كامل جابر
تلقّيت في مطلع شهر آب/ أغسطس 2021 هدية نادرة مميزة من الصديق الأستاذ خضر ضِيَا، أغنت متحفي البيتي المتواضع بقطعة ثمينة جداً، ألا وهي لوحة تحمل أدوات حجرية استخدمها الإنسان القديم الذي سكن جنوب لبنان منذ آلاف السنين، تتنوع هذه الأدوات بين شفرات ورؤوس رماح ومناشير ومقاشد وفؤوس ومخارز وأزاميل وغيرها من الأدوات الأولى للإنسان، الشاهدة على إدراكه وتطور حرفيته في سبيل حماية حياته والدفاع عن نفسه وتأمين طعامه واستخدام الحجر في تفعيل الحجر، لكي يصبح مادة نافعة، وتطويره من مرحلة إلى مرحلة.
الدخول إلى عالم خضر ضيا في ما يجمعه من أدوات حجريّة وفخّاريّة، هو الدخول إلى أكبر متحف في لبنان، (طبعاً غير معلن) للإنسان القديم ومعدّاته وأدواته الحجريّة، والحديث هنا عن آلاف القطع التي جمعها ضيا على مدى أكثر من أربعين عاماً من ضفاف الأنهار والينابيع وبعض المغاور في منطقتي صور والنبطية، وحافظ عليها بعد فرزها من حيث الأزمنة والأحجام والأنواع، عرض منها مجموعات كبيرة في منزله في كفرجوز النبطية، وفي بيروت، ناهيك عما يخزّنه في قاعة تعود لجمعية هيئة حماية البيئة في النبطية.
أهدَت دراسة مادة التاريخ في الجامعة اللبنانية الطالب خضر ضيا إلى الاثار “التي كنت أهوى جمعها منذ الصغر، إذ كنت أحتفظ بكلّ ما هو قديم من مقتنيات وأدوات الأهل والأجداد. أيام الجامعة، توافرت لديّ الكتب والمراجع والوثائق التاريخيّة، منها من فرنسا، وتحكي بالكلام والصور عن عصور الإنسان الحجريّة وأدواته وسلاحه، ناهيك عن معلّمِي الأستاذ أحمد موسى سعد، الذي لعب دوراً فاعلاً في تنمية هوايتي هذه”.
جعله اهتمامه في أدوات الإنسان القديم، الحجرية، يذهب إلى مواقع وأماكن متوقعة في جنوب لبنان للبحث فيها وعنها “منها عين الوَسَن في قريتي صير الغربية، وضفتا نبع القْصَيِر، البساتين في قاعقاعية الجسر والقنطرة (أرض القَطْعَة) خاصة آل بشارة، وسهل الميذنة في جوار النبع المسمّى باسمه، وبلدة الشرقية والمزرعة فوق مجرى الليطاني”.
ثمة اتصالات عديدة قام بها خضر ضيا مع جهات “رسميّة لكي نقوم بفعل أكّاديميّ قبل تدمير الحضارة والحِرَف. يظنّ البعض أنّ البحث في المغاور هو الدليل على وجود الآثار، هذا غير كافٍ، إنّ جوار الينابيع بعد المطر الغزير وتحلّل التربة عن الحجارة وانجرافها مع السيول يظهر ما هو غير متوقع، طبعاً لمن يعرف هدفه من هذا البحث وعمّا يبحث”.
تنقيب يحتاج جهداً أكاديمياً ومعدات
يعتبر خضر ضيا أنّ البحث الأكّاديميّ واستخدام أجهزة المساحة، هو أسهل الطرق وأهمّها في تحديد المواقع الغنيّة للبحث والتفتيش عن تاريخ الإنسان القديم “إن اعتماد بيولوجيا الكربون المشعّ مع فريق عمل متكامل ودراسة الأبعاد الثلاثية للمواقع، سيفضي حتماً إلى نتائج إيجابيّة، لكن محاولاتنا في انطلاق حملة بحثيّة في جنوب لبنان باءت بالفشل نظراً لعدم توافر المال الكافي لهكذا أبحاث”.
في البحث عن الأدوات الحجريّة في المواقع التاريخيّة قد تجد قطعتين من حقبتين مختلفتين في مكان واحد “ربّما لأهميّة المكان الذي كان الإنسان القديم يلجأ إليه، أو أنه ذاته كان يلتقط في أثناء تجواله أدوات من سبقه وينقلها إلى جوار سكنه وإقامته. قد نجد أدوات تعود إلى 20 أو 300 ألف سنة، وكلّما غصنا في التراب وجدنا أدوات أكثر بدائية، من الحجر الأعمى الذي استخدمه الإنسان القديم، إلى مرحلة تشذيب الحجارة وسنّها، وفي مرحلة متأخرة صار يتقن الحفر. أما في العصر النيوليثي (بالإنجليزية Neolithic) أو ما يعرف بالعصر الحجري الحديث بين 4500 و9000 سنة قبل الميلاد، فاتّجه نحو الحجر والمعدن والأدوات: رؤوس رماح، شفرات، مناشير، مكاشط، مخارز، أزاميل، مثاقب، مغارف، مجارف وفؤوس، وأهمّها الأشولية، نسبة إلى سان أشول شمال فرنسا. (يرجع أصل التسمية إلى حي القديس أشول الموجود بأميان في فرنسا، حيث تمّ العثور لأول مرة على بقايا تعود لهذا العصر في سنة 1859 ويتميز هذا الموقع الأثري بكثافة الآثار من البلط الحجرية التي لها أيدٍ والآلات الحجرية المصقولة كالفؤوس المدببة والبيضاوية التي كان يستعملها الإنسان الأول وبوفرة، أكثر مما وجد في مواقع أولدفاي بشرق أفريقيا)، والتي تتمّ من خلال دراستها مراقبة حركة الإنسان القديم، الذي بدأ من شرق أفريقيا (تميزت الأدوات الحجرية في هذه المرحلة وخصوصاً الفؤوس اليدويّة الحجريّة منها بأشكالها البيضاويّة والحادّة، الشيء الذي ساعد الإنسان بشكل كبير في مواجهة ظروف الحياة البدائيّة والقاسية آنذاك. برزت أول مرة في شرق إفريقيا منذ حوالي 1 مليون و76 سنة واختفت تماماً منذ 130 ألف سنة، حيث عوّضتها الأدوات الموستورية)”.
يعمل ضيا في جمع الآثار منذ العام 1979 ولمّا يزل حتى اليوم، مانحاً هوايته المفضلة الوقت الأكثر والكافي. كان في صدد تأليف كتاب عن مواطن الإنسان القديم في جبا عامل، من خلال زيارة المغاور والكهوف الطبيعية والينابيع الدائمة الجريان والبرك والمستنقعات الطبيعية، بيد أن الظروف المعوقة حالت دون صدور هذا الكتاب.
التنقيب العشوائي يدمر الآثار
يؤكّد خضر ضيا أنّ التفتيش العشوائيّ عن الآثار يسبّب دماراً شاملاً للعديد من المواقع الأثريّة في جنوب لبنان “خصوصاً أنّ البعض لجأ إلى الجرافات في عمليات البحث التجاريّة، على نحو ما جرى في بلدة ياطر الجنوبية، إذ جرى التنقيب العشوائيّ في نقطة كانت مركزاً لرعمسيس الثاني “هناك مناطق غنية جداً في الجنوب، على نحو بلدة الخرايب، يجب أن تتوافر الجهود لإنقاذها والحفاظ على هذه الثروة من الضياع. تواصلنا مع الجامعة اللبنانية وجامعات أخرى، مع المتحف الوطني، مع المديرية العامة للآثار، وزارة السياحة، وكانت الردود بأنه لا توجد إمكانيات، إذ إنّ أقلّ فريق عمل يحتاج إلى أكثر من خمسين ألف دولار”.
في مسيرته الهواية، جمع ضيا آلاف القطع، منها أكثر من 200 قطعة أزاميل وعشرات الفؤوس التي يمكن لها أن تغني متحفاً كاملاً متكاملاً في لبنان “كنت عندما أزور أيّ متحف في دول العالم، أذهب فوراً إلى الجناح الحجريّ، لكي أقارن بين ما هو موجود عندهم، وما هو موجود عندنا، باعتقادي، أنا أملك أكثر ممّا هو موجود في هذه المتاحف”.
لم يجد خضر ضيا جهة محلّية رسميّة أو خاصّة، أو بلدية، تتبنّى فكرته في إنشاء متحف وطني خاص بالمقتنيات الحجريّة في جنوب لبنان، وتحديداً في النبطيّة، قد يكون الأوحد في لبنان، يمكن أن يستفيد منه الباحثون وتلامذة المدارس وطلاب الجامعات. ربّما لو أنّ التكلفة متواضعة لقام بها ضيا على عاتقه الخاص، لكنّ المتحف يحتاج إلى قاعات كبيرة معزّزة بالإضاءة والخزائن الزجاجيّة لتحمي المقتنيات والآثار من الغبار واللمس، وتحميها كذلك من الضياع والدمار، مقتنيات وأدوات تشهد على التطور التقنيّ والفنّيّ والفكريّ للإنسان القديم الذي سكن ربوع جبل عامل، في تلاله وأوديته وقرب مجاري الينابيع والأنهار. وإلى حين تحقيق الحلم، تبقى الأدوات المعروضة في منزل خضر ضيا أجمل متحف للذاكرة الإنسانية في جنوب لبنان.