ربع قرن على غياب التشكيلي بول غيراغوسيان: هل يصدر طابع بريدي يحيي فنه وأعماله؟

كامل جابر

في مثل هذا اليوم، منذ ربع قرن، منذ 25 عاماً، أغمض التشكيلي الأرمني الفلسطيني اللبناني الفنان بول غيراغوسيان (1925- 1993) عينيه على مسيرة شاهقة من الإبداع والتألق دامت أربعة عقود ونصف العقد، تميزت بالشفافية وبتصوير الوجدان الإنساني والعلاقات الروحية بأسمى حللها، مركزاً على العلاقات الوثيقة بين أفراد العائلة، بين الأم وابنها، حتى شبهت أعماله بالأيقونات البيزنطية. وقد استخدم في أعماله الورق والقماش، بالإضافة إلى استخدامه ألوان الزيت، والألوان المائية وأقلام الحبر.

أغنى غيراغوسيان الفلسطيني من أصل أرمني المقاومة الوطنية اللبنانية والفسطينية بأعمال رائعة تحولت إلى ملصقات خلّدت العديد من الوقفات البطولية للمقاومة وإنجازاتها. كذلك أصدر المجلس الثقافي للبنان الجنوبي العديد من أعماله في ملصقات وبطاقات تحية إلى الجنوب اللبناني ومقاومته ونضال أهله.

وُلد بول غيراغوسيان عام 1925م في القدس (فلسطين) من عائلة أرمنية كانت قد نجت من براثن الإبادة الجماعية في بلادها. اهتمامه بالفن بدء منذُ عمرٍ صغير، فالتحق بمعهد إيطالي في القُدس لتعلُم أصول الفن قبل أن تضطره ظروف النكبة للهجرة إلى لبنان، حيثُ أقام هو وعائلته في برج حمود في بيروت.

عمل في البداية كمدرس للفن في المدارس الأرمنية، إلا أنه إحتاج لمصدر دخل آخر، فاختار أن ينميه من موهبته الفنية ورغبته في الرسم، فقضى جلّ وقته في رسم وإنتاج اللوحات التي تصوّر وجوه جيرانه وساكني الحي الذي يقيم فيه، واستخدم في رسم هذه اللوحات ألوان الفحم والزيت التي بالإضافة إلى موهبته ساعدت على تصوير الحالة النفسية لساكني هذه اللوحات.

أقام العديد من المعارض الفنية خلال حياته، إبتدأها في خمسينيات القرن الماضي، وفي عام 1956م، فاز بول بالمركز الأول في مسابقة للرسم مكنته من الحصول على منحة من الحكومة الإيطالية لدراسة الرسم في إيطاليا، تلتها منحة أخرى من الحكومة الفرنسية لدراسة الفن في باريس.

توفي غيراغوسيان في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 1993 في بيروت. في صباح ذلك اليوم وبعد الانتهاء من لوحة زيتية رائعة، كشف لابنته أنه حقق في النهاية ما كان يريده دائما، إذ دمج القديم والجديد في لوحة واحدة. وافقت العائلة على لقب لللوحة “الوداع”، “L’Adieu” ولا تزال غير موقعة في مجموعة عائلة غيراغوسيان. يمكن العثور على أعماله في المتحف الوطني في أرمينيا.

وسوف تسعى جمعية بيت المصور في لبنان بالتعاون مع المجلس الثقافي للبنان الجنوبي وعائلة الفقيد إلى استصدار طابع بريدي يحمل إحدى لوحاته المعروفة، وكذلك إصدار مجموعة من البطاقات البريدية التي كانت قد صدرت سابقاً باسم المجلس الثقافي للبنان الجنوبي والحزب الشيوعي اللبناني. والسعي لإقامة نشاطات تحمل طابع التحية وإعادة تسليط الضوء على مسيرته الغنية.

كتاب بول غيراغوسيان: تشتيت الحداثة في ذكرى رحيله

 

منذ شهر ونيف أطلقت «مؤسسة بول غيراغوسيان» كتاباً ضخماً (المصدر: صحيفة المستقبل) عن الفنان التشكيلي الراحل بمناسبة مرور 25 عاماً على غيابه بعنوان: «بول غيراغوسيان: تشتيت الحداثة» وكانت قد احتفلت عام 2013 بالذكرى العشرين بمعرض أقيم في مركز بيروت للمعارض في سوليدير – البيال تحت عنوان «الحالة الإنسانية» وكان من تنظيم ابنته الصغرى مانويللا رئيسة المؤسسة وضمّ أكثر من مئة لوحة أساسية للفنان.

أعدّ الكتاب وأشرف على تنفيذه كلٌّ من سام بردويل وتيل فيلراث وطُبع في إيطاليا ليصدر في بيروت في أجمل حلّة لمؤلف يؤرخ حياة فنان كبير خلق من حوله وفي سماء لبنان منذ خمسينات القرن العشرين زوبعة فنية تشكيلية لا مثيل لها وضع فيها كل تجربته الإنسانية والحياتية ومتأثراً بفعل أساسي عاشه في طفولته، وهو المجزرة الأرمنية، وبالتالي الهجرة عن بلاده وتشتت العائلة والوطن الأم، ذاك الوطن الجريح الذي استبدلته العائلة بآخر فحطت رحالها في لبنان ليكون هذا الأخير ملجأ بول الابن الذي ما لبث أن فتح خزان قلبه وذكرياته وأحاسيسه ليترجمها على الورق بأبهى ما لديه. فرسم الناس والعمال والمهجّرين وحياة الشارع، كما رسم العائلة والمرأة والطفل والأمومة في أسئلة وجودية حول تعقيدات الحالات الإنسانية وحول الروحانيات والألم واليأس والأمل والانتماء والوطن والإيمان، وكل هذا عبر لوحات ضخمة أو صغيرة بالألوان أو بالقلم في جداريات هائلة أو في إطار قصاصة صغيرة، ولم يتوقف عن رسم تلك الجماعات في القامات المتراصة والممشوقة بأشكالها وألوانها المؤثرة، وقد انعكست هذه القامات بثقلها ولونها وحجمها في غياب جزئي ودائم لملامح الوجوه التي تبدو دوماً في حالة ضبابية موحية وفي غاية التعبير العميق حول ما وراء هذا الضباب من وجع ودمع وألم أو من فرح وغبطة ولو في ظل فقر وكآبة دائمين: إنها هنا، تلك القامات الرمزية والساطعة في وقفات أبدية لها وإن كانت مجرّدة من كل زينة إلا أنها تلتمع جميعها بقوة داخلية خارقة.

عالمه

هذا العالم الهائل الذي بناه الفنان التشكيلي بول غيراغوسيان يمكن أن نتصفحه اليوم في هذا الكتاب الهائل الذي أصرّت على إنجازه المؤسسة وهو يقع في 400 صفحة من الحجم الكبير ويضمّ الى جانب الصور الفوتوغرافية النادرة له في شبابه، في المحترف، وفي لقطات من حياته الخاصة، مجموعة أعماله المتنوعة وتخترقها داخل الفصول مقتطفات من أبرز ما كتب عنه في الصحافة اللبنانية والعربية والعالمية حول مجمل معارضه، إضافة الى فصلين أخيرين لنقّاد وكتاب وشعراء كتبوا في مناسبات معارضه أو في رحيله: أنسي الحاج، جوزف طرّاب، بول شاوول، رفيق شرف، نضال الأشقر، هاني أبي صالح، جلال خوري، نزيه خاطر، عبدو وازن، عبد الرؤوف شمعون.. وعبيدو باشا في آخر لقاء حواري معه أجراه في تشرين الثاني من العام 1993 أي قبل أيام من رحيله.


برج حمود

ويعرّف الكتاب القارئ على الفنان في إطار من السيرة المطعّمة برؤية نقدية شاملة لكل مساره الفني منذ بداياته أي منذ نشأته في منطقة برج حمود المكتظة بالسكان حيث انتقل موطنه الى صورة مصغرة عنه فيها تجارياً وحياتياً وفنياً. وهناك بدأ غيراغوسيان الشاب اليافع مغامرته مع الريشة والألوان والخطوط حيث راح يرسم كل ما تقع عينه عليه فاستمد من عالم الفقراء والمهجّرين والعمال بداياته وعالمه الذي سرعان ما تطوّر لتحتشد في لوحاته جماعات بشرية منتظمة ومحشورة دوماً في ضربات الألوان المتراصفة، تلك الجماعات التي رسمها وكررها في أعماله وكأنها في لا وعيه حشود الهجرة الأرمنية التي ظلّت في ظلال رأسه وذاكرته حتى آخر يوم من حياته. كما تركّز السيرة في الكتاب وهو باللغة الانكليزية على خصوبة إنتاج غيراغوسيان وانتشار معارضه في لبنان والخارج في دمشق والكويت وأرمينيا وروسيا وأميركا والبرازيل وغيرها من الدول حيث عرض لوحاته المتأثرة عميقاً بثقافته ومرجعيته وانتماءاته المتعددة وروح القومية المتصلة وثيقاً والمتحدرة من مجزرة شعبه حيث بنى تراجيديا لونية رسم من خلالها الحياة اليومية في خلفية ما ورائية عميقة. وهذا البعد الماورائي إضافة الى النزعة الروحانية المتأثرة عميقاً أيضاً بالأيقونة الشرقية البيزنطية جعل أعماله تتحول الى نور يسطع من الضربات اللونية العريضة التي تنبثق منها أعماق العالم السري الذي كان يصبو إليه.

التوثيق

عالم الفنان بول غيراغوسيان الموزّع على لوحاته التي تُعدّ بالآلاف ما بين رسم وزيتية وجدارية تكدس في عمل واحد سعت «مؤسسة بول غيراغوسيان» التي يشرف عليها أبناؤه الخمسة وزوجته جولييت (وهي قد رحلت في أيلول الماضي بعد صدور الكتاب بفترة زمنية) الى توثيق كل تجربته التشكيلية في كتاب يُساعد على حصر مغامرة الفنان في إطار من التوثيق العلمي والمنهج الفني للحفاظ على رونق التجربة وجمالياتها.

فالكتاب كناية عن مجموعة أرشيفية صحافية وفوتوغرافية (مونوغراف) تجمع السيرة بالنتاج الفني بأسلوب علمي متفوق يجعله بمستوى المونوغراف التقليدي في أوروبا وأميركا وكل دول العالم الذي يقدم الفنانين باحتراف ودقة. ويتبع الكتاب نهجاً زمنياً لمختلف المراحل المهنية في حياته، فيقدم السيرة مجبولة بالبدايات المؤثرة. والمعروف أن الفنان بول غيراغوسيان مولود في القدس عام 1926 من أبوين أرمينيين نجَوا من المجازر الأرمنية عام 1915 ثم ما لبثت أن استقرت العائلة في لبنان بعد الجلاء البريطاني من فلسطين. وعاش طفولته الأولى في بيئة فقيرة تحت رعاية راهبات المحبة ثم أنهى دراسته في دير راتيسبون لرهبنة السالزيان. عام 1947 انتقل مع أسرته الى بيروت واستقروا في منطقة برج حمود المنطقة التي قطنتها الجالية الأرمنية. كان بول الشاب اليافع قد اكتشف موهبته في الرسم وبدأ يكسب رزقه من خلال تدريس الفن في المدارس الأرمنية في المنطقة، بالإضافة الى عمله كرسّام. وكان في تلك المرحلة يعمل على رسم أهل الحيّ الذي يسكنه بأقلام الفحم على الورق وبالألوان الزيتية على لوحات من الخشب المضغوط. بدأ بعرض أعماله وفاز سنة 1956 بالجائزة الأولى في إحدى المسابقات وحصل على منحة تعليمية من إيطاليا لمتابعة تحصيله العلمي في فلونسا.

عام 1962، حصل أيضاً على منحة ثانية من فرنسا، فدرس في «محترفات الأساتذة» الشهيرة: «لي أتلييه دي ميتر». في الستينات والسبعينات اتسعت شهرته الفنية في لبنان والعالم العربي وبعض دول أوروبا لتصل لوحته بعد سنوات الى أبهى حلّة وضعها فيها.

كل أعمال غيراغوسيان في هذا الكتاب وتبحث عنها واحدة واحدة في غمرة الألوان والأشكال والقامات العديدة، كذلك البورتريهات الفائقة الجمالية التي اشتهر بها وبسرعة إنجازها، فكل من عرف الفنان عن كثب يتذكر بالتأكيد السهولة التي كان ينجز فيها رسم الوجوه وكأن الإلهام يمسك بيده ويقوده الى مجاهل كل وجه وسره ولغزّه. إنها بورتريهات الأصدقاء والأصحاب والعائلة والأبناء والزوجة وكل من لفت انتباهه في يومياته. ويضج الكتاب أيضاً بصور من مناسبات ثقافية شارك فيها الفنان في بيروت يوم كان صديقاً مقرّباً للشعراء والمسرحيين والأدباء فكان يقرأ القصائد ويزينها برسومه كما كان يرسم لوحات جدارية لأعمال مسرحية: «إضراب الحرامية» لأسامة العارف أو«جحا في القرى الأمامية» و«الرفيق سجعان» لجلال خوري.. كل هذا التقارب مع عالم بيروت الثقافي يؤرخ له الكتاب عبر مقتطفات صحافية معظمها تمّ تصويرها ونقلها الى الانكليزية في إطار توثيقي. وإذا الكتاب، من ناحية ثانية، يحمل العنوان «بول غيراغوسيان: تشتيت الحداثة» فذلك في إطار التعريف بالمناخ الذي رسم فيه غيراغوسيان حيث أنه صالح بين التراث والحداثة تماماً كما صالح بين الرسم الواقعي والتجريد، فهو في معظم أعماله ظل يعتمد عفويته وتلقائيته التي كانت تسبق دوماً التقنيات والتأثيرات من الخارج. هذه التأثيرات التي كانت كثيرة بالتأكيد، وكما حال كل الرسامين فهي كانت من منابع متنوعة: من تأثره العميق بالأيقونات البيزنطية والشرقية، الى تأثره بكل ما أنجزه الكبار في أوروبا. غير أن مهارة غيراغوسيان في الخط واللون بقيت هي المهيمنة على لوحاته لتطغى على كل العناصر الأخرى. فالفن الأيقوني البيزنطي يمرّ في البورتريهات خصوصاً لوحات الأمومة والطفولة، والألوان المنبثقة من التعبيرية والانطباعية العالمية قد غزت لوحاته غير أن بصمة غيراغوسيان بقيت لتميز أعماله في إطار من التوهج في موضوعاته الإنسانية وفي جوهر البعد التعبيري العميق الذي أعطاه للوحته.

وتنبثق جمالية جديدة في تصفح هذا الكتاب إذ إنه يضع اللوحات في إطار تصاعدي هنا، أو في مواجهات لونية هناك، فيبدو تواتر اللوحات أقرب إلى فيلم سينمائي بصري متحرك لتصل في نهاية الكتاب إلى أحاسيس غريبة وساحرة وكأن الشخصيات تفلتت من أطرها وتشعر بها تتنقل في دورة الألوان والخطوط لتشكل عالماً سعى الفنان إلى بنائه في خطوات تتأرجح ما بين التراجيديا والفرح العامر عبر تداخل لوحات الهجرة والمجزرة والموت هنا ولوحات الولادة والطفولة والأمل هناك، وكل ذلك في عالم تسكنه المرأة بشكل أساسي، والمرأة في كل أدوارها وحيث هي الأم والحبيبة والابنة، وحيث هي أيضاً الوطن والأرض والخصوبة والجمال والحلم والأمل. فيكشف أيضاً هذا الكتاب في من يسكنه من حشود وجماعات وقامات متأهبة لحدث ما غير معلن أن الفنان رسم ما رسم ولوّن ما لوّن وحشد ما حشد لهجرة جديدة نحو هدف غير معلن أو نحو أرض غير ملموسة.

كتاب «بول غيراغوسيان» ضم كل خطوطه وألوانه، كل شخصياته ووجوهه، كل تلك القامات التي ستبقى أو هو أرادها أن تبقى واقفة للأبد كي لا تستريح على ماضٍ يرفضه أو كي تبقى متأهبة عند حافة الأرض أو عند طرف الحلم.