“يجب إخراج الوسط الأكاديمي من شبكة المؤامرات والمناورات والدسائس “
“وليد المسلم الضمير العاري الذي أحبته القلوب استطاع حتّى التعب أن ينتصر على جرذان المؤامرات والشبكات”
“يا أساتذة ويا طلاب المعهد إتحدوا واعملوا سويّة للنهوض من كبوة عميقة”
أود أن أحدّد موقفي لئلاّ يؤخذ عليّ ما لست أريد . إنني إذ أكتب عن “الوليد” أكتب عن المعهد الموسيقي “الوطني” . أستعرض تاريخاً عارياً من زخرف القول . ولعلكّم بعد ذلك تستشفّون رأيي في الموضوع. غير أني أبحث كالكثيرين عن فكرة التجديد في “معهدنا” المذكور. ولن أدّعي أن الطريق إلى اكتشاف الحقيقة بهذا التجديد ممهّد وسهل وواضح . وعلينا أن نسعى جاهدين نحو الحقائق، متسلحين بالخبرة والمعاناة، ونهتدي إلى مواطن الجمال في الحياة بعد بحث وشك وقلق ومخاطرة. بل وعلينا أن ندرك أيضاً أن الجمال ليس هو هذا الذي نطالعه كل يوم. ومجرّد القبول بالتغيير هو اشتراك في إحداثه .
يجب أن تشعلنا الموسيقى كالقّش وأن لا نكسر الزجاج بل نكسر الماء لنغيّر الوضع. يتبطّن العجز بالأمل لأننا على رجاء . هناك أمل؟ نعم! إنه يشبه المستحيل وإننا نؤمن بهذا المستحيل!
. . .
ليس في الفنون ما هو أرفع من الموسيقى. الموسيقى هي الفن الخالص الوحيد الذي يثير في استمراره وإيقاعه وتموجاته أسمى متعة مجردّة يعرفها العقل البشري. ما نبتغيه من “معهدنا” هو الاستزادة من الوعي وتنمية الحسيّة العاطفيّة والفكريّة، ولهذا الكتابة عندي عمليّة إستغوار وكشف، وبالطبع لا أستطيع استغوار ما لا غور له، ولهذا أكتب اليوم وأقرّ جهراً وعمداً بقيمة ما قدمّته إدارة “وليد مسلّم” طوال السنوات الأربع .
“الوليد” الذي يمقت الادعاء والدجل والكذب والرياء المعشّش في كل شيء.
“الوليد” الذي لم يتغاضَ عن “المحبّة” التي تشمل الحق والجمال والبساطة وكل ما ينتمي إلى هذه العوالم .
في المغامرة وحدها كانت حيويته الفكرية والفلسفيّة والموسيقيّة . ومعاينته على تشجيع إبتكار الآراء والفكرة الجديدة، ولم ينحدر إلى الجمود وفي المغامرة وحدها حيويّة الذهن .
لم يكره شيئاً في إدارته بقدر ما كره الغشّ . سامح كل إنسان أخطأ أمّا إذا غشّه واستغل طيبة قلبه، فإنه لا يغفر له ذلك أبداً . لم يشعر أحد في “المعهد” بأنه مركز الحياة “والله خلقو وكسر القالب” وأن كل ما حوله ليس إلاّ ظلالاً . لأنه يعرف تمام المعرفة أنه لم يبق من أثر أحد إلاّ حقيقة الظلال تتلاعب وتتمازج ثمّ تتلاشى كأنها لم تكن .
الادارة عندنا وبشكل عام كانت من النوع الذي يستهدف خلق ضباب فنّي يتيه العاملين تحت لوائه . وإذا تفحّص ذلك الضباب وجد أنه ليس بأكثر من نفحة حارة على لوح زجاج بارد . يخيّل أن كل واحد يرى فيه صوراً لنفسه . والمصيبة الكبرى بأن كثر قد أتقنوا فن “النفخ” على الزجاج بقصد أو بغير قصد . وتأسست بفعل الزمن الذي وقف على أساليب ملتوية مغمسّة بالعواطف المبهمة في تداعٍ نفساني خاوٍ من المعنى وانطوت كل هذه الامور على مسؤولي “الثقافة” الرسميين والذين لا يفقهون شيئاً من العمليّة الفنية الاكاديميّة الموسيقية .
الادارة هي ضرب من الاعتراف (والاعتراف يريّح النفس من بعض ما يثقلها) وكل ما في الامر أن الاعتراف هو بمثابة خلق فنّي في وصف الحالة بدقتها .
“الزعبرة” الفنيّة تعود إلى أسباب إجتماعيّة واقتصاديّة وفساد مستش في كل شيء .
ليس هناك فنّان حقيقي يلذّ له أن يجعل من ذهنه وعمله مهرّجاً لتلبية كل جاهل حتّى لو علا شأنه ولتضخيم الأنا. . بل يسعى إلى إثارة حساسيّة الناس البليدة ولإنعاش خيالها الراكد .
يظن كثر هنا أنهم أصحاء ولا يدركون عمق هاوية الظلام التي نتخبّط فيها . في مجتمعنا الذي تنقصه الثقافة وتسوده الضروب الرهيبة من الجهل . الجهل الذي يتراءى لصاحبه نوراً .
لقد أدرك الدكتور “وليد مسلّم” أن الحاجات الداخليّة، حاجات الذهن والروح هي أهم ما في الحياة، فاذا أهملها واستمرّ في إهمالها زمناً إلى أن تبدو كأنها ما عادت توجد مطلقاً . فإنه ليرتعب عندما تفاجئه على حين غرّة، وتجعله يحسّ بها احساساً قويّاً وعنيفاً وتطالبه بالعمل المضني على تحقيقها .
وفي هذا المكان الضيّق والفسيح في المعهد الموسيقي “الوطني” حاول جاهداً بأن لا يسمح للذبول بأن يتطرّق الى الاماكن الذي يتغذّى فيها الذهن وينتعش وينمو .
“المعهد الموسيقي الوطني” ومن زمان يعيش في فراغ كثير الضجيج. يحيط به الكثير من النفاق وضياع الجهد . وحالته كحالة رجل ينتظر في محطة قطار تتلاعب الريح فيها في ليالٍ شتائية باردة . معرّض لمجرى الهواء وهو يسمع دوماً جعجعة قطارات تبدو كأنها قادمة، ولكن لا قطار يأتي إلى المحطّة أبداً ومع ذلك كان ينتظر ولم يجد مناصاً من الانتظار إذ ليس لديه ما يفعله سوى الانتظار .
الوسط الموسيقي-ـ الاكاديمي عندنا مسكين طبعاً باستثناء الاستثناءات وما أقلها! يجب إخراج هذا الوسط من الشبكة . شبكة المؤامرات والمناورات والدسائس . الفن لا يستطيع أن يفتح عينه بدون الطهارة والاخلاص . طهارة وكرامة وكبر . لا يصير فن بدونها . لا يتعمّد فنّان أو استاذ او طالب بدونها .
الوسط الموسيقي ـ الاكاديمي . . . !
يجب أن يخرج من الشبكة التي تمتد من الشانتاج الى المصلحة الشخصيّة . عمل الموسيقي طهارة إن لم يستطع ألاّ يكون ألوهة . فهو على الاقل طهارة .
الفنان صالح وليس “بغي” الوسط الموسيقي . . . ؟ آخ !. . .
وهنا اريد أن أقول بين قوسين: (ضقنا ذرعاً بانتاج غثّ ممن كان يروّج لهم، أصحاب الجهل الممتطون بعض الوسائل أو أسماء تضخّم على فراغ).
لم يفتح الدكتور وليد مسلّم عيونه ليرقب غيره . لم يروِ قصص غيره ذمّاً ونميمة، بل تفتحّت أيامه عن الزاهي واللمّاح .
وليد مسلّم مديراً عاماً بالتكليف ولكن بكثير من الاصالة والمطالعة وهذا نادر في مؤسساتنا “الوطنيّة” . الكتاب عنده مرجع الحياة لا بديل له .
التجارب الابتكار التمتّع بالرائد القوي، الدهشة الاعجاب والكتاب يتحدّث عن صخب هذه الاشياء أو تأثيراتها . وكان يستمد من الكتاب عوناً في اختياراته إلى أن إتصف عهده بشيئين مهمين (العمق والحركة) مثال على ذلك: تحقيق إنجاز أعمال المعهد الموسيقي الجديد في الضاحية الشمالية من بيروت بمعيّة جمهورية الصين الشعبية والذي سيتّم إفتتاحه بعد ٣ سنوات من تاريخ اليوم . وكثير من القوانين والدراسات الجامعيّة المعدّة لتحويل المعهد إلى المعهد العالي للموسيقى وتحويل كامل فروعه في المناطق الى مدارس موسيقية إعداديّة .
وليد مسلّم كمجهول قادم من الزهد الفلسفيّ صوب النار خالعاً اقفال المعهد وعزلته يركض كل صباح الى مساءات الهمّ . روحه بيضاء كصحو الارض .
وليد مسلّم وما فيه من الثعالب غير لطافتها. . ولو لم يكن موسيقياً لكان فيلسوفاً . ولقد أثبت بعمله أن الاخلاص ليس بوهم وليست البراءة سراباً وليست الخرافة خرافة والحب ليس الحلم .
لقد تقدّم بشجاعة واطلق على المكر رصاصة الرحمة . لا شأن له بجزء مجتزأ من الحب . فتحه للنهاية كالابواب . لم يكن واعظاً ولكن كلامه كأغصان تتدلّى على المعرفة . وكان مبشراً بالحب والجمال والفلسفة والموسيقى . لقد كان بريئاً براءة العارف بفاجعة ما وصلنا اليه . فحين كان يصمت فاحتراماً للآراء المتناقضة لا تسليماً لها . وحين كان يزهد بميزانية المعهد فعن قوّة لا عن بخل . وحين كان يغضب من الف سبب وسبب فقاعدة غضبه الرحمة . كان صافياً على “هم” وقريباً الى الينابيع الاولى على شمول . قبض على سرّ التناقض ففجرّه كالضوء على قدر ما استطاع . وقف في سنوات إدارته الأربع كالجرح . كان عادلاً وعرف العذاب لأنه كان عذباً وطريّاً كالحنان. . ولم تطوِهِ الخيبة عن حقد في كل ما مرّ عليه من خيبات . كان كبيراً ويحضّ على التواضع ويكبر تواضعه في عالم متخم “بالصواب” كان قادراً وقديراً . وليد المسلّم هذا النحيل الآتي كالقصبة . هذا الموسيقي والفيلسوف الموجع . وهذا الضمير العاري الذي أحبته القلوب . . استطاع حتّى التعب أن ينتصر على جرذان المؤامرات والشبكات . كان همّه الوطن همّه التخطيط والتربية والتعليم .
أعتذر من الذين يستثنون أنفسهم ومن الذين استثنيهم فاني أنساهم وأنا انظر الى القطيع . أنساهم لانهم غائبون .
كثير من الامور والمشاكل ويعجز قاموس الكلمات لتصوير مدى الانحطاط الذوقي والجهل الذي وصلنا اليه . وأعرف سلفاً ما سيقوله أصحاب الذين يعنيهم هذا الكلام ولكن المخلص والصادق والشريف واصحاب الكفاءة يقبلون ذلك .
فيا أساتذة ويا طلاب المعهد إتحدوا واعملوا سويّة للنهوض من كبوة عميقة .
وانا اكتب هذه السطور يستعد وليد المسلّم أن يسلّم الامانة للمدير الجديد الاستاذ بسّام سابا القادم من ثقافة مزدوجة شرقية وغربية في آن .
أسئلة كثيرة للمدير الأصيل- الجديد وأهم من كل الاسئلة أن يكون حرّاً من غير أن يكون مرهوناً لأي جهة طائفيّة أو سياسيّة .
المطلوب إستقطاب تجارب الماضي والحاضر وسماع نداءات المستقبل .
وليد المسلّم شكراً لك
بسام سابا أهلاً بك