نادر أبو الجبين دوّن الذاكرة الفلسطينية بعشق ورحل غريباً عن بلاده

اللقاء الأخير حول “ذاكرة فلسطين”

 

كامل جابر

كان اللقاء الأخير به في بيروت، في ضيافة الصديق الطوابعي ومصمم الميداليات المهندس عبدالله عبسي. كانت محطات عمله في بيروت لا تتجاوز أسبوعاً من الأيام أو عشرة، بيد أنه لم يكن ليفوّت فرصة أو وقتاً لإرضاء شغفه في كل ما يتعلق بذاكرة فلسطين أو حديث الإصدارات المتعلقة بالطوابع البريدية، وصور البطاقات البريدية لا سيما قديمها القديم. لم يتوقف المهندس والكاتب نادر أبو الجبين عند مؤلفه الموسوعي «تاريخ فلسطين في طوابع البريد»، بل ظلّ يواصل بحثه لسبر غور ما بقي في الظلّ أو السرّ أو في خفايا الخفايا عما يتعلق بذاكرة فلسطين، وكان يحضّر لطبعة مزيدة ثالثة ومحدّثة من “تاريخ فلسطين في طوابع البريد” الذي صدر بطبعته الأولى في كانون الثاني/ يناير 2001 والثانية في آذار/ مارس 2011 عن “مؤسسة الدراسات الفلسطينية” عازماً إضافة فصل يتعلق بالبطاقات البريدية..

استغرق اللقاء الأخير في بيروت (20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018) نحو ثلاث ساعات، إذا غاص صديقنا أبو الجبين بأرشيف صديقنا الآخر عبسي المتأهل من “يافيّة” (تربط أبو الجبين بعائلتها صداقة مزمنة)، وكان موضوع الأرشيف البطاقات البريدية والطوابع الصادرة منذ الانتداب البريطاني على فلسطين وبعض الرسائل المغادرة فلسطين والعائدة إليها… تواعدنا على اللقاء ثانية في بيروت، بعد أن يجري علاجاً دورياً للسرطان الذي نغّص حياته وقاومه، لكن وفي اتصال أخير به في الولايات المتحدة الأميركية من صديقنا الطوابعي الفلسطيني أحمد الخطاب ليبثّ له نبأ صدور بطاقة “بلوك” اليوبيل الذهبي لانطلاقة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين (1969- 2019) وبأن حصته (أبو الجبين) من الإصدار محفوظة، رد بصوت متهدج: “أعطها يا أخي أحمد لأحد يستطيع أن يحتفظ بها”. أراد أن يخبرنا في أنه دخل في طريق اللاعودة من المرض، أي أن المرض تمكن منه، وغلبه…

كتب لي مرة توقيعاً على كتابه الموسوعي: “إلى الأخ والزميل العزيز كامل جابر: آمل أن نستضيفك في يافا المحررة كما استضفتني في نبطية الصمود والمقاومة”. كان هذا اللقاء في ذكرى تحرير الجنوب ولبنان في 20 أيار/ مايو 2017 تحت عنوان: «الذاكرة الفلسطينية بين الإحتلالات والشتات». مات الكاتب والباحث المحب لفلسطين غريباً عن يافا، غريباً عن حلمه في العودة، بأرض من ساند الاحتلال (الولايات المتحدة الأميركية) الذي هجّر أهله وأبناء فلسطين، لاغتصابها وإقامة دولة إسرائيلية عليها.

هو اليافي نادر خيري الدين أبو الجبين الذي ولد في الكويت سنة 1950 من أبوين فلسطينيين من يافا، وأنهى  دراسته الابتدائية والثانوية في الكويت، ثم أكمل تعليمه في جامعة تكساس متخصصاً في الهندسة المدنية. عمل مهندساً في الكويت ثم لجأ إلى الولايات المتحدة بعد حرب الخليج، واستقر بها. كان ناشطاً سياسياً ونقابياً خلال دراسته وعمله، وفي مشاركته في عدد من الجمعيات واللجان في الولايات المتحدة، ويكتب ويحاضر فيها دفاعاً عن القضايا العربية. اهتم بجمع الطوابع منذ طفولته، وشارك في عدد من معارض الطوابع في الكويت والولايات المتحدة، وألف كتاباً بمثابة موسوعة تعدّ من أهم الموسوعات التي تتناول الذاكرة الفلسطينية والتاريخ والجغرافيا والعادات والتقاليد من خلال طوابع البريد، وتؤكد في مجملها هوية فلسطين العربية، إنه كتاب «تاريخ فلسطين في طوابع البريد» من نحو 500 صفحة من الحجم المربّع الكبير.

ربما يستهين البعض بما تحمله الطوابع البريدية التي أمعن صديقنا الباحث المهندس نادر أبو الجبين في جمعها وتنضيدها والبحث في مدلولاتها التاريخية والجغرافية والثقافية والإنسانية، لكن، لربما تكون هذه الطوابع التي ألفها أبو الجبين في كتاب أسماه «تاريخ فلسطين في طوابع البريد»، قد أضافت إلى رصيده المعرفي والبحثي حول الذاكرة الفلسطينية بكل تجلياتها، من العهد العثماني مروراً بالاستعمار البريطاني الإنكليزي الذي مهد إلى تسليم فلسطين إلى الاحتلال الصهيوني، معرفة وبحوثاً لها علاقة بأسماء المدن والقرى والعادات والتقاليد والحرف والزي الوطني وغيرها، وما فعلته الاحتلالات المتعاقبة، لا سيما الاحتلال الصهيوني من محاولات غير منقطعة لطمس الهوية الفلسطينية العربية، ولتدمير الثقافة بكل مكوناتها ومحو العادات والتقاليد والفلكلور، وتبديل اسماء المدن والقرى و«عبرنتها» إلى تسميات تلائم متسعمراته المتنقلة هنا وهناك طوال فترة الاحتلال، بمساعدة لئيمة متمادية من الغرب في أحيان كثيرة أو أكثر الغرب، ومن أسف شديد، من بعض العرب في بعض الأحيان.

وهنا نورد بعض ما قاله الفقيد الراحل حول الذاكرة الفلسطينية وصناعة تاريخها:

«يصنع الفلسطينيون الآن ملامح فجر جديد طال احتجابه، بل وتعرض خلال السنوات الماضية لطمس متعمد ومقصود. أعني بهذه الملامح تحديداً امتداد الغضب الفلسطيني إلى كل تفاصيل الجغرافية الفلسطينية بدوائرها الثلاث؛ الساحل الفلسطيني، وما سميت بالضفة الغربية، وما تعارفنا على تسميته بقطاع غزة. وتكامل هذه الدوائر وفعاليتها حين تقيض لها قيادة قادرة على تحريكها في معركة التحرير.

تكامل هذه الدوائر الثلاث، رغم البؤس الذي ألم بخطاب أغلبية الفصائل الفلسطينية حين حوّل فلسطين إلى شظية تدعى الضفة الغربية وشظية أخرى تدعى قطاع غزة، لم يكن غائباً عن أفق الوعي الشعبي المخلص دائماً للذاكرة ولملامح الهوية التي لا تصنعها التضاريس الأرضية فقط، بل ويصنعها وعي الإنسان، في اللغة ومناهج التفكير والسلوك. ربما لهذا السبب ظلت تتلامح في الأفق إمكانية عودة الفلسطيني إلى وطنه متخطياً الخريطة الشائهة التي رسمها سماسرة أوسلو وثبتوها على جدران الذاكرة.

دوائر فلسطين الثلاث التي تأخر التعبير كثيراً عن تكاملها على الصعيد الثقافي، فضلاً عن الصعيد السياسي، تعبر عن نفسها الآن، بإعلان من أطلقوا عليهم اسم “عرب 1948″، عن فلسطينيتهم، والتحاق من خلعوا عن خريطة وطنهم وألحقوا بضفة شرقية بلا مبرر أخلاقي ولا تاريخي، بحركة مقاومة شعبهم ومعركتها القائمة في غزة. تتكامل الدوائر الثلاث، وكان يجب أن تتكامل، لأنها في تكاملها تمنح المعنى للهوية السياسية والثقافية، وتعيد لصورة فلسطين أجزاءها المفقودة، وللمصطلح براءته وجدواه في خضم الصراع المتواصل منذ ما يقارب مئة عام .

المستعمرات الصهيونية حين تقام على الأرض تظل هشة ويمكن إزالتها بوسيلة أو بأخرى، طال الزمن أم قصر، ولهذا السبب عمل الصهاينة منذ بداية استعمار فلسطين على زرع مستعمراتهم في الأدمغة، في عقول مواطني الشعوب الأوروبية والشرقية، وعقول العرب على اختلاف جنسياتهم وأقطارهم، بل وفي عقول الفلسطينيين، فألصقوا بأرضنا وملامحها أسماءهم، وانتقلت هذه الأسماء إلى وعي الآخر الفلسطيني، والعربي بعامة، وبقية شعوب الكرة الأرضية.

الوسائط الإعلامية أدوات حربية خطرة تمارس فعلها على مستويات عدة، على مستوى الدفاع عن المدركات ومنع الانهيار الإدراكي، وعلى مستوى وضوح الرؤيا والأهداف، وعلى مستوى بناء الشخصية الوطنية.

عرف الفلسطيني، منذ بداية الهجمة الاستعمارية على وطنه، أسماءه وتمسك بها، عرف من هو، وأين مكانه في هذا الوجود، وإلى أية أمة ينتمي، والأهم أنه عرف منذ اليوم الأول أن هذا الاستعمار القادم من وراء البحار يستهدف إبادته والاستيلاء على أرضه، وأن الصراع الذي سينشأ سيكون صراع وجود، ولكن هذا اليقين الشبيه بالإيمان تزعزع بفعل الاضطهاد والعذاب اللذين تعرض لهما الفلسطيني، وبفعل شتاته الطويل وتعدد القوى التي أحاطت به أو طوحت به من منفى إلى منفى . حتى أصبح حاله شبيهاً بحال ذلك الخارج من غرفة تعذيب فقد فيها ذاكرته ونسي حتى اسمه، فبدأ يسأل من حوله متوسلاً: “أرجوكم قولوا لي من أنا!!” .

لهذا السبب، وبالتوازي مع وعي الفلسطيني بأهمية أن يمتلك سلاحاً عسكرياً للدفاع عن نفسه، كان من التقصير البالغ أن يهمل أو يتجاهل سلاح معركة الأفكار، ففي الصراع الفكري تلعب وسائط الإعلام الآن، مرئية ومسموعة ومقروءة، دوراً بالغ الأهمية، فأين هي غرفة عمليات خوض مثل هذا الصراع؟ لو كانت مثل هذه الغرفة موجودة هل كان مراسل فضائية فلسطينية سيكرر تسمية الجيش الصهيوني باسم “جيش الدفاع”؟ أو ينسى آخر أن الأرض التي تنطلق الصواريخ وتضربها هي أرض فلسطين المحتلة وليس “أرض إسرائيل”؟

نحن ما زلنا بعيدين عن وعي هذا الصراع الفكري الذي تجند له الدول الاستعمارية علماء اجتماع ولغات وأنثروبولوجيا ومؤرخين، وأصبحت تلحقهم بجيوشها الغازية، وما زلنا نحسبه فرعاً من فروع الدعاية وبث الأناشيد، أو لا نلتفت إليه في أغلب الأحيان، مع أن آثاره واضحة في أشياء كثيرة من حولنا، فهو لايشوه مفاهيمنا ويزرع مفاهيم خاطئة وصوراً شائهة في أذهاننا فقط عن أنفسنا وعن العالم من حولنا، بل يعيد تشكيل مداركنا ويوجه سلوكنا، فنرى في العدو صديقاً وفي الصديق عدواً، إنه يقلب كل شيء رأساً على عقب

إنه سلاح خطر، بل من أخطر الأسلحة إلى درجة دفعت أحد المختصين إلى تعليق نجاح جيوش بلده في استعمار بلد من البلدان على هدم ثقافة ذلك البلد وتدميرها، لا على الأسلحة القاتلة وأطنان المتفجرات .

كما نعلم جميعا، هناك أنماط مختلفة من المقاومة للقمع. وفي بعض الحالات، كما هو الحال في النضال العربي الفلسطيني، لأكثر من 150 عاما، وكفاح شعبنا لاستعادة أراضيهم والعودة إليها والحفاظ على ما تبقى منها. وعادة ما يتم التقليل من أهمية المقاومة الثقافية في النضال الوطني الفلسطيني من أجل التحرير وغالبا ما يتم تجاهلها.

المقاومة الثقافية ليست غاية في حد ذاتها. كل جانب آخر من جوانب المقاومة يسترشد بجانبه الثقافي، سواء داخل المقاومة أو بين مؤيديها. بالنسبة للناشطين المقاومة الثقافية هي أيضا مقاومة سياسية. في الغرب بشكل عام، التي تمسكها قبضة القوى الصهيونية القوية التي تسيطر على جزء كبير من الفضاء الثقافي، كان من الصعب للغاية على الناشطين الفلسطينيين ومؤيديهم كسر حاجز السرد الإمبريالي الذي يبرر جميع جرائم الغرب / الصهيونية. إن تعزيز الثقافة الفلسطينية أمر ضروري للحفاظ على الملكية على سردنا وكسر القوالب النمطية. والغرض من هذا السرد المهيمن هو حشد دعم السكان الغربيين للجرائم ضد الإنسانية التي وقعت في فلسطين، لأن اتفاق سايكس بيكو وإعلان بلفور حدد المشروع الإمبريالي الذي يهيمن عليه الأوروبيون على مساره المدمر من عام 1917 حتى اليوم.

ويظهر التاريخ أن المستعمرين حافظوا على سيطرتهم بقمع الحياة الثقافية للمستعمرين. في فلسطين في ظل الاحتلال الصهيوني، اتخذت أشكالا وأشكالا مختلفة، بالإضافة إلى انفصال ونقل الشعب الفلسطيني العربي في الأراضي المحتلة عام 1948 وتصنيع أراضيهم وتراثهم، مثل فرض الرقابة على المناهج التعليمية وإغلاق ومضايقات مؤسسات والمجتمع المدني، وسرقة القطع الأثرية الثقافية، وإطلاق حملات أثرية فاشلة لإثبات الوجود الهبري في مناطق فلسطينية محددة، وتغيير الأسماء، وإنشاء أسماء جديدة لجميع المناطق المحتلة في فلسطين، وليس آخرا، قمع التعبير الفني. ويتضح ذلك في الكتاب الممتاز الذي أعده كيث ويتمان، اختراع إسرائيل القديمة، إسكات التاريخ الفلسطيني. بالإضافة إلى ذلك في يوليو 2009، بدأت الحكومة الصهيونية حتى في ترجمة الأسماء العربية والإنجليزية لأكثر من ألفي مدينة ومدينة وقرية عربية فلسطينية أخرى إلى أسماء بالعبرية ولكنها كتبت باللغتين العربية والإنجليزية، في محاولة لتقليل الأسماء التاريخية من تلك الأماكن. وهكذا أصبحت القدس يروشليم، ويافا أصبح يافو، وقيساريا أصبح كيزاريا، عكا أصبحت عكو، صفد أصبح تسافيد، الناصرة أصبح نتسريت، الخليل أصبح الخليل هفرون، إلخ…

جانب آخر خطير قال لي صديق لي، عندما زرت يافا، مدينتي في أبريل / أيار 2011، كان الوضع في المدينة بين أبريل 1948 حتى 1950، عندما تم وضع المجتمع كله في نوع من غيتو موقع جنوب يافا في منطقة العجمي. وكان هذا المجتمع يفتقر إلى جميع جوانب الحياة المدنية، حيث تم طرد معظم أهالي يافا وإجلائهم وتم حرمان الباقين من جميع أشكال الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والوطنية والتعليمية والطبية المعتادة والطبيعية. وكان على هذا المجتمع أن يعيد البناء ويبدأ ليس فقط من الصفر، ولكن من تحت الصفر، لتعويض ما فقد.

حتى التاريخ الحالي يظهر كيف تآمر المستعمرون مع الكيان الصهيوني لفصل قضية اللاجئين الفلسطينيين عن قضية اللاجئين بشكل عام. تأسست وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في عام 1950. وقد فعلت الكثير من خلال العمل الإنساني الجيد للاجئين الفلسطينيين من الصحة والتعليم والعمل الاجتماعي، والعمل، وما إلى ذلك ….

لكن الجزء المتعمد الخطير حول تشكيل الأونروا كوكالة مختلفة عن لجنة العليا لشؤون اللاجئين) وهي (التي تعنى باللاجئين العالميين). وبالتالي فإن هذا الفصل لا يمكن أن يسمى باللاجئين، بل ينبغي حله في العالم العربي.

كانت جميع حركات التحرر ضد المستعمرين الأوروبيين على دراية جيدة بأن الثقافة تلعب دورا هاما في النضال ضد المستعمرين. أميلكار كابرال، الزعيم الثوري غينيا بيساو، يعتقد أن الثقافة هي واحدة من أهم الأسلحة في أيدي المستعمرين. وكما نفهم الفلسطينيون هذا، والمقاومة الثقافية، أصبح جزءا لا يتجزأ من النضال السياسي. وجوهرها هو أن قلوب وعقول المستعمرين ليست حصرا ضد الاستعمار فحسب، بل إن علاقة الشعب بالأرض قوية ولا يمكن فصلها عن هويتها، مهما كانت قوة المحتل أو إلى أي مدى يعيشون فيه البلد الام.

إن الرواية الفلسطينية مهمة مقدسة يجب حمايتها والحفاظ عليها وانتشارها في العالم أجمع، كتذكير، بأن الإبادة الجماعية البطيئة المستمرة التي فرضها المحتل، وإلهام للأجيال القادمة التي ستواصل الكفاح حتى إقامة دولة ديمقراطية علمانية حرة في فلسطين، مع “شخص واحد صوت واحد”.

إن الحفاظ على وجوهنا وثقافتنا العربية هو مسؤولية ستبقى على قيد الحياة بكل الطرق الممكنة في جميع مجالات الحياة الفلسطينية العربية والفن والموسيقى والشعر والفخار والتطريز والفولكلور والرقص والاعمال والغناء والأزياء والزجاج الملون والخيال والحكايات الشعبية، والعملات المعدنية، والطوابع، والمشاركة وتقاليد الزفاف، احتفال الميلاد، والموت الحداد والمواسم الدينية والاجتماعية والصناعة والزراعة والأغذية والصحاري والحرف اليدوية والحرف الفنية والحفريات والمخطوطات والعمارة وعلم الآثار والجغرافيا والتاريخ. ولا ينبغي الحفاظ على جميع أشكال وجوانب الحياة اليومية والتاريخية الفلسطينية فحسب، بل أيضا الحفاظ عليها ونشرها من خلال الإذاعة والتلفزيون والحلقات الدراسية والمحاضرات والمؤتمرات والاتفاقيات.

وظلت القصة التي لا توصف عن سرقة الكتب العظيمة لعام النكبة 1948 مخفية على مر السنين حتى كشف فيلم وثائقي (2011) عن فصل مخفي في تاريخ النكبة – الطرد الفلسطيني والهبوط على أيدي الميليشيات الصهيونية ككيان صهيوني تأسست في عام 1948، والتي شهدت نهب منهجي لأكثر من 60،000 كتاب فلسطيني من قبل القوات الإسرائيلية ومحاولة تدمير الثقافة الفلسطينية. وبما أن العدوان شكل تشكيل الكيان الصهيوني، فقد فرت الأسر الفلسطينية التي تعيش في المراكز الحضرية والقرى من ديارها بحثا عن الأمان والملجأ. وقد هربت أسرة فلسطينية تلو الأخرى، واعتقادا منها بأنهم سيعودون قريبا، فقد ترك الكثيرون وراءهم أغلى ممتلكاتهم. ومع صمت المنازل الفلسطينية في ضباب الصراع، كانت هناك حملة إسرائيلية منهجية تجري لدخول المنازل وتسلبها سلعة ثمينة – كتبها.

وفي الفترة ما بين أيار / مايو 1948 وشباط / فبراير 1949، دخل أمناء المكتبات من المكتبة الوطنية اليهودية ومكتبة الجامعة العبرية المنازل الفلسطينية المدمرة في القدس الغربية واستولوا على 000 30 كتاب ومخطوط وصحف وحدهم. هذه الأصول الثقافية، التي كانت تنتمي إلى الأسر الفلسطينية النخبة والمتعلمة، تم “إعارة” إلى المكتبة الوطنية حيث بقيت حتى الآن. وعلاوة على ذلك، جمع موظفو خادم أملاك الغائبين في مدن مثل يافا وحيفا وطبريا والناصرة حوالي 40،000-50،000 كتاب ينتمي إلى الفلسطينيين. وقد أعيد بيع معظمها في وقت لاحق للعرب على الرغم من أن ما يقرب من 26،000 كتاب اعتبرت غير مناسبة لأنها تحتوي على “مواد تحرض ضد الدولة [إسرائيل]” وتم بيعها كمخلفات ورقية.

إن مواجهة سرقة ثقافتنا وتراثنا معركة شرسة يخوضها شعبنا كل يوم. نحن أمامنا في كل الأوقات عواقب الاحتلال الصهيوني: سرقة بيوتنا وأراضينا أدت إلى سرقة فنوننا وطعامنا وأزياءنا، وزعموا أنها ملكا لهم. وعندما غزا الصهاينة لبنان في عام 1982، دمر مركز البحوث الفلسطيني، وقاموا بنفس الشيء بمركز السكاكيني الثقافي في بير زيت. وما زالوا يحاولون سرقة هويتنا. بيد أن العدو قد أدرك فشله، لأنه على الرغم من الحملات العسكرية الجماعية التي ارتكبت إبادة جماعية، والعمليات الرامية إلى القضاء على العرقية، وممارسات الفصل العنصري ضد العرب الفلسطينيين الآن وخلال القرن الأخير، ظل الشعب الفلسطيني على قيد الحياة، وازدهارها، والحفاظ على تراثها وثقافتها. وحقيقة استمرار وجودنا في مواجهة أطول فترة من الاحتلال المروع في العالم هي شهادة حية على بطولات شعبنا. وقد أعطت هذه العملية أجيالا جديدة فخرا لأسلافها وتراثها والزخم والقوة لمقاومة داخل فلسطين وفي المنفى.

ويجب علينا جميعا أن نؤدي دورا أكبر في النشاط الثقافي الذي يركز على حق العودة، وأن نذكِّر العالم بأن إسرائيل ‘الاستعمارية’ لم تنشأ على قطعة أرض فارغة بل كان فرضها على أساس الإبادة الجماعية البطيئة وطرد العرب الفلسطينيين، ومصادرة الأراضي العربية الفلسطينية.

في أي مكان في العالم يعرف الناس أنهم يعيشون على الأرض، ولكن بالنسبة للفلسطينيين أرضهم يعيشون فيها. وهي ترتبط ارتباطا وثيقا وثيقا بهذا الفضاء، وبأن الأرض في كل فلسطين العربية. ولن يكون هناك سلام دائم في المنطقة ما لم يتم ربط هذه الوحدة العضوية بين الفلسطينيين المنفيين ووطنهم. إنه في صميم النضال الفلسطيني.

وفي الوقت الذي تبحث فيه الولايات المتحدة، والصهاينة في جميع أنحاء العالم عن طريقة لتسوية هذا الصراع، نرى مسؤولين فلسطينيين وغيرهم من العرب مستعدين لتسليم حقنا غير القابل للتصرف في أن نكون شعبا على أرضنا المستعادة. هذا لن يحدث، لأننا نفهم أن نضالنا هو طويل الأجل وجيل بعد جيل. مهمتنا الرئيسية كمجتمعات في المنفى هو الحفاظ على تراثنا للأجيال الشابة. ونحن بحاجة إلى تطوير مؤسسات للاضطلاع بهذه المهمة الضخمة. كيف نذهب إلى القيام بذلك وما لا يزال يتعين القيام به سيكون موضوع الجزء الثاني من هذه السلسلة.

مهامنا كثيرة. ونحن بحاجة إلى مواصلة الاحتفال بالاحتفالات الوطنية الفلسطينية من خلال صياغة إعلانات وعقد حلقات دراسية ومعارض فنية وأعمال فنية، وتجمعات عامة. ومن أهم أنواع النشاط الثقافي المنظم جمع وتسجيل ونشر الشهادات الشخصية والذكريات المنقولة شفهيا عن فترة النكبة كما يتذكرها الناجون. وأوضحت الدراسات أن عدد الفلسطينيين الذين نجوا من النكبة 10٪ من الشعب الفلسطيني. نحن الآن في السنوات الأخيرة عندما لا يزال تسجيل تجارب الناس الذين عاشوا في فلسطين قبل عام 1948 ممكنا. جمع الشهادات، على الأقل في المراحل الأولى من العملية، لا يتطلب الكثير من التدريب ويمكن أن يقوم بها ناشطون من جميع الفئات العمرية. وتساعد الشهادات الشفوية على خلق التضامن بين اللاجئين الفلسطينيين والأفراد والجماعات. وهذا التضامن يمكن أن يؤدي إلى مزيد من العمل السياسي لدعم اللاجئين وحقوقهم. ويمكن استخدام الشهادات الشخصية للاجئين في مختلف حملات الإعلام والدعوة، باعتبارها موارد أولية. ومثال على ذلك كيف كان هذا أداة فعالة من قبل أخواتنا اللاتينيين وإخواننا، وكان تسجيل شهادات لاجئي أمريكا الوسطى إلى الولايات المتحدة خلال الحروب بالوكالة الأمريكية، واستخدامها في حملات الدعوة. وقد تم إنجاز الكثير من العمل في مجال الثقافة الفلسطينية في السنوات الماضية.

لقد أصبح الفيلم والفيديو أدوات فعالة جدا للتنظيم السياسي، وكثير منهم يدافعون عن حقوق الفلسطينيين في فلسطين والعالم. إن قضية فلسطين مدرجة إلى حد كبير على جدول الأعمال عالميا، بفضل عمل الناشطين / الفنانين. وحتى سنوات قليلة، لم يسمع كثير من الناس أبدا بحق العودة، ولم يناقش ذلك أبدا في وسائل الإعلام، ونادرا ما سمع صوت الفلسطينيين الحقيقي. وقد تغير هذا عندما نبدأ في استعادة السرد الخاص بنا وإصلاحه. وعلى مستوى وسائط الإعلام الرئيسية، فإن هذا الاهتمام بحق العودة لا يكاد يكون مرئيا، ولكنه لا يؤدي إلا إلى التأكيد على أن توسيع الوعي بأهمية حق العودة هو انتصار للفلسطينيين في مجتمعاتنا المحلية. في هذه العملية نحن نتعلم أيضا الاعتماد على الذات في شتات (المنفى القسري) وكذلك في المجتمع الأكبر.

 

وقد تم زرع السرد الصهيوني الإمبريالي المفروض، باستخدام بعض المصطلحات والمصطلحات، في أفكارنا ولغتنا، وأثر على كيفية تقديم أنفسنا. وسيستمر فرضه ويجب أن نواصل تعلم استخدام كلماتنا الخاصة. وفيما يلي بعض الأمثلة على ذلك:

الامم العربية: نحن لسنا امما مختلفة، بل امة واحدة في دول مختلفة، نحن دول عربية.

دياسبورا أو شتات: هذا مصطلح يستخدمه الصهاينة لتسمية حركتهم الطوعية في العالم دون إبادة عرقية، أما بالنسبة للفلسطينيين فإن الطرد القسري كان بسبب المذابح وتحت السلاح، كأداة متعمدة للإمبريالية الغربية والأوروبية. على الرغم من أن كلمة الشتات تستخدم من قبل العديد من النشطاء والأكاديميين، بل هو استخدام خاطئ، ومصطلح بالنسبة لنا لاستخدام هو التهجير القسري.

الحروب الصليبية: نطلق عليها حروب الفرنجة “الحروب الغربية”، حيث أن القوى الاستعمارية الأوروبية كانت تحتل وطننا، وخدعت الشعب من خلال الدعوة إلى تلك الحملات على أنها صليبية لتغطية جشعها فالصليب “رمز المسيحية” في حين كانت المذابح الأولى التي ارتكبها هؤلاء المجرمين ضد المسيحيين الأرثوذكس وكنائسهم. بالإضافة إلى ذلك، قاتل العرب المسيحيون مع إخوتهم العرب المسلمين ضد هؤلاء المحتلين الأجانب، وحتى الكاثوليك بين العرب أصبحوا عيون وجواسيس للجيوش العربية.

الشرق الأوسط: هذا المصطلح الاستعماري القديم، الذي استخدمه البريطانيون والفرنسيون الذين قاسوا مستعمراتهم الآسيوية وفقا لمسافاتهم عن بريطانيا وفرنسا. كانت تسمى الشرق الأدنى والشرق الأوسط والشرق الأقصى. وتشمل هذه المصطلحات البلدان غير العربية (تركيا وإيران وأفغانستان وباكستان وإسرائيل!)، وتستبعد ثلثي العالم العربي، الذي هو في أفريقيا. حتى أننا نلاحظ أن الغرب بدأ باستخدام مصطلح NEMA الشرق الأوسط وشمال أفريقيا “لتجنب تحديد وطننا كوطن عربي. وعلينا أن نستعمل دائما الوطن العربي للنقاش السياسي، بينما جغرافيا؛ ينبغي لنا أن نستخدم غرب آسيا وشمال أفريقيا وشرقها.

الصراع اليهودي او الاسرائيلي / العربي أو اليهودي او الاسرائيلي / الفلسطيني: نضالنا / صراعنا ليس مع اليهود، ولكن مع الصهاينة والكيان الصهيوني (إسرائيل!). وينبغي أن يشار إلى هذا الصراع على أنه صراع عربي / صهيوني

التطهير العرقي: يجب أن يتغير مصطلح التطهير العرقي الذي يشيع استخدامه إلى الابادة العرقية والإحلال العرقي أو الاستيطان والإحلال العرقي، لأنه لا يوجد شيء طاهر في القضاء على السكان واقتلاعهم من وطنهم، بل هو عمل قذر وإجرامي.

 

عرب اسرائيل: لا توجد مثل هذه الفئة. هؤلاء الناس إخواننا وأخواتنا الذين يعيشون تحت الاحتلال عام 1948. إنهم ليسوا (إسرائيليين!) أنما عرب يجب أن نسميهم شعبنا تحت الاحتلال منذ عام 1948.

حق العودة والحق في العودة: كلما تحدثنا عن حق العودة، يجب أن نؤكد على الحق في العودة، ليكون واضحا أن العودة ليست فقط حق ولكن أيضا يحتاج إلى تنفيذها.

وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا)، على الرغم من أن هذه الوكالة قد قامت بعمل إنساني جيد جدا للاجئين الفلسطينيين، من الصحة، والتعليم، والعمل الاجتماعي، إلى العمل، الخ … خطر تشكيل مثل هذه الوكالة خارج المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (التي شكلت في البداية لرعاية اللاجئين اليهود بعد الاضطهاد النازي) التي وسعت فيما بعد عملها إلى بقية اللاجئين العالم الآخرين. إن نية فصل قضية اللاجئين الفلسطينيين عن قضية اللاجئين بشكل عام بعد الحرب العالمية الثانية لم تكن تعتبرهم في نفس فئة اللاجئين اليهود، وذلك لتجنب العلاقة بين أولئك الذين قاموا بتفجير الأرض المسروقة للدولة المستوطنة الصهيونية (إنهاء أوروبا مشكلة اللاجئين اليهود) وأولئك الذين (الفلسطينيين) الذين طردوا قسرا من وطنهم.

الأراضي المحتلة والأراضي المتنازع عليها: يجب أن تعرف هذه المناطق على أنها احتلال عام 1948 و / أو الاحتلال عام 1967، ويجب ألا نستخدم مصطلح متنازع لأن الأقاليم ليست متنازع عليها، ولكنها احتلت في عام 1948 و / أو 1967.

فلسطين (إسرائيل): عندما يزور بلدنا، يقول بعض الناس أنهم كانوا إلى فلسطين. وعندما سئلوا عما إذا زاروا يافا (يافا)، فإنهم يردون، لا، قمنا بزيارة فلسطين فقط، ذهبنا إلى رام الله أو غزة، وكأن يافا لم تعد فلسطين وفلسطين الوحيدة هي ما تبقى من الضفة الغربية وقطاع غزة.

ومن يتابع الآن ما تبثه شاشات الفضائيات من أخبار وتحليلات وتعليقات حول معركة المقاومة الراهنة، يدرك المدى الذي بلغه هذا المستعمر في استعمار اللغات العربية وغير العربية. فحين تسمى أرض فلسطين المحتلة “إسرائيل” ألا يعني هذا أن العدو نجح في تحريف وعينا بل وتجريفه؟ وحين يستخدم حتى مذيع نشرة الأخبار الفلسطيني تعبير “تسلل”، حين يصف اقتحام فلسطيني لمستعمرة مقامة على أرضه المحتلة ألا يذكر هذا بالمصطلح الصهيوني ذاته الذي كان يصف الفلسطيني العائد إلى قريته المحتلة بصفة “المتسلل”؟ . ثم من ذلك الذي اخترع تعبير “المستوطنات” و”المستوطنين” الشائع بكثرة في الإعلام الفلسطيني وغير الفلسطيني؟ أليس الصهاينة أنفسهم للخلاص من تعبير “المستعمرات” و”المستعمرين”؟ فالمستوطنات في الغالب تتشكل عندما يتم العثور على مساحة فارغة ويستقر الناس فيها، وهذا ليس هو الحال في وضعنا، لأن تلك هي مستعمرات وليس مستوطنات. ومع ذلك، فإن هذه “المستعمرات” تتجاوز الاستعمار إلى جرائم الحرب الفعلية على النحو المحدد في اتفاقية جنيف الرابعة.

الانتفاضة الأولى، والثانية، والثالثة: هذه هي مصطلحات غير صحيحة، حيث أن انتفاضة الحجارة عام 1987 وانتفاضة الأقصى عام 2000 وانتفاضة السكاكين عام 2015 ليست الأولى والثانية والثالثة. فقد أثارت المقاومة الفلسطينية انتفاضات كثيرة منذ القرن الثامن عشر داخل وخارج فلسطين ضد الأتراك والبريطانيين والصهاينة، وكذلك ضد الحكومات العربية في الضفة الغربية وقطاع غزة. وهي مستمرة منذ ما يقرب من 400 عام من الغزوات والمحن. وبالتالي فإن المصطلح المحدد هو انتفاضة الحجارة عام 1987 وانتفاضة الأقصى عام 2000 وانتفاضة السكاكين عام 2015 بعد انتفاضة يافا 1919 و1925 و انتفاضة البراق لعام 1929 و 1933 وثورة 1936-1939 أو في وقت سابق ثورة ظاهر العمر من القرن الثامن عشر، أو ضد حملة محمد علي في القرن التاسع عشر.