خوان غويتيسولو.. عميد الأدب الإسباني
قبل أسابيع، توفي خوان غويتيسولو (1931-2017) الذي اعتُبر أهم روائي إسباني بين الأحياء ممن تربعوا على عرش الرواية الإسبانية، وكانت له سطوة علمية وأدبية يهابها الملوك قبل الزعماء. فحين أعلن عام 2014 فوز غويتيسولو بجائزة “ميغيل دي سيرفانتس”، صاحب رواية “دون كيشوت”، ظل الترقب سيد الموقف قبل اليوم المشهود. العديدون تخوفوا من أن يُحرج خوان الملك ووزارة الثقافة برفض الجائزة الأدبية الأهم في العالم الناطق بالإسبانية التي تعتير بمثابة جائزة نوبل في هذه اللغة الواسعة الانتشار. إذ أن علاقة خوان بالجوائز علاقة تصادمية، فعندما منحته وزارة الثقافة قبل سنوات الجائزة الوطنية الإسبانية التي تحمل اسم “كيخوته” التي تمنحها جمعية الكتاب المحترفين الإسبان سنوياً لكاتب إسباني في الأدب وقيمتها 40 ألف يورو بدا غير مكترث بهذا الاستحقاق الأدبي الرفيع. بل وتعامل معه ببرود حيث صرّح حينها بأن هذا الفوز كان سيسعده لو تمَّ قبل ثلاثين سنة. وحين مُنح جائزة القذافي العالمية للآداب عام 2009 رفضها بصرامة وقيمتها 200 ألف دولار لأن مصدرها المالي -وفقاً لما كتبه هو- كان الجماهيرية الليبية “التي استولى فيها معمر القذافي على الحكم في انقلاب عسكري سنة 1969، لكنه أخيراً قرر قبولها. وحضر الحفل لكي يؤكد احترامه الفائق لكاتبه الإسباني المفضل ميغيل دي سيرفانتس صاحب الرواية الأهم في الأدب الإسباني “دون كيشوت”. فجائزة تحمل اسم سيرفانتس لا يمكن أن يرفضها خوان غويتيسولو لأنه يعتبر نفسه “إبناً شرعياً” لأديب إسبانيا الأول. تم تنظيم مراسيم تسليم جائزة “ميغيل دي سيرفانتس” في 23 أبريل/نيسان 2015 حيث يصادف هذا التاريخ ذكرى وفاة سيرفانتيس في جامعة ألكلا دي ناريس (قلعة النهر) بالقرب من مدريد، وهي المدينة التي ولد فيها سيرفانتيس. وقد تسلّم غويتيسولو جائزته يومها من يد العاهل الإسباني الملك فيليبي السادس وحرمه الملكة ليتيسيا. صحيح أنه رفض ارتداء الزي الرسمي للفائزين وفضّل حضور الحفل بسترة بسيطة وربطة عنق قديمة، لكنه – وكما كان متوقعاً – لم يتردد غويتسولو في الجهر بأفكاره في الخطاب الاستثنائي الذي ألقاه أمام محفل الكتاب والأكاديميين بحضور الملك والملكة الإسبانيين. كلمة تُعتبر أقصر خطاب في تاريخ الجائزة، لكنها تعتبر من أقسى الخطابات وأكثرها كشفاً عن التمرد الذي رافق هذا الكاتب طوال حياته؛ أربع صفحات مأهولة بألف وثلاثمائة كلمة في مدة عشر دقائق. خطاب مختزل ومكثف قدّم فيه التحية لأهل مدينة مراكش الذين عاش بينهم، وهو اليوم يموت بين أحضانهم. بدأه بالحديث عن نوعين من الكتاب: الأول الذي يبحث عن الشهرة والاعتراف، والثاني الذي يكتب من أجل الإبداع. واستشهد غويتيسولو في خطابه بسيرفانتيس الذي مات من دون أن يكون مشهوراً ولكن روايته “دون كيشوت” بقيت الى الأبد. كما استشهد بروايات أخرى اشتهرت بعد مرور مدة زمنية طويلة من صدورها وبعد رحيل مؤلفيها. كذلك، انتقد غويتيسولو الغرب الذي يتجاهل مآسي الهجرة واللوبيات التي تسيطر على الاقتصاد العالمي. ولد خوان غويتيسولو في برشلونة سنة 1931، وبدأ يكتب القصص والروايات منذ كان عمره 23 سنة (عام 1954). زلزلت الحرب الأهلية الإسبانية حياته وطبعت طفولته بجراح لا تلتئم كان أكثرها تأثيرًا على نفسيته تفجير القنابل لجسد أمه إثر قصف جوي لطيران الجنرال الإسباني فرانسيسكو فرانكو لوسط برشلونة سنة 1937. وأصبح الكاتب الشاب بعدها معارضاً شرساً لفرانكو ونظامه، ثم بدأ ينتقد بشدة كل الأساطير المؤسسة للقومية الإسبانية. ولهذا حظر نظام فرانكو منذ عام 1963 كتبه، ومُنعت، فصار شهيراً لدى أقسام الشرطة أكثر من شهرته في المكتبات، كما عبّر ذات مرّة؛ ولم يستطع العودة إلى إسبانيا إلا بعد وفاة فرانكو وزوال نظامه، نظراً للحكم عليه غيابياً بالسجن. قرر غويتيسولو الهجرة إلى باريس التي استقر فيها منذ سنة 1956، وبدأ يتحول بالتدريج إلى نجم من نجوم المشهد الثقافي الباريسي، حيث عقد صداقات أدبية وفكرية مع صفوة مثقفي باريس والمهاجرين إليها، من أمثال صمويل بيكيت وإرنست همنغواي وغي دوبور وجان جينيه. وكان الأخير صديقه الأقرب إلى نفسه فشكّل نقطة تحول في مساره، حيث انتبه بتعرُّفه على جينيه إلى نموذج الكاتب الذي يحلم بأن يصيره. وشعر غويتيسولو أنه بحاجة إلى مسافة معقولة ليُنجز مشروعه الأدبي والثقافي الكبير واكتشف أن الأضواء الباريسية بدأت تبعده عن طموحه العميق في كتابة أدب حقيقي ينشغل بقلق الإبداع وليس بهواجس الشهرة والذيوع. هاجر غويتيسولو إلى مدينة طنجة المغربية أولًا سنة 1965. لكن سنة 1976 زار مراكش التي اختارها منذ ذلك الحين مقاماً له، وصارت مدينته. وبات خوان يشتغل يومياً بالقراءة والتأليف قبل أن يخرج كل مساء إلى ساحة “جامع الفنا” ليأخذ قهوته مع أصدقائه الذين ليسوا سوى حكواتيي الساحة الشهيرة وبعض من صُنّاع فُرجتها من رواد موسيقى “كَناوة” الشعبية. يتفق العديد من رواد الأدب الأوروبي ومؤرخيه على اعتبار غويتيسولو أعظم كتّاب إسبانيا الأحياء قبيل رحيله إذ يقول الروائي والشاعر الإسباني خوسيه مانويل كابايرو، رئيس لجنة التحكيم التي منحت غويتيسولو جائزة سيرفانتيس الكبرى، والحاصل على الجائزة نفسها عام 2012: “يعتبر هذا الكاتب واحداً من قمم وروائع الأدب الإسباني غداة الحرب” العالمية الثانية. وتقول الكاتبة المكسيكية إلينا بونياتوسكا صاحبة رواية “مذبحة في المكسيك”، التي تدور أحداثها حول وقائع مقتل طلاب محتجين بواسطة قوات الأمن المكسيكية عام 1968، وهي الحاصلة على جائزة سيرفانتيس لدورة العام 2013 وعضو لجنة التحكيم فيها: “إنه كاتب يربط ويجمع ما بين الضفتين الإيبيرية والأميركية”، ولا شك بين ضفتي المتوسط وشمال أفريقيا وتحديداً المغرب”. فأعمال غويتيسولو مدّت الكثير من جسور التواصل بين الثقافة الإسبانية مع الثقافات واللغات الأخرى، وبالأخص الثقافة العربية والإسلامية. لكن أحد أهم وأبرز الجوانب في مسيرة غويتيسولو كان يتمثل في اندماجه العميق مع فئات مسحوقة تعاني القهر والظلم، وتبنّيه لقضاياها ودفاعه عنها، فعندما كان خوان لا يزال مقيماً في باريس تعرّف على القضية الجزائرية، وبدأ يعلن مواقفه المُدينة للاستعمار الفرنسي. بل بلغت به الجرأة أنه كان يُخفي المجاهدين الجزائريين في شقته الباريسية. كذلك تعرّف غويتيسولو منذ 1968 على بعض مناضلي حركة “فتح” الفلسطينية ووضع قلمه في خدمة قضية فلسطين. وسنة 1988 سافر إلى فلسطين حيث كتب عن ثورة الحجارة بصفته “رجلاً معنياً مباشرة بالنضال الذي يخوضه شعبٌ للدفاع عن أرضه وذاكرته في مواجهة فظاظة الاقتلاع ومناخ الأساطير الخادع”. سافر خوان أيضاً إلى سراييفو أيام الإبادة العرقية التي مارسها الصرب على أهلها البوسنيين. وألف عن رحلته تلك كتاب “حصار الحصارات” عام 1999 الذي ترجم إلى العربية. وعندما ذهب الى الشيشان ورأى الويلات فأصدر كتاباً بعنوان “عندما تسدل الستارة” حيث يقول غويتيسولو: “كنت متأثراً بعمل لتولستوي اسمه (حجي مراد)”. الكتاب ظاهره سيرة غويتسولو الذاتية خلال وفاة زوجته وباطنها إدانته حرب الشيشان. فهو يحول استخدامه للضمير الغائب من دون وقوع السرد في دوامة الاعترافات، مما يعطي الرواية صوت التمرد ضد الجوع والمذابح. وخلال هذه الفترات عمل غويتيسولو مراسلًا حربياً في سراييفو والجزائر والشيشان، وهي التجارب التي تحولت إلى ريبورتاجات صحافية ذات بُعد تحليلي عميق جمعها بعد ذلك في كتاب. وكان غويتيسولو في كل مرة يُحرج الغرب بكتاباته ويفضح الأنا الأوروبية المنغلقة على أكاذيبها. ولقد سجّل مواقف مؤيدة للحراك العربي بعد عام 2011. ولعل الناقد العراقي كاظم جهاد كان له الفضل الكبير في تقديم غويتيسولو إلى القراء العرب، فترجم له «يوميات فلسطينية»، و«رحلات إلى الشرق»، و«في الاستشراق الإسباني»؛ كما اختار جهاد عدداً من الفصول الروائية، صدرت في كتاب بعنوان «على وتيرة النوارس». كما ترجم الكاتب والمترجم المصري طلعت شاهين مختارات من مقالات غويتيسولو السياسية، صدرت بعنوان «دفاتر العنف المقدّس»، وضمّت «دفاتر سراييفو»، و«الجزائر في مهب الريح»، و«غزّة ـ أريحا: لا حرب ولا سلم»، و«مشاهد حرب، والشيشان خلفيتها». ولا ننسى الدور الكبير الذي لعبه الأديب الكبير جمال الغيطاني في تقديمه أدب خوان غويتيسولو للقراء العرب في صحيفة “أخبار الأدب” المصرية. لا شك أن أطروحات المؤرخ الإسباني أميركو كاسترو(1885 ـ 1972) المعبّر عنها في كتابه «إسبانيا في سياق تاريخها»، الذي يؤكد أن الأندلسيين هم الذين خلقوا أول شعور وطني في إسبانيا وأنه لولاهم لما أصبح لإسبانيا أي تمييز وخصوصية تعليان من شأنها بين الأمم في التاريخ الحديث، قد ساعدت في دفع غويتيسولو على تأليف كتابه الذي اشتهر به في العالم العربي “إسبانيا في مواجهة التاريخ.. فك العقد”، الذي ترجم الى العربية بعنوان «في الاستشراق الإسباني» الذي دافع فيه عن الثقافة العربية ودورها في التقريب التاريخي بين الشعوب والأمم. وقد أكد غويتيسولو في الكتاب التأثير القوي والأساسي للمسلمين الموريسكيين ومساهمتهم في إسبانيا وأنه لولاهم لما كان لإسبانيا أن تدخل التاريخ الحضاري. كما ساعدت أطروحات أميركو كاسترو غويتيسولو على إدراك معرفة أفضل بالماضي التاريخي لبلده، كما أن استعراب المؤرخ أتاح له إمكانية المصالحة بين اهتماماته المتنامية بالمشرق والمغرب الإسلاميين ـ وهو ما أكدته رحلاته العديدة الى إيران ومصر وتركيا وفلسطين والجزائر والمغرب والشيشان والبوسنة ـ وبين انشغاله بحاضر إسبانيا وتطوراتها. هكذا غدا ما هو إسباني وما هو إسلامي، في تصوره، وحدة واحدة لا يمكن الفصل بين طرفيها من دون المجازفة بانهيار الكل. ومنذ ذلك الوقت، لم يترك خوان غويتيسولو فرصة تمر من دون الإشادة بالمكوّن الإسلامي في تاريخ إسبانيا وأدب شبه الجزيرة الإيبيري.
غويتيسولو ومراكش
بين عامي 1968 و1972 تبادل غويتيسولو وأميركو كاسترو 28 رسالة تعكس، في مجملها، انشغالهما العميق بما هو إسباني، وبتاريخ إسبانيا ومستقبلها، كما تعكس اهتمامهما المشترك براهن بلادهما في أواخر الستينات وأوائل سبعينات القرن العشرين، على بعد بضع سنوات من وفاة فرانكو، وانهيار رمز “إسبانيا الكاثوليكية المطهرة”.إن إحدى أبرز الأفكار التي يقع التأكيد عليها في هذه الرسالة هي أن وضع مستقبل إسبانيا على السكة الصحيحة يقتضي أيضاً فهم ماضيها التاريخي على حقيقته. هكذا يتساءل أميركو كاسترو في رسالة: «كيف لبلد أن يصلح شؤونه، وهو غير مدرك لهويته في الماضي؟». كان أميركو كاسترو مقيماً في الولايات المتحدة الأميركية حينئذ، وكان غويتيسويلو يقيم في باريس منذ مغادرته لبلده في أواسط الخمسينات. لذا عبّرت الرسائل التي تبادلاها عن ميلاد وتطور صداقة ثقافية وعقلية بين مُبعَدين يحاولان النظر عن كثب الى واقع بلديهما. كما يحاولان التعرّف على إنتاج كل واحد منهما، برغم تباين المجالات التي يهتمان بها.لقد كان منطلق هذه الصداقة رسالة بعثها غويتيسولو الى أميركو كاسترو ويخبره فيها بأنه قرأ كتابه المركزي: «إسبانيا في سياق تاريخها» وكيف كانت تلك القراءة «مخصبة وباعثة على التأمل»، بل أنها مكّنته من فهم تاريخ بلاده بكل ما انطوى عليه من تحولات جوهرية «يحاول الحاضر تجاهلها». وجواباً على احدى الرسائل، بعث أميريكو كاسترو الى غويتيسولو رسالة يعبّر فيها عن إعجابه بكتابه «إسبانيا والإسبانيون» (1969) الذي رأى في مضمونه «أصالة مثيرة للدهشة»، بل إنه لم يتردد في التعبير عن تأثره ببعض تحليلاته قائلاَ: “من الآن فصاعداً أرى الشكل الذي سينسجم فيه تأويلي مع تأويلك: إن اسبانيا متعددة وليست واحدة”.في احتفال الدولة الإسبانية عام 1992 بمرور 500 عام على “استرداد إسبانيا” من العرب، كتب غويتيسولو مقالاً مطولاً ينتقد فيه الاحتفال بمحاكم التفتيش ومخالفة المعاهدة مع حاكم غرناطة، أبو عبد الله محمد الثاني عشر (1460 – 1527) المعروف بإسم أبو عبد الله محمد الصغير، هو آخر ملوك الأندلس المسلمين. فقد غويتيسولو طالب الحكومة الإسبانية في مقالته بتقديم اعتذار للعرب عما حدث للموريسكيين على مدى لا يقل عن مائتي عام.والموريسكيون (Los Moriscos) هو تسمية تطلق على العرب المسلمين الذين أجبروا على اعتناق المسيحية بعد سقوط غرناطة عام 1492 على يد الملكين فرناندو وايزابيلا، حيث تم طرد من رفض ذلك.وقد وصف غويتيسولو عمليات الطرد والتهجير التي تلت سقوط غرناطة بأنها “بقعة سوداء في تاريخ إسبانيا”، ووصف الاحتفال بـ”استرداد إسبانيا” بمثابة الاحتفال بالوصمة السوداء. وظل خوان ينتقد التاريخ الإسباني الرسمي على إنكاره للدور المحوري للعرب والمسلمين في صياغة الشخصية الحضارية لإسبانيا في القرون الوسطى. وظل يعتبر طرد الموريسكيين من شبه الجزيرة الإيبيرية “فصلاً أسود” في تاريخ إسبانيا، وأنها كانت “عملية تطهير عرقي دموي”، في إشارة إلى فرض الترحيل الجبري على أكثر من 300 ألف موريسكي.وتاريخياً يشير مصطلح “موريسكي” للتصغير التحقيري لكلمة “مورو” وهي الصفة التي كانت تطلق على العرب القادمين من شمال أفريقيا، ومع الزمن تحول المورو إلى موريسكي وأجبرت محاكم التفتيش هؤلاء الموريسكيين على النزوح إلى شمال أفريقيا. ويقول غويتيسولو في تصريحات لجريدة “الباييس” الإسبانية: “ما حدث بين عامي 1609 و1614 يمثل سابقة لا مثيل لها في تاريخ أوروبا من عمليات التطهير العرقي العنيفة والتي تكاد تكون دموية”.يشار إلى أن المسلمين قد فتحوا الأندلس عام 711 ميلادية وظلوا فيها حتى عام 1492 عندما سقطت غرناطة آخر معاقل الوجود العربي على أرض شبه الجزيرة الأيبيرية في يد الملوك الكاثوليك .إن صداقة غويتيسولو مع إدوارد سعيد ومحمد شكري ومحمود درويش وجمال الغيطاني، وعبر قراءته وتأمله في تاريخ إسبانيا في القرون الوسطى، قد قرّبته من الثقافة العربية وانصهر مع تراثها ودخل عوالم التصوف الإسلامي وبحث عن تشابهات بينه وبين التصوف المسيحي، بين ابن عربي والأرثيبريستي دي إيتا، فصنع سردية إسبانية فريدة في بنيتها ورؤاها، ولعل ذلك يتجلي في روايته “الأربعينية”.أحب غويتيسولو الثقافة الإسلامية وعوالم التصوف الإسلامي وانتقل هو نفسه من أرض سردية إلى أرض أخرى، وهي الأرض الجديدة التي استوعبت أسئلته الفلسفية، لكن كان لديه الكثير من التحفظات على المجتمعات العربية، التي تعجز عن استغلال تراثها الفكري والسردي، وتتجاهل لأسباب تبدو عبثية تصوف إبن عربي وعقلانية إبن رشد، كما تصادر رواية “ألف ليلة وليلة” بوصفه كتاباً إباحياً.
عشق خوان غويتيسولو مراكش وساحة جامع الفنا التي اعتبرها امتيازاً فريداً تمكنه من الغطس في عالم قد اختفى وقد أهداها إحدى روايته “المقبرة”. وعندما كان يتحدث عن مراكش، فإنه يشير إليها بأنها مدينته. ويعود لغويتيسولو الفضل في جعل ساحة جامع الفنا تراثاً إنسانياً اليوم تحت حماية اليونيسكو. فقد قال فديريكو مايور، المدير العام السابق لمنظمة اليونيسكو، إنه ”في سنة 1998 عندما كنت وقتها أميناً عاماً للمنظمة استضفت خوان غويتيسولو، الذي كان يقيم في مدينة مراكش منذ مدة طويلة ويعشقها حد الهوس، وقال لي إن هناك فضاءات تعتبر مسرحاً للإبداع الفني والثقافي، إلا أنه يصعب تصنيفها طبقاً لمعايير التراث الطبيعي أو الأثري المعمول به في منظمة اليونيسكو”. وأضاف فديريكو مايور أن غويتيسولو ”بدأ يحدثني عن ساحة جامع الفنا باعتبارها مكاناً فريداً ومختلفاً عن باقي الأماكن في العالم، توجد فيها أنشطة متنوعة وغنية، أبطالها أهالي دأبوا على صنع الفرجة منذ قرون … قال ذلك بشغف كبير، ثم خاض في وصف الحكواتيين (الحلايقية) وبراعتهم الشفوية في رواية ما جادت به روائع أدب يعود إلى أزمنة غابرة. استحسنت الفكرة ووعدته بأنني سأتدارس الأمر مع الزملاء في المنظمة، وأصارحكم مبدئياً بالقول إن غويتيسولو هو صاحب فكرة التراث الإنساني اللامادي، وكانت ساحة جامع الفنا هي حجر زاوية هذا النوع من التصنيف التراثي قبل أن تلتحق بها العديد من الأماكن الأخرى في مختلف بقاع العالم”.
عشق خوان غويتيسولو مراكش وساحة جامع الفنا التي اعتبرها امتيازاً فريداً تمكنه من الغطس في عالم قد اختفى وقد أهداها إحدى روايته “المقبرة”. وعندما كان يتحدث عن مراكش، فإنه يشير إليها بأنها مدينته. ويعود لغويتيسولو الفضل في جعل ساحة جامع الفنا تراثاً إنسانياً اليوم تحت حماية اليونيسكو. فقد قال فديريكو مايور، المدير العام السابق لمنظمة اليونيسكو، إنه ”في سنة 1998 عندما كنت وقتها أميناً عاماً للمنظمة استضفت خوان غويتيسولو، الذي كان يقيم في مدينة مراكش منذ مدة طويلة ويعشقها حد الهوس، وقال لي إن هناك فضاءات تعتبر مسرحاً للإبداع الفني والثقافي، إلا أنه يصعب تصنيفها طبقاً لمعايير التراث الطبيعي أو الأثري المعمول به في منظمة اليونيسكو”. وأضاف فديريكو مايور أن غويتيسولو ”بدأ يحدثني عن ساحة جامع الفنا باعتبارها مكاناً فريداً ومختلفاً عن باقي الأماكن في العالم، توجد فيها أنشطة متنوعة وغنية، أبطالها أهالي دأبوا على صنع الفرجة منذ قرون … قال ذلك بشغف كبير، ثم خاض في وصف الحكواتيين (الحلايقية) وبراعتهم الشفوية في رواية ما جادت به روائع أدب يعود إلى أزمنة غابرة. استحسنت الفكرة ووعدته بأنني سأتدارس الأمر مع الزملاء في المنظمة، وأصارحكم مبدئياً بالقول إن غويتيسولو هو صاحب فكرة التراث الإنساني اللامادي، وكانت ساحة جامع الفنا هي حجر زاوية هذا النوع من التصنيف التراثي قبل أن تلتحق بها العديد من الأماكن الأخرى في مختلف بقاع العالم”.
أدب غويتيسولو
انقسم إنتاج خوان غويتيسولو الأدبي إلى ثلاثة مراحل، فكانت رواياته الأولى تندرج في إطار اتجاهات الواقعية الاجتماعية التي سادت مؤلفات الخمسينيات، وكان أبرزها: “التلاعب” (1954)، و”مبارزة في الجنة” (1955). المرحلة الثانية، تجاوز فيها الكاتب الواقعية ودخل حقل التحليل النقدي الاجتماعي للواقع ورصد الأسباب الكامنة وراء هذا الواقع، سواء كانت اجتماعية أو سياسية كما في “ثلاثية السيرك” (1957) و”أعياد” (1958) و”الاستفاقة من السَّكرة” (1958). وأوضحت تلك الروايات فكره المناهض للبرجوازية، وهو ما أكدته الروايتان اللاحقتان: “مشاكل الرواية” (1959) و”حقول نيخار” (1960). ويُلاحظ أن هذه المرحلة تتناغم تماماً مع التيارات التي كانت سائدة في إسبانيا خلال عصر فرانكو الذي حال دون نشر أعمال غويتسولو داخل البلاد حتى مرحلة متقدّمة. المرحلة الثالثة هي مرحلة التجريب التي كسر فيها غويتسولو القوالب السردية التي بدأت برواية “علامات الهوية” (1966)، واستخدم التقنيات الجديدة للرواية المعاصرة. وقد تواصلت هذه المرحلة مع ظهور رواية “مطالبات الكونت دون خوليان” (1970) وهي رواية عن المنفى، و”خوان بلا أرض” (1975) التي اختتمها بصفحة مكتوبة باللغة العربية، لتسليط الضوء على قراره قطع علاقته بأوجه معينة من ثقافة وتاريخ بلاده، ورواية “مقبرة” (1999). أما كتب الدراسات فتناول خوان فيها قضايا أدبية وثقافية وسياسية، بالإضافة إلى قضايا فكرية. من بين هذه العناوين “الكتابة في إسبانيا”، “الكتاب الإسبان في مواجهة ثور الرقابة”، “الأديب الذي تطارده السياسة”، “ثيرنودا والنقد الأدبي الإسباني”، “اللغة، الواقع المثالي والواقع المؤثر”، “من هنا لهناك.. مقاربات للعالم الإسلامي”، و”ضد الأشكال المقدسة”. ومن أعمال المذكرات نشر غويتيسولو “ممالك الطوائف”. ومن الأعمال التأملية نشر “الدراويش الدوارون”، “فلسطين بعد التهجير”، “القاهرة: صورة لمدينة”، “عاهرات وراهبات: الطقس الشعبي للقديسين”، “الإسلام الأسود”، “رمضان”، “مسلمون سوفياتيون”، “تركيا العميقة”، “الضفة الأخرى”، “المقابر الإسلامية”، “موسيقي الراي”، “عبد الكريم وملحمة الريف”. توقف غويتيسولو في سنواته الأخيرة عن كتابة الرواية، وخصص جلّ وقته للقراءة وكتابة مقالات شهرية، وتحديداً للشعر. وفي عام 2014 صدر ديوانه الوحيد “اضطرام، رماد ومحو للذاكرة”، ومن المتوقع العثور على دواوين أخرى له غير منشورة. في العام 2016، أودع غويتيسولو كتابًا لدار “بالسيلس” مع وصية بنشره بعد وفاته بعشرة أعوام. أما محتوى الكتاب فلا يعرفه أحد، ولم يقل عنه الكاتب العجوز إلا أنه مجرد ذكريات شخصية.