روح الطبيعة وراحتها في كتاب المصـوِّر جمال الصعيدي

بيروت (الحياة) – رنا نجار |

أمضى المصوّر اللبناني جمال الصعيدي اربعين عاماً في شوارع لبنان ومدنه وحقوله وسهوله ووديانه، حاملاً كاميرته موثّقاً أَمرّ اللحظات وأجملها في الحرب والسلم على حدّ سواء. ارتبط اسمه بمهنته التي قرر خوض غمارها بكل ما تحمله من مخاطر ومغامرات منذ عام 1977. يومها كان لبنان قد دخل غياهب اللهب وسواد الحرب الأهلية، فكان عليه أن يختار المجازفة أو الهرب. لكن ذاك المناضل الطموح الذي لا يستسلم أبداً ولا يهاب الموت، تسلّل الى الحرب ليس كمقاتل في إحدى ميليشياتها، كما كان دارجاً في تلك الفترة، بل كصاحب رسالة تحكي مّا وراء الانفجارات والقصف وقتل المدنيين. إمتشق كاميرته أو ظلّه كما يصفها، وراح يبحث بين كل تلك الدماء والموت والتهجير، عن البعد الانساني وانعكاس الحروب على مواطنيه وعلى اللاجئين الفلسطينيين الذين عانوا الأمرين كاللبنانيين.

عايش جمال الصعيدي مسؤول فريق المصورين الذين يتعاونون مع وكالة «رويترز» في لبنان وسورية، والرئيس الفخري لنقابة المصورين اللبنانيين، العصر الذهبي للمهنة وكان ولا يزال من روّادها، تشهد له إنجازاته في التصوير الصحافي وجوائزه. تنقّل خلال أربعين سنة، بين صحف لبنانية عريقة ووكالتي «أسوشييتد برس» و»رويترز» التي لا يزال يعمل فيها منذ 30 سنة. لم يتعب على رغم صعاب جمّة ومخاطر مرّ بها شخصياً، إثر تعرّضه للخطف في العراق مثلاً، ونجاته من أكثر من انفجار ضخم في لبنان. لم يستسلم ولم «يستزلم» لأهل السلطة ورجال السياسة. فقد عُرض عليه بعد الحرب أن يترك البلد الى بلدان عربية عدّة، وعرض عليه أن يكون مصوّراً لأهم السياسيين اللبنانيين، لكنه رفض كل العروض التي تبعده عن التصوير كرسالة وحرفة حرّة ومتعة في آن.

أربعون سنة تمرّست عينا جمال الصعيدي على إثارة الفضول، لكن المآسي التي شهدتها حُفرت صورها عميقاً في رأسه، كما يردّد دائماً. ولا تفارقه أهوال الحرب اللبنانية وحرب الخليج، الذي انعكس عليه سلبياً على الصعيد النفسي. فلم تعد عيناه تحتمل الألم.

فكانت الطبيعة ملاذه الأخير. كان يحمل «ظلّه» أو كاميرته كل نهاية أسبوع، ويذهب ورفيقة دربه سمر التي تحمّلت أعباء مهنته ومصاعبها معه، الى سهول لبنان أو جباله أو بحره. لم يتركا منطقة في «سويسرا الشرق» إلا وجالا فيها مشياً على الأقدام. فكانت رحلات استجمام وجدت عيناه المتعبتان من الحروب والدماء، ضالّتهما هناك حيث تبحثان عن مشاهد جميلة تحفّز الصورة الإيجابية في ذاكرة ذاك المصوّر المبدع. فكما التقطت عدسته سابقاً سيئات لبنان، التقطت اليوم إيجابياته المتجسّدة في طبيعته وبيعته وعمرانه التراثي.

صوّر الصعيدي مئات بل آلاف الصور للطبيعة الخلابة بخضارها وثمارها وجبالها وسهولها، بين لبنان ودول العالم التي زارها. لكن تلك الأرض التي شرب منها ونما فيها وانتمى إليها، شدّته ومنحته مشاعر متناقضة تنعكس في صوره الـ153 التي نشرها في كتاب صدر حديثاً بعنوان «فصول لبنان» (SEASONS OF LEBANON). صور خلابة رومانسية مشبّعة بالفرح والألوان، تضجّ بالحياة الحقيقية، لدرجة تشعر كأنك تريد قطف الكرز من الشجرات أو تلتقط الثلج من على الجبال. صور ليست تجارية أو عنوانها الجمال، هي صور فيها روح الانتماء لهذه الأرض وعندما تنظر إليها تسكن الطمأنينة قلبك. إنها علاج نفسي عبر العين.

ففي كل صورة، قصص وحكايات وتفاصيل تنمّ عن علاقة حميمة بين المصوّر وهذه المناطق التي يصوّرها. من أقصى الجنوب الى أقصى الشمال، ومن أقصى الشرق الى أقصى الغرب، في لبنان، إلتقط جمال الصعيدي صوراً، واختار فقط 153 صورة ليفردها في أربعة أقسام بحسب فصول السنة، معبّرة تختصر جمال الطبيعة في لبنان والبيئة المناخ الذين يتميّز بهم. وفيها نرى لبنان الذي عرفناه في الأفلام والصور القديمة، أي لبنان ما قبل التلوّث وانتشار النفايات وقطع الأشجار وتلوّث الهواء، وهدم البيوت التراثية الفريدة… كأن هذا الكتاب المصوّر هو صرخة في وجه الفساد، ليقول لنا أنظروا بعيونكم كم أنتم تدمّرون بلداً جميلاً وبيئة فريدة. هذه الصور التقطها الصعيدي في سنوات ليست بعيدة، لكنها تؤكد أن لبنان لا يزال يتمتّع بمساحة كبيرة من الطبيعة الخلابة، وتحضنا على القيام لحمايتها من الفساد والتلوث والاضمحلال.