كامل جابر
الثلاثاء 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2022
لم يكن سهلاً على علي مزرعاني متابعة التفاصيل اليوميّة لثورة السابع عشر من تشرين 2019، في النبطية والجنوب، منذ لحظاتها الأولى إلى أشهر عديدة أعقبتها، محاولاً ألاّ يترك شاردة أو واردة في هذا الإطار، تاركاً لنفسه مسافة زمنيّة لا بأس بها، بلغت ثلاث سنوات ليولد جهده في كتاب توثيقيّ فائق المحتوى، ومع ذلك فقد يظنّ متصفّح كتابه الجديد “حراك النبطية ساحة بمساحة وطن” الذي أطلقه أمس الاثنين بتاريخ 17 تشرين الأول من ساحة الثورة في النبطية، أنّ طباعته أو إخراجه قد جاءا على عجل.
برغم انحيازه المعلن إلى ثورة 17 تشرين، إنْ بانغماسه في كثير من تحرّكاتها ومدلولاتها وتداعياتها، أو بمتابعته اليوميّة في ساحاتها، أو من خلال الانترنت وتوثيق مجرياتها، فقد ترك علي مزرعاني في كتابه “الثوريّ” مساحة لخصوم الثورة وبياناتهم وتعليقاتهم على وسائل التواصل الاجتماعيّ، في دلالة على حِرفيّة مهنيّة تُعطي “للشاكي والمعتدي” الحق في التعبير والتبرير.
وفي جهد منه للحفاظ على أمانة التوثيق والتاريخ، ترك الكاتب تأييده للثورة في عقله وقلبه، لكنّ حماسته لها لم تجعله يغيّب تلك الخلافات التي شابت حراك النبطية من هنا وهناك، إن بين “الثوريّين” أنفسهم، عناصر وقيادات وأحزاب، أو من خلال نشاطاتها وحواراتها وأمسياتها وندواتها أو حتّى مسيراتها وتظاهراتها. واللافت في متابعات صاحبنا اليوميّة، أن مزرعاني لاحق باهتمام بعض الكتابات والخلافات التي تجاوزت الساحات إلى مواقع التواصل الاجتماعيّ، وردود الفعل، والردود على الردود.
أمّا في شأن الصور الفوتوغرافيّة، الشاهدة التاريخيّة الزمنيّة التي لا لبس فيها، فقد فاض المؤلف في استخدامها وثائق حيّة من عدسة تنقّلت بين المسيرات والتحرّكات، من إطلالات عالية، أو من قلبها، أو من جهاتها الأربع، ولم ينسَ متابعته للوجوه الثوريّة “الأنثويّة” قبل “الذكوريّة”، لشيبها وشبابها وأطفالها، حتّى لحماة الثورة، عناصر وضباط الجيش اللبنانيّ. تجاوزت صور الكتاب 500 صورة، وهي لم تقتصر على حراك النبطية فحسب، بل تجاوزته إلى كلّ حراك الثورة في جنوب لبنان كلّه، من بوابته صيدا، إلى صور، فمرجعيون وحاصبيا، لذلك استعان المؤلّف بصور عدد من المصوّرين الصحفيّين والفوتوغرافيّين في النبطية والمناطق الجنوبية الآنفة الذكر (عزيز طاهر، كامل جابر، حسين معاز، محمود بدران، حسام فهد، زياد الشوفي، وضاح جمعة وباسم نحلة).
نعم، كتاب علي مزرعاني بما احتواه من صور ومستندات ومقالات لعشرات الإعلاميّين والمحلّلين المحلّيّين والجنوبيّين وعلى مستوى الوطن، للوثائق من بيانات ودعوات ولوحات، للاعتداءات على الثوّار وساحات الثورة وحرق أنصابها وأعلامها ورجمها بالحجارة ومهاجمتها تحت جنح الظلام والجبن، للزيارات التاريخيّة لفنّانين وشعراء وسياسيّين (مرسيل خليفة، شوقي بزيع، أحمد قعبور، شربل روحانا، كريم مروة وغيرهم)، كتاب أرّخ بصدق وموضوعيّة لهذه الحقبة التاريخيّة والزمنيّة التي لم تنجح مقاصدها الثوريّة والشعبيّة بسبب ما تعرّضت له من قمع واعتداءات وملاحقات واتهامات وتخوين وتكسير مارستها زبانيّة السلطة وقوى الأمر الواقع بلا هوادة، لكنّها كوّنت بصدق مرحلة مختلفة في مواجهة السائد من مصادرة الكلمة والساحات والشوارع والمجالس المحلّيّة والوزارات والإدارات، وحفرت ثلماً متّسعاً في بور التعبير وقحله زمناً طويلاً، في الشارع ضدّ كلّ صنوف الفساد ورموزه، حتى لو وصل بعضه إلى السبّ والشتم، وهذا ما لم يكن يجرؤ عليه أحدٌ لسنوات طوال بفعل الهيمنة التي كانت تمارسها قوى الأمر الواقع مدعومة من السلطات الرسميّة والقضائيّة والاقتصاديّة والماليّة وحتى العسكريّة والأمنيّة.
في كتاب علي مزرعاني لن يأتي أحد بعد اليوم ليدّعي أن الثورة لم تحصل أو لم تنجح أو لم تفعل فعلها، بل سيكون سيفاً مسلّطاً على كلّ من خانها ووأدها واعتدى على ثوارها وتحرّكاتهم، إذ أثبتت الأيام أنّ الثورة ومن سار في ركبها كانوا على حق، وأن من خذلها ها هم اليوم تخذلهم ممارسات الحكّام والمصارف بعدما سُرقت أموالهم ورواتبهم وحُجزت مدخّراتهم وأتعاب أعمارهم ولقمة عيشهم وخبزهم، مياههم والكهرباء والمحروقات، وباتوا غرقى في النفايات أقرب إلى الجوعى، في الكاد يلتقطون الأنفاس ليستمروا في انتظار الفرج..
شكراً علي مزرعاني على كتابك التوثيقي التاريخي الثوري. كتاب يُقتنى…