمة أيضا لا يرضى بغير وطنه بديلا، رغم أنه محتل، ورغم انه -أي نعيمة – يعيش في العالم الجديد: د«فقدت وطني وأنا لا أقدر أن أعيش بدون وطن لأني أرى أمم الأرض كلها قامت تدافع عن أوطانها فقمت أنا كذلك أسعى في استرداد وطني من يد من سلبوني اياه”.

ويختم نعيمة تأملاته بالرد على من اتهمه بالجنون من مواطنيه “اذا مت وعلمتم بموتي وبقيت سوريا تحت أقدام مستعبديها فأحلفكم بالله الا تذكروني بشفاهكم والا تلفظوا اسمي بالسنتكم، واذا انعتقت سوريا بعد موتي من نير ظلامها فسيروا الى وطنكم الحر ولا تذكروني. فأنا قد أرقت دم حياتي لأجل من كان مثلكم يحب الحرية ويضن أن يدفع ثمنها ولو قطرة من الدم “.

عاد نعيمة الى نيويورك بعد انتهاء الحرب فأقامت “لجنة تحرير سورية وجبل لبنان ” له ولبعض المتطوعين الذين عادوا معه، حفلة خطابية تكريمية، وكان بين الخطباء نعيمة نفسه الذي قال في سياق كلمته: “نعم لبيت دعوة أمريكا. لكنني بين سطور تلك الدعوة، قرأت دعوة بلاد أخرى، دعوة سوريا. ولا أظنني مغاليا، إذا قلت ان كل سور ي انخرط في الجيش الأمريكي قد انخرط وسوريا نصب عينيه. وليس في ذلك خيانة نحو أمريكا أو نكران لجميلها. وأية خيانة في أن يخدم الانسان أبده والمحسن اليه في وقت واحد”؟

ولفت الخطيب نظر سامعيه الى أن قادة الجيش الذي كان متطوعا فيه قد اعتبروه “حيوانا يساق بالسوط” ولكنه بالمقابل اعتبر نفسه “مجاهدا” في سبيل مبدئه أو مدافعا عن وطن” لذلك حين كان يفقد أحيانا ايمانه وأمله، يسارع الى تذكير نفسه “بسوريا، فتعود اليها القوة وتعود اليه الإرادة”.

وختم نعيمة كلمته بالقول أنه كجندي في تلك الحرب الطاحنة كانت له تعزية حقيقية “وما تلك التعزية إلا أمله بأنه بعدما تنقشع غيوم الحرب سيجد لذاته وطنا حرا بين الأوطان الحرة، وذلك الوطن هو سوريا” (8).

تلك هي آراء ميخائيل نعيمة الوطنية والمبدئية ازاء سورية و شعبها. فما هي آراؤه الساسية في الموضوع نفسه ؟ في مستهل مقالته “راحت السكرة وجاءت الفكرة” التي احتلت الصفحة الأولى بكاملها من جريدة “السائح” قال نعيمة: “لقد قضى الأمر وتم المنتظر. وتقرر مصير سورية، لا في مكة ولا في الشام ولا في بيروت، بل في مؤتمر السلم الذي أخذ على عاتقه تسوية المشاكل العالمية التي ولدتها الحرب.وكأن الأقدار قد شاءت أن تفسح للسوريين مجالا ليميطوا النقاب عن وجههم الحقيقي، فأطلقت سراحهم من السجن التركي، وتركتهم لأكثر من سنة ونصف السنة (9) أحرارا يقولون ما يشاؤون ويسيرون مع أميالهم وعواطفهم فإلى أين ساقتهم تلك الأميال ؟ وماذا انتجت تلك العواطف”؟

وفي إجابته على السؤال، يتطرق نعيمة الى علة علل سورية أي الطائفية فيقول: “منذ وضعت الحرب أوزارها حتى اليوم، ونحن نقدم للعالم برهانا تلو الآخر على عدم أمليتنا لإدارة شؤوننا بأنفسنا. وقد كانت براهيننا من هذا القبيل دامغة مقنعة لا تحتمل   الرد ولا الشك. أولم نقل للعالم بأننا قوم لا نعرف للوطنية معنى؟ أو لم نر العالم أن الوطنية الوحيدة التي نفهمها هي وطنية الجامع والكنيسة والخلوة والكنيس ؟ أولم نظهر أمام الغريب والقريب كقطع من الذئاب لا يامن واحدنا جانب الأخر؟”

وينتقل نعيمة الى نقطة أخرى كانت مدار خلاف السوريين وهي هوية الدولة التي ستكون وصية على سورية. طبعا كانت أسماء أمريكا وانجلترا متداولة بين السوريين. وكانت المملكة العربية بقيادة الشريف حسرن قبلة أنظار بعض السوريين قبل أن ينعقد المؤتمر السوري العام (10) ويصوت المؤتمرون على مبدأ استقلال سورية بوحدتها الطبيعية.

هنا خاطب نعيمة سوريي أمريكا بهذا الكلام الواقعي الدقيق: “من كان منا يطلب أمريكا لبلاده عن اخلاص أو غير اخلاص، فعليه اليوم أن يترك أمريكا وشأنها، وأن يسعى لوحدة سوريا بمشاركة الدولة التي انتدبها مؤتمر الدول”. وهو يشارك جبران في تكرار معلومة عدم قابلية الولايات المتحدة على قبول وصايتها على سورية.

وقال نعيمة للمنادين بالوصاية البريطانية: “من كان منا ينادي بانجلترا كوصية على سوريا فعليه، إن لان مخلصا في حبه لسوريا أن يقلع عن انجلترا أو أن يعمل على فببل أمة من العناصر التي تضمها حدود سوريا”.

وردد نعيمة الرأي السلبي نفسه حيال الشريف حسين ونجله فيصل: “من كان منا يهلل للعرب ويحلم بتجديد مجد العرب في الجزيرة وسوريا، فليترك العرب يجددون مجدهم في بلادهم. أما في سوريا فليسع لتجديد مجد سوريا.”.

ويتحول النهج السلبي الى ذروة الايجابية عندما يأتي دور فرنسا في الوصاية: “من كان يسعى لبسط الوصاية الفرنسية فوق تخوم سورية” فقد تحقق حلمه أو هدفه، ولذلك بات من واجبه أن “لا يشمت بإخوانه الذين حلموا حلما في ر حلمه ولم يتحقق”. ويشدد الكاتب هنا على أن المخلص اليوم من مد يده لخصمه قبل أن يمد خصمه يده اليه وقال له: تعال يا أخي فالحقل واسع والعمل كثير والعاملون قليلون: في قلبك حزازات مني، وفي قلبي حزازات منك، فلنطرحها خارجا”.

ولكن واقعية نعيمة قد أعطت صورة سلبية لواقع بلاده، ليس فقط بسبب مؤتمر الصلح الذي جزأ سورية وفق معاهدة سايكس بيكو، بل أيضا لأنها “بلاد كلها رؤوس ولا رأس لها”. وردا على الواقع الزري طالب نعيمة ببروز “السياسي المخلص الى ميدان العمل، فاليوم يومه”.

ولكن، إذا كان نعيمة يرفض تجزئة سورية، فهو لا يقبل في الوقت نفسه، بدمجها في كيان عربي، ويرد على السوريين الذين يعتبرون أنفسهم عربا لأنهم يتكلمون العربية، فيؤكد لهم ان “الأمريكي انجليزي الأصل واللفة، وانفصاله عن الأمة الانجليزية حديث العهد بالنسبة لانفصال السوري عن العربي، لكنه امريكي لا انجليزي وأكبر إهانة توجهها الى أمريكي هي أن تدعوه انجليزيا”. يضيف أن قسما كبيرا من أهل البلجيك فرنسيو الأصل واللغة والدين، فهل سمعت بلجيكيا يقول بأنه فرنسي:؟ والبلجيك متاخمة لفرنسا قريبة منها بكل شيء. أما سوريا فبينها وبين الحجاز والعراق بواد شاسعة وبين أملها وأهلهما ألف فرق وفرق” (11).

طبعا، هناك مجال واسع للرد على ووصاية فرنسا على الأخص. والردود التي حفلت بها دوريات هاتيك الأعوام أكبر من أن يستوعبها كمبيوتر. نعوم مكرزل صاحب “الهدى” كان ينادي بالوصاية الفرنسية ولكن على الكيان اللبناني فقط. والأمير ميشيل لطف الله والامام محمد رشيد رضا آثرا الوصاية البريطانية. والدكتور خليل سعادة صاحب جريدة “الجريدة” ومجلة “المجلة” ورئيس الحزب الوطني الديمقراطي في البرازيل كان من دعاة الاستقلال التام لأن الاستقلال مع البداوة خير من الاحتلال مع الحضارة. ولكن الرد الأبلغ والأطرف هو الذي دبجه نعيمة نفسه قبل خمس سنوات في إطار حوار تصادمي مع رفيقه في الرابطة القلمية أمين مشرف. فتحت عنوان “حقوق الضعيف” نقرأ لنعيمة ما يلي: “السياسة الأوروبية تجيبك ان مراكش ومصر والهند لم تتعلم بعد أصول الإدارة الذاتية، وإنها حالما تدرك هذا الفن، وتصبح قادرة على الدفاع عن نفسها، تنجلي عنها القوة الأجنبية وتتركها تدبر أحوالها بذاتها”. وفي معرض رفض المقولة يتساءل الكاتب: “متى تصبح مصر مثلا قادرة على الدفاع عن كيانها السياسي وادارة نفسها؟” ويأتي جوابه: “الشعوب الكبيرة تقول للشعوب الصغيرة الخاضعة لها: أنت أيها الشعب الفلاني لا تزال كالطفل لا تحسن المشي.. وسوف لا أدعك تمشي وحدك حتى تتقن المشي جيدا! وبربكم كيف يتعلم الطفل المشي إذا لم تدعوا يمشي، فيقع مرة ويقوم ويقع مرة أخرى ويقوم. فيجرح هنا رأسه وهناك أنفه، لكنه يتعلم المشي بعد كل هذه التجارب”.

هنا يروي نعيمة حادثة طريفة دعما لرأيه وتسفيها ساخرا للرأي المعاكس: “يروي اللورد مكولي في مقالته عن الشاعر ملتون فكاهة وخلاصتها أن مجنونا أحب أن يتعلم السباحة، لكنه قرر في نفسه الا يدخل الماء حتى يكون قد أتقن كل أبواب الفن. فإذا قدرتم أن تتصوروا رجلا تعلم السباحة قبل أن يخوض الماء، فربما أمكنكم أن تروا شعبا تعلم إدارة نفسه قبل أن يعطي فرصة للتجربة والامتحان”.

رد أمين مشرف على نعيمة الذي رد على الرد حيث قال: “هل لسوريا الضعيفة حقوق بين أقوياء هذه الأرض ؟” الأخ مشرف لا يتردد في الجواب على السؤال نفيا، ويتوصل الى ذاك بطريق مصر، فيرينا أن (مصر الطفلة) لا تقدر أن تمشي وحدها. ومن ذاك يستخلص أن سوريا لا تقدر على ذلك أن سوريا لا تقدر على ذلك أيضا فيسأل سوريا ومصر شقيقتين ؟ ثم يجيب: نعم ويمشي كأن الأمر حقيقة جالية مثل 2×2=4 ومع أني أخالفه في ذلك – لأن شعب سوريا ليس شعب مصر، ولا تاريخ الأولى تاريخ الثانية – أترك هذه المسألة، لأنها ليست حيوية للبحث الذي نحن بصدده. إذا حصرت كلامي في مصر، فلا يخطرن لأحد اني مصري أو انتسب الى الحزب الوطني. فأنا سوري قبل كل شيء (12).

وفي الحلقة الثانية من رده، قال نعيمة: “إذا تعذر استقلال سوريا السياسي – وذاك يقارب المستحيل في هذه الأيام – أفمن الواجب أن ننكر ما لها من الحقوق الأدبية والاجتماعية ؟ أمن الواجب إذا كنا ضعفاء عن مقاومة القوي أن نسلم بقوله أن لاحق في العائم سوى القوة، ولا عدل سوى البطش ؟ أنا أفاخر بأني ابن أمة قوية تقدر أن تتجاهر بقولها” (13).

والسؤال الآن: إذا كانت “لجنة تحرير سورية وجبل لبنان” وراء التغيير الذي طرأ على مفهوم نعيمة السياسي حيال الاستقلال المطلق أو المقرون بالوصاية الأجنبية.. فهل ثمة جمعية سياسية أخرى كانت وراء إقناعه برفض أية علاقة لسورية المستقلة يمكن أن تنتقص من استقلالها؟ أجل، هناك جمعية سرية تدعي “سورية الحرة” كان نعيمة عضوا ومسؤولا في هيأتها القيادية. ولا بأس من القاء ضوء سريع على الجمعية ونعيمة معا.

إذا كان جبران خليل جبران هو العمود الفقري لجمعية الحلقات الذهبية (14)، فإن ميخائيل نعيمة كان أحد أقطاب جمعية “سورية الحرة” ورئيسها لفترة معينة..مع فارق وهو أن الأول كان مؤسس “الحلقات الذهبية”، في حين انضم الثاني الى “سورية الحرة” بعد تأسيسها بسنوات قليلة ؟

وبالمناسبة متى تأسست جمعية “سورية الحرة”؟ من صاحب الفكرة ؟ ومن المؤسسون والأعضاء؟ وما مبادئها الاجتماعية والقومية ؟ وهل حققت انجازات تذكر؟ ومتى طويت صفحتها؟

إن الاجابة المتوافرة على هذه الأسئلة ومتفرعاتها تنطوي على آراء نعيمة ودوره في الجمعية، لأن كتاباته عنها هي المرجع الأول والأهم حول ما كان يرمز اليه بحرفي س.ح.

في كتابه “سبعون” وتحت عنوان “عائم يشتعل” تطرق نعيمة الى بداية الحرب العالمية الأولى وانعكاسها السلبي على وطنه وأهله حيث قال: “في تلك الغمرة من القلق على أهلي ومستقبلي ومستقبل بلادي، وردتني رسالة عربية من مجهول يخبرني فيها أن هناك جمعية سرية تعمل لتحرير سورية من الزير التركي، ويدعوني الى الانضمام اليها واسمها (س.ح) وهو لا يستطيع البوح بأسماء أعضائها مخافة أن تدري بهم الدولة فتقتص من ذويهم. ولكني رفضت الانضمام قبل أن أعرف شيئا عن القائمين بالجمعية ومكانتهم بين المهاجرين. وعرفت من الرجل فيما بعد أن من بين الأعضاء صديقي نسيب عريضة (15)، فانضممت. وعندما تخرجت في الجامعة وسافرت الى نيويورك، أنيطت بي جميع مهاو الجمعية. وبقيت أقوم بها الى أن ضاق وقتي دونها. فتنازلت عنها لغيري. فما لبثت الجمعية أن تضعضعت وتلاشت” (16).

ويستهل نعيمة الفصل التالي من “سبعون” المعنون “بصيص نور” بالاشارة السريعة الى س.ع التي ألهته مع دروسه ومجلة الفنون وأخبار الحرب والمجاعة وعمله في القنصلية الروسية عن نفسه “وما كان يلازمها من وحدة ووحشة وحيرة وكآبة” (17).

ويعود نعيمة الى الجمعية في الفصل الخاص بمجلة “الفنون” فيقول: “كان قد عن لي رأي في اعادة الفنون الى الحياة بمعونة الرفاق في س.ح. فدارت مخابرات بيني وبين نسيب (عريضة)”. هنا ينشر الكاتب مقطعا من رسالة تلقاها من الشاعر عريضة مؤرخة في 18 كانون الثاني 1916 ورد فيه ما يلي: “مما يشدد عزمي على الثبات في عملنا الجديد أنك من المجاهدين معنا. ولكني لا أكتمك ما يخامرني من الشك وعدم الثقة بكثيرين من الأعضاء. وأني استضعف كثيرا أ.ف. رئيس الجمعية لطريقته التي استعملها في اكتساب الأعضاء وضمهم على عواهنهم الى القوم دون استقراء واستقصاء وأستهجن طريقة التعاظم والتظاهر بالأهمية وسعة الانتشار حين أن الأمر معروف. وكثيرا ما يذكرني بانتفاخ الضفدع. فلماذا كل هذا البلف ؟ الأول أن نكون قلالا ثابتين وكثار الأعمال، من أن نتظاهر بأننا كثار وقلال الأعمال” (18).

يضيف نعيمة انه أجاب عريضة “بكتاب أبسط له فيه كيف تم انضمامي الى الجمعية بعد مراسلات دارت بين أ.ف. وبيني. وكيف أنني انخدعت بمبالغاته في أهمية الجمعية وانتشارها في حين كنت أشعر من رسائله أن الحركة تكاد تكون صبيانية. واختتمت الكتاب بقولي: إذا كانت قد تأكدت في هذه المدة ضعف المشروع فإني من جهة أخرى، قد تمكنت من أن ألمس عظيم مناجتنا الى س.ح. أو جمعية تقوم مقامها وأعني جمعية سرية تضم قوتنا الأدبية وتديرها بحكمة لأجل تنوير سورية وتخفيف أثقالها وكشف معنى الحياة لأبنائها. ان احتكاكنا بالغرب لابد أن يحرك فينا قوى حية كانت الى الآن راقدة تحت رماد الجهل وسلطة المامي. وهذه القوى يخشى عليها أن تذهب سدي كمياه جداول صغيرة تجري في رمال الصحراء. لذلك يجب ضمها على قدر الامكان وتوحيدها لتزداد قوتها الفعالة ويتضاعف تأثيرها. وبديهي انني أفضل بقاء س.ح وتنظيفها وتعديل خطتها على تأليف جمعية جديدة” (19).

يبقى أن المقطع الأخير من كلام نعيمة، إضافة الى السنوات السبع التي أمضاها في الحقل السياسي.. تؤكد على أن حياه نعيمة الحزبية وأدبياته السياسية لم تكن غيمة عابرة في سماء حياته المديدة التي أمضى معظمها في عرزال “الشخروب” في بلدته بسكنتا المجاورة لجبل حنين. واذا شاء هو أن يعتم عليها أو يقلل من أهميتها، فإن مجموعات الصحف العربية النيويوركية المحفوظة في مكتبة الكونجرس في واشنطن وفي طليعتها جريدة “السائح” لصاحبها عبدالمسيح حداد، تؤكد على الحقائق الأنفة التي يمكن تلخيصها في ختام هذه العجالة على النحو التالي:

أولا: دشن نعيمة حياته الوطنية اثر تخرجه في الجامعة بنشاط سياسي – حزبي، بدأه في ذروة الحرب الكونية الأولى، وختمه بعد نهاية الحرب بسنتين. فقد انضوى في جمعية سرية تدعى “سورية الحرة” وكان مسؤولا رفيعا فيها. ثم اشترك في تأسيس “لجنة تحرير سورية وجبل لبنان” الى جانب جبران والريحاني، وتولى منصب أمانة السر للمراسلات العربية. ولعل أهم نشاط قام به في إطار عضويته ومسؤوليته في اللجنة، تطوعه في الجيش الأمريكي للمساهمة في تحرير بلاده.

ثانيا: لم يكد نعيمة يدخل عالم الأدب وبخاصة النقد من برابته العريضة عبر الفصول التي ضمنها كتابه الشهير والهام “الغربال”، حتى اضطرته الظروف السياسية الى تطعيم كتاباته الابداعية كالشعر والقصة بالفكر السياسي، اضافة الى الكتابات السياسية البحتة ومنها الخطب التي ألقاها في مهرجانات لجنة التحرير. ان هذا النتاج السياسي الذي أهمله صاحبه بعد أن طلق السياسة بالثلاث لجدير بالجمع والنشر نظرا لكميته غير القليلة من جهة، ولكونه مصاغا بأسلوب أدبي متين ومنهج علمي منطقي.

ثالثا: إن نتاج نعيمة وجهاده تمحورا على وطنه سورية أو بلاد الشام. وهنا لم يشذ السياسي الأديب عن القاعدة التي اتبعها سائر الوطنيين السوريين والذين كانوا لاجئين أو مقيمين في مصر وباريس ولندن ونيويورك وبيونس ايوس وسان باولو ومنهم المؤرخ الشهير الدكتور فيليب حثي.


الهوامش:


1- 
سورية ترادف بلاد الشام وهي تضم الأردن وفلسطين ولبنان والجمهورية السورية.
2- 
بدأ منذ المجاعة في جبل لبنان عام 1914، وانتهى في بداية العشرينات.
3- 
لبناني عاش في الولايات المتحدة. كان عضوا مؤسسا في الرابطة القلمية وهو الذي كتب بيانها الأول في العام 1913. وعندما استأنفت نشاطها في بداية العشرينات بعد توقف قسري نتيجة الحرب، كتب نعيمة بيانها الثاني المستوحى من بيان مشرف.
4- 
تأسست اللجنة في العام 1916 نتيجة اقتراح من أمين الريحاني الذي تولى نيابة الرئاسة في قيادته. وكان الدكتور أيوب ثابت رئيسا لها وهو الذي أصبح فيما بعد رئيسا للجمهورية اللبنانية أيام الانتداب الفرنسي. وتولى جبران أمانة السر للمراسلات الأجنبية، وميخائيل نعيمة أمانة السر للمراسلات العربية. وعندما التحق الأخير بالجيش الامريكي للقيام بالخدمة الالزامية وأصبح جبران أمينا للسر في كل أمور الجمعية.
5- 
صحفي من مدينة رحلة اللبنانية. أسس جريدة “زحلة الفتاة” في لبنان وأصدرها عام 1910، اضطر الى مغادرة وطنه خلال الحرب والمهاجرة الى نيويورك، حيث استأنف اصدار الجريدة تحت اسم “الفتاة”. و “تميز هذا الصحفي بالجرأة والوطنية والقوة الجسدية.
6- 
السائح.
7- 
الفتاة – نيويورك – العدد 90- 21 آب 1917.
8- 
السائح نيويورك – 28 تموز 1919.
9- 
إنها الفترة الزمنية التي تولى فيها الأمير فيصل نجل الشريف حسين – زمام الحكم في دمشق وبيروت، مما يمكن أن يطلق عليه تسمية “ربيع سوريا” لأنها كانت الفاصل بين الاحتلال العثماني والانجلو – فرنسيولكن نعيمة يرى العكس، ربما لأنه كان ملتزما بلجنة التحرير المناهضة لفيصل ومقتنعا بسياستها.
10- 
انه البرلمان الذي ضم النواب الممثلين لفلسطين ولبنان والجمهورية السورية والأردن، وكان مركزه دمشق، ولكن أعضاء هذا البرلمان لم يكونوا منتخبين بالطريقة التقليدية المعهودة، وانما بمبايعة النخبة في كل مدينة وبلدة.
12- 
السائح – العدد 10 أيار 1915.
13- 
السائح – 20 أيار 1915.
14 – 
حزب ثوري أسسه جبران مع الدكتور نسيم الخوري والدكتور جورج حوايا وآخرون في بوسطن عام 1911.. واستهدف استقلال سورية ونهوضها.
15- 
شاعر مهجري من مدينة حمص السورية، عاش في نيويورك، وكان من أبرز أعضاء الرابطة القلمية. أصدر مجلة “الفنون” التي ساهم بتحريرها الريحاني وجبران ونعيمة.
16- 
سبعون – ميخائيل نعيمة – دار العلم للملايين – بيروت 1970 ص 323.
17- 
المرجع السابق – ص 324.
18- 
المرجع نفسه – ص 334.
19- 
المرجع نفسه – ص 335.

 


عن مجلة نزوى

فلاش:

أسعد الجبوري:لا أظن أن شاعراً من طراز ميخائيل نعيمة لم يكن جزءاً من الطبيعة . فقد  كان هو الآخر شجرة أرز بجذور فلسفية عميقة،تتأمل العالم وامتداداته في النفس الآدمية.شاعر بثوب صوفي غير معقد النسيج .

نماذج:

النهر المتجمد

يا نهرُ هل نضبتْ مياهُكَ فانقطعتَ عن الخريـر ؟

أم قد هَرِمْتَ وخار عزمُكَ فانثنيتَ عن المسير ؟

***

بالأمسِ كنتَ مرنماً بين الحدائـقِ والزهـور

تتلو على الدنيا وما فيها أحاديـثَ الدهـور

***

بالأمس كنتَ تسير لا تخشى الموانعَ في الطريـق

واليومَ قد هبطتْ عليك سكينةُ اللحدِ العميـق

***

بالأمس كنـتَ إذا أتيتُكَ باكيـاً سلَّيْتَنـي

واليومَ صـرتَ إذا أتيتُكَ ضاحكـاً أبكيتنـي

***

بالأمسِ كنتَ إذا سمعتَ تنهُّـدِي وتوجُّعِـي

تبكي ، وها أبكي أنا وحدي، ولا تبكي معي !

***

ما هذه الأكفانُ ؟ أم هذي قيـودٌ من جليـد

قد كبَّلَتْكَ وذَلَّلَتْـكَ بها يدُ البـرْدِ الشديـد ؟

***

ها حولك الصفصافُ لا ورقٌ عليه ولا جمـال

يجثو كئيباً كلما مرَّتْ بـهِ ريـحُ الشمـال

***

والحَوْرُ يندبُ فوق رأسِـكَ ناثـراً أغصانَـهُ

لا يسرح الحسُّـونُ فيـهِ مـردِّداً ألحانَـهُ

***

تأتيه أسرابٌ من الغربـانِ تنعـقُ في الفَضَـا

فكأنها ترثِي شباباً من حياتِـكَ قـد مَضَـى

2

إلى دودة

تدبّين دبَّ الوهنِ في جسميَ الفاني

 

وأجري حثيثاً خلف نعشي  وأكفاني

 

فأجتاز  عمري   راكضاً  متعثّـراً

 

بأنقاض  آمالي  وأشباح  أشجانـي

 

وأبني  قصوراً  من  هباءٍ وأشتكي

 

إذا  عبثتْ  كفُّ  الزمانِ   ببنيانـي

 

ففي كل يومٍ  لي  حياةٌ  جديـدةٌ

 

وفي كلّ يومٍ  سكرةُ  الموتِ  تغشاني

 

ولولا ضبابُ الشكّ يا دودةَ الثرى

 

لكنتُ أُلاقي في  دبيبِـكِ  إيـماني

 

فأترك  أفكاري   تُذيـع  غرورَها

 

وأترك  أحزانـي  تكفّن  أحزانـي

 

وأزحف في عيشي  نظيرَكِ  جاهلاً

 

دواعيَ وجدي أو  بواعثَ  وجداني

 

ومستسلماً  في كلّ  أمرٍ  وحالـةٍ

 

لحكمةِ  ربّـي  لا  لأحكام  إنسان

 

****

 

فها أنتِ  عمياءٌ  يقودكِ  مُبصـرٌ

 

وأمشي  بصيراً  في  مسالك  عُميان

 

لكِ الأرضُ مهدٌ والسماءُ مظلّـةٌ

 

ولي فيهما من ضيق فكريَ  سِجْنان

 

لئن ضاقتا بي لَمْ تضيقا بِحاجتـي

 

ولكنْ  بـجهلي  وادّعائي   بعرفاني

 

ففي داخلي ضدّان:  قلبٌ  مُسلِّمٌ

 

وفكـرٌ عنيدٌ  بالتساؤلِ  أضنانـي

 

توهّـمَ أنَّ الكونَ  سِـرٌّ  وأنّـهُ

 

يُنـال  ببحثٍ  أو  يُباح  بِـبُرهان

 

فراح يجوب الأرضَ والجوَّ والسَّما

 

يُسائل عن قاصٍ  ويبحث  عن  دانِ

 

وكنتُ قصيداً  قبل  ذلك  كاملاً

 

فضعضع ما بـي من معانٍ  وأوزانِ